الأطلس التاريخي للعالم الإسلامي
صدر الأطلس التاريخي للعالم الإسلامي لماليز روثتن عام 2004، وكان من محاسن المصادفات أنه تُرجم ترجمةً مُتقنةً الى العربية وصدر عام 2006. وهو يضمُّ أمرين متوازيين ومتوازنَين: التطورات التاريخية من جهة، وإرفاق ذلك بالخرائط الدقيقة والمضيئة للحدث وللتاريخ وللواقع. هذا فضلاً عن الموضوعات والملفات التي يُسارع المؤلف الى عرضها استيفاءً للراهنية، وايضاحاً لما يشغل بال المسلمين والعالم، أو المسلمين من خلال العيش في هذا العالم.
يبدأ الأطلس بمقدمة عامة مرفقة بخريطة للعالم صنعها الإدريسي في القرن الثاني عشر الميلادي. في المقدمة أراد المؤلّف نقض الأوهام التي تدور أو تزدهر فيما يتصلُ بالإسلام. اذ هناك أشكالٌ صراعيةٌ من الوعي بالإسلام في الغرب اليوم. وهي قد ظهرت في الأغلب بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والصبغة العنيفة التي أضفتها تلك الأحداث على الإسلام. أما الفصل الأول فيعرضُ الجغرافية الطبيعية للعالم الإسلامي. وهو يقصدُ بالجغرافية الطبيعية المناطق التاريخية لانتشار الإسلام، ومآلاتها ومآلاته من الناحية الجيوسياسية اليوم. وبعد أن يقصُّ القصة الجغرافية التوسعية للإسلام ديناً وثقافةً وشعوباً، يعود وبسرعة لمناقشة ما عُرف بطبائع الإسلام:» وهل يفضّل الحياة الحضرية أو البدوية؟ وأي البلاد انتشر فيها وسيطر، الساحلية أم الجبلية أم الصحراوية، ولماذا في قارتي آسيا وأفريقيا، وبدرجة رئيسة؟ وما عرضه المؤلّف لا يُحلّ هذه القضايا والمشكلات طبعاً، لكنه والحقُ يُقالُ يفتح أُفقاً لفهمٍ آخر لانتماء المسلمين وعيشهم وانفتاحهم، ومع العالم وليس ضده أو في مواجهته. فقد كانت قوة الإسلام دائماً ذاتيةً نتيجةَ الثقة بالنفس والمشاركة مع الآخر. لكن مع بدء فقد المسلمين سيطرتهم على الكثير من أرضهم ومقدراتهم، داخل الارتباك المثقف، الذي ما عاد مقتنعاً بالتقليد الذي لا يحمي، كما أنه غير مقتنعٍ بنبذ الدين! وبحسب الخرائط فقد قسّم المؤلّف عهود انتشار الإسلام وامتداده الى أربعة: الفتوحات الأولى (بلاد الشام ومصر)، فالعصر الذهبي (من القرن التاسع الميلادي الى آخر القرن الحادي عشر)، فالعصر العربي بدأ التآكل فيه، ثم العصر الحاضر. وقد طال «العصر الحاضر» من مطالع القرن التاسع عشر، الى أواسط القرن العشرين باعتبار أنه كان وما يزال عصر الاستعمار والهيمنة.
في رسالة النبي ومغازيه، يفتتح المؤلف فصله الثاني. ويتضمن الكلام المُصاحب للخرائط سيرةً موجزةً للرسول، ومعنى الهجرة وأهميتها، وبناء دولة المدينة، والمعارك الحربية التي يسميها كُتّاب «السيرة مغازي أو غزوات. وهذا الفصل متوسط في الأهمية. أما النص الرائع فهو المنشور في الفصل الثالث في عنوان: توسع الإسلام حتى العام 750م. وهو يقصد بذلك التاريخ اكتمال فتح الأندلس من جهة، والمعركة التي جرت مع الصينيين في أقصى المشرق، وتعلموا فيها من الصينيين صناعة الورق. وينقلنا المؤلِّف بعد ذلك نقلةً واسعةً حينما يدرس انتشار الإسلام بين 751 و 1700م. ففي ذلك العام (1700) كان المسلمون قد انحسروا عن بعض المناطق مثل الأندلس وبعض أنحاء أوروبا، وبعض البحار لصالح البرتغاليين والهولنديين. لكنهم كانوا بالإضافة الى آسيا وأفريقيا، كانوا قد أخذوا بواسطة العثمانيين البلقان وأجزاء من وسط أوروبا وشرقها. وفي العام 1683م حاولوا للمرة الأخيرة الاستيلاء على فيينا. لكن منذ العام 1700 والى أواسط القرن العشرين حدث ذلك الافتراق الكبير بين انحسار السيطرة السياسية الإسلامية لمصلحة الاستعمار الأوروبي في مناطق كثيرة، في حين ما انحسر المسلمون أو ما انحسر امتدادُ الإسلام بالقدر نفسه.
وقد انصرف المؤلّف في فصولٍ متتاليةٍ لقراءة التطورات داخل الإسلام: درس في فصلٍ متوسّط الطول والانقسامات الإسلامية: الشيعة والسنّة والخوارج، محدّداً القسمات العقدية، ومناطق الانتشار حتى العام 1000م، وقد رأى أن يضع معالم للازدهار، فخصص فقرةً للخلافة العباسية في عصر هارون الرشيد (والمأمون ابنه). وتعرض المؤلّف للمذاهب الفقهية الإسلامية من جهة، وللغة العربية من جهةٍ ثانية. فالمذاهب تمثّل تطوراً اجتماعياً وثقافياً. أما اللغة فتمتد امتداد الحضارة فحتى انحسار السيطرة العربية داخل دار الإسلام، ما أدّى الى تراجع العربية لغةً للثقافة وللإدارة. ومع ذلك، فإنه عندما كانت العربية تبلغ الذروة في الانتشار والتأثير، كانت الشعوب التركية بأمرائها وسلاطينها تمد سيطرتها على سائر ديار الإسلام تقريباً. وبقي الأمر على هذا النحو الى مطلع القرن العشرين: جاء السلاجقة بعد الغزنويين والسامانيين، وانشغل المؤلّف ببيان التنظيمات العسكرية عندهم وصولاً الى الانكشارية العثمانية. وما نسي المؤلّف الفاطميين والأيوبيين الذين سيطروا قبل السلاجقة في مصر والشام، وكافحوا الصليبيين، الى أن جاء المماليك الأتراك فأخرجوا الصليبيين نهائياً وردّوا المغول عن مناطق غرب الفرات. وكان من الطبيعي وسط حركة الشعوب الزاخرة هذه أن يعقد المؤلف فصلاً عن طُرُق التجارة وآخر عن الممالك الصليبية، وثالث عن الطرق الصوفية حتى مطلع القرن العشرين.
تميز الانحسار عن الأندلس بأنه في السلطان والسكان (1492م). وعانى المغرب الإسلامي من ضياع الأندلس، وفقد بعض سواحله لكنه لم يسقط. وبرزت جاذبية الإسلام بجلاءٍ ووضوحٍ بعد القرن الخامس عشر في أفريقيا غرب الصحراء الكبرى، وفي شرق آسيا القصيّ. وما نال الانحسارُ من الدور الإسلامي الكبير في تجارة المحيط الهندي، وفي تحويله الى بيئة للتبادل السلَعي والتجاري والثقافي والديني حتى القرن السادس عشر حين سيطر عليه البرتغاليون بقوة السلاح، وصار بيئة صراعٍ بين القوى الاستعمارية الأوروبية المختلفة. ويتأمل الكاتب الدولة العثمانية في فصلين، الأول حتى العام 1650، والثاني حتى سقوط الخلافة والسلطنة (1924). ويعقد الكاتب فصلاً طويلاً للهوية الإيرانية المتميزة، والتي بدت معالمها مع الصفويين حوالى العام 1500، لكنه يتابع التطورات هناك بإيجازٍ شديدٍ حتى العام 2000، ولذلك فإنه لا ينسى آسيا الوسطى والقوقاز في تطورهما حتى العام 1700، وكذلك الهند (711 – 1971)، ثم يعودُ الى التوسع الروسي في ما وراء القوقاز وآسيا الوسطى، والى انتشار الإسلام في جنوب شرقي آسيا (1500 - 1800)، فظهور الإمبراطوريات الاستعمارية: البريطانية والفرنسية والهولندية والروسية، أدخل تغييرات جذرية على العالم الإسلامي على رغم وجود الدولة العثمانية التي بلغت ذروة المجد العسكري والإداري والسياسي، ثم انحطت تدريجاً الى أن سقطت بالهزيمة في الحرب الأولى. ولهذا يعقد الكاتب فصلاً مباشراً بعد السقوط العثماني لتحديث تركيا.
ولستُ أدري السبب الذي دفع المؤلّف الى العودة الى المشرق 1500 – 2000، والى مشاهير الرحّالة المسلمين من ابن جبير الى ابن بطوطة وما بعد. لكن على أي حال يخلط الحديث عن بريطانيا وامبراطوريتها بالحديث عن تطوير مشاعر الحج، وتجدد معاني تلك الفريضة، والامتدادات الحضارية للمدن الإسلامية، ووقع النفط في القرن العشرين، وجنوب شرقي آسيا 1950 – 2000، والجزيرة العربية والخليج 1839 – 1950، وصعود الدولة السعودية. ثم يختم الأطلس بموضوعاتٍ نوعيةٍ قديمةٍ ومعاصرة مثل المشكلة الفلسطينية، والفنون الإسلامية، والتراث المعماري، والمسلمين في أوروبا الغربية، وفي أميركا الشمالية، وأبرز المواقع المعمارية التراثية الباقية في العالم الإسلامي اليوم.
في العالم الإسلامي اليوم، وفي المهاجر، حوالى المليار والثلاثمئة مليون مسلم. والمناطق التي سادوا فيها تاريخياً وحاضراً من أهمّ مناطق العالم من الناحية الاستراتيجية. ولا شكَّ أن الاهتمام الذي يحظَون به اليوم، لا يعود الى الأسباب الملائمة، بل لما يُعرف بالتطرف والإرهاب. لكن التجربة التاريخية لهذا الدين العريق تثبت في نظر المؤلّف أن للإسلام والمسلمين مستقبلاً يستحيل نسيانه أو تجاهله أو الخطأ في فهمه. وعندما يُنهي المؤلّف الأطلس بجدولٍ زمنيٍ للأحداث منذ أيام الرسول (ص)، تكونُ صورة رائعةٌ قد تكونت عن هذه الحضارة، وعن أولئك الناس الذين ينتمون اليها. انه كتابٌ يستحقُّ المطالعة والتقدير. وقد حظي بترجمة جيدة وفاهمة.
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد