هل يؤذن بتحطيم أوثان السلف الصالح اقتداء برسول المسلمين (2)
الجمل ـ بشار بشير: لقد منحنا القدسية لكل ماله علاقة بالدين للأشخاص وللنصوص وحتى لأساليب العمل والبحث، فنحن حتى الآن مصرين على عدم مراجعة أسلوب الإعتماد على السند دون أي تحليل للنص، ومصرين على أزلية هالات القدسية التي تمنح للأشخاص بحيث لا يمكن سحبها منهم مهما ثبت عدم أحقيتهم بها ومصرين على عدم إخضاع النصوص (وأقصد النصوص الإنسانية) لأي مناقشة عقلية وعلمية تغربلها وتفرزها.
كنت أقرأ كتاباً أسمة: بهجة المَجالس وأنس المُجالس لأبن عبد البر، ولفتني حديث نبوي ورد فيه على الشكل التالي (أرجو منكم قراءة أسماء الرواة وعدم تجاوزهم):
أخبرنا عبدالله بن محمد بن يوسف، وأحمد بن عبدالله بن عمر، وخلف بن سعيد بن أحمد، وسعيد بن سيد، ومحمد بن عبدالله بن حكم، وأحمد بن عبدالله بن محمد بن علي، واللفظ لسعيد بن سيد، قالوا: حدثنا محمد بن عمر بن لبانة، وسليمان بن عبد السلام، قالا، حدثنا محمد بن أحمد العتيبي، عن أبي المصعب الزهري، عن عبد العزيز بن أبي حازم، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا بكر بن حماد، قال: حدثنا مسدد: حدثنا أبو عوانة كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) قال: "من قام من مجلسه ثم رجع فهو أحق به" ورواه حماد بن سلمة عن سهيل، بإسناد مثله. وأول ما خطر ببالي هو نفس ما خطر ببالكم هل يحتاج إيراد هذا الحديث المؤلف من خمس كلمات واريع أحرف لذكر كل هؤلاء الرواة، وهل كثرتهم تزيد في صحة الحديث أو هل تزيد في موثوقية حكمه وهل لو كانوا أقل لقلت هيبة الحديث (حاشاه) و لتقاعس العمل على تطبيق حكمه. وكيف لنا أن نثق بعد تداول الحديث بين كل هؤلاء الأشخاص أنه وصلنا بدقة فعلاً. ثم أن هناك دراسة (لم تنشر) قام بها الباحث المرحوم برهان بخاري أثبت فيها أن خلطاً كبيراً قد وقع في موضوع الرواة فكثيرون ممن رووا عن بعض لم يلتقوأ أصلاً مع بعض إما لأنهم عاشوا في منطقتين متباعدتين أو لأن السابق قد توفي قبل ولادة اللاحق. ثم هناك المعضلة الكبرى التي تحدث فيها وعنها الكثيرون ولم يتم إتخاذ قرار فيها حتى الآن وهي: ماذا عن الذين أُخذ الحديث عنهم، أبو هريرة مثلاً الذي لا يعرف حتى الآن أسمه على وجه اليقين، والذي لا يتفوق على لقبه الأول أبو هريرة إلا لقبه الثاني وهو شيخ المضيرة، والمضيرة أكلة شامية هي لحم مطبوخ باللبن (أصبح أسمها شاكرية الآن) يحبها أبو هريرة جداً. ابو هريرة صاحَب الرسول على الأثبت تاريخياً لمدة سنة وتسع أشهر فقط (فهو من المتأخرين بالإسلام وقد أسلم بعد فتح خيبر) وقد روى عن الرسول على ما أحصاه البعض 5374 حديثاً وهناك من يقول بأكثر من هذا الرقم بكثير. وللمقارنة فإن ابوبكر وعمر و عثمان وعلي، وهم من هم، قد رووا مجتمعين عن الرسول: ثلاثمئة وثمانية وثمانون حديثاً.
وفي صحيح البخاري صفحة 1039 كتاب الجهاد حديث رقم 2669 قاله أبو عثمان عن سعد. حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا حاتم، عن محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد قال: صحبت طلحة بن عبيد الله، وسعداً والمقداد بن الأسود، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فما سمعت أحداً منهم يحدث عن رسول الله (ص)، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أُحد.
أليست هذه مفارقة تستحق إعادة النظر، أن بعضاً من كبار الصحابة لم يرووا عن الرسول (ص) حديثاً واحداً بينما روى بعض المتأخرين بالإسلام آلاف الأحاديث. ومثال مفارقة أيضاً لابد من ذكرها وتخص عبدالله بن عمر (رضي الله عنهما). فعندما جُمع القرآن على عهد أبو بكر (ر) احتفظ هو بنسخة المصحف حتى وفاته، ثم كانت مع عمر (ر) حتى طعنه أبو لؤلؤة (لعنه الله) فوصى بأن تُحفظ نسخة المصحف مع أبنته حفصة (ر) أليس ممن المستغرب ألا يو صي بحفظها مع حبر الأمة أبنه وهل استثنى ابنه لأنه كان على خلاف معه بسبب فتواه بمنع النساء عن المساجد فزجره عمر (ر) وقال: كيف تمنعون إماء الله مساجد الله. أم أنه كان لا يثق به لأنه كان أحد اثنين فروا من الغزو والجهاد في سبيل الله وذلك في غزوة مؤته والثاني هو سلمة بن هشام بن العاص
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هشام: وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ومع المسلمين ؟ قالت والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته فما يخرج.
ومن كتاب السيرة النبوية لأبن كثير متحدثاً عن غزوة مؤته : "... أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وهو على المنبر في قوله: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه، فما كان المسلمون ليسمونهم فُرارا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما، وإنما كان التأنيب وحثى التراب للذين فروا وتركوهم هنالك، وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضى الله عنهما... ".
مثال آخر أود ذكره هنا وهو شكل الحكم في الإسلام وكيفية تداول الحكم، ففي النقلات الست الأولى للحكم بعد الرسول (ص) كان هناك ستة أسس مختلفة أاعتمد عليها لإثبات الأحقية بالحكم:
الأولى إعتماداً على القرآن الكريم لتمكين أبوبكر (ر) عندما قيل للناس هو ثاني اثنين كما ورد في الآية الكريمة والثانية إعتماداً على كتاب مختوم كما فعل أبو بكر (ر) لتولية عمر (ر) من بعده.
والثالثة بالتوصية بثلاثة رجال ليختار المسلمون من بينهم كما فعل عمر (ر) ففاز من الثلاثة عثمان (ر) والرابعة بالبيعة التي ثبتتها الحرب، كما اضطرعلي (ك) أن يفعل.
والخامسة بالحرب والحيلة كما فعل معاوية (ر).
والسادسة بالتوريث عندما ورِث يزيد الحكم عن أبيه معاوية.
ما أفهمه من هذه الأمثلة أن سلفنا كان يتصرف حسب ظروفه ومعطيات الحياة والمجتمع في زمنه، أما نحن فنريد أن نتصرف حسب ظروفهم وحسب معطيات حياة ومجتمع قد انقضوا منذ قرون من الزمن.
لقد كنا ومازلنا نقبل كل مانجده في تاريخنا دون مناقشته عقلياً ومنطقياً ودون تبويبه بحيث نفرز جيده عن سيئه فالشخص الواحد والتجربة الواحدة قد يوجد فيهم الحسن الذي يؤخذ به والخطأ الذي يجب أن ينبذ. واليوم بعد أن شاهدنا ولمسنا وعشنا (وبعضنا مات) نتائج تسليم عقلنا للتاريخ الذي منحناه بأكمله القدسية دون تمحيص ودون أن نفهم بأن التاريخ منصة تحملنا وليس غطاءً يخيم علينا،حصحص الزمن لإجراء مراجعة جريئة لتاريخنا وإلا فإن الأشباح الخارجة منه و المتسلحة بما يناسبها من أخطائه التي لازالوا ولا زلنا نعتبرها مقدسة سيعاودون بدون كلل تدمير حاضرنا و طرد مستقبلنا.
في محكم التنزيل سورة الزخرف 22: بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على إثرهم مهتدون.
الإسلام أراد أن يجعل إمامنا عقلنا لا أجدادنا ففعلنا عكس مايريد. الإسلام لم يحطم الأصنام خوفاً منها وإنما للقضاء على الخرافة وعلى الأفكار الخاطئة والدليل أنه أبقى على الحج بشكل قريب جداً لما كان يحصل قبل الإسلام، أي أنه غربل التاريخ فأخذ جيده ونبذ سيئه، وهذه الأسوة الإسلامية الحسنة التي يجب أن نأخذ بها.
الجمل
إضافة تعليق جديد