المجتمع المدني في العالم الإسلامي
الدراسات المجموعة في هذا الكتاب، هي نتاج أعمال مؤتمر أقامه معهد الدراسات الإسماعيلية بلندن عام 2002، وتُرجمت الى العربية في العام 2006 (دار الساقي/ بيروت). وهي مثيرة للاهتمام لأنها تدور في معظمها حول مجتمعات آسيا الوسطى في ما بعد الحقبة السوفياتية (1990 – 2002). والأمر الآخر انها تُعطي للمجتمع المدني مفهوماً واسعاً يتناول كل أشكال التنظيم، ونشاطات الفئات الاجتماعية ومجالاتها، والعلائق بالسلطات المركزية.
يَغلبُ على هذه الدراسات الطابع الوصفي والميداني. ولهذه الجهة يمتلئ الكتاب بالشكوى من الجمود والتطور البطيء لمجتمعات دول آسيا الوسطى في العقدين الأخيرين، واستمرار البنى السوفياتية السياسية والاجتماعية فيها على رغم سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال بناه في روسيا نفسها منذ عقد ونصف العقد، لكن الكتاب يتضمن أربع مقالات نظرية كتب اثنتين منها ناشرُ الكتاب (أمين صاجو)، بينما كتب المقالات الثلاث الأخرى كل من محمد أركون وعزيز اسماعيل، وأوليفييه روا. بدأ الأستاذ امين صاجو مقالته التمهيدية بالتساؤل القديم/ الجديد عن وجود مجتمعات مدنية في السياق الإسلامي. وقد عاد لاستعراض تعريفات «المجتمع المدني» والاختلافات حولها في تأملات الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين وفلاسفة التاريخ. وقد كان الهدفُ من وراء ذلك التوصل الى ان السياقات الإسلامية عرفت وتعرفُ «المجتمع المدني» لأنها مجتمعات إنسانية وسياسية تنتظم في دول وسلطات، ولأنها جميعاً واقعة ومنذ اكثر من قرن تحت وطأة الحداثة. ولبلوغ هذين الهدفين التعليليين في الوقت نفسه استشهد الكاتبُ بأبحاث شيلز وكين وتايلور وأندرسون في ما يتعلق بمفاهيم المجتمع المدني التي تضعه في مواجهة الدولة، كما استشهد بها برماس في ما يتعلقُ بمفهوم الحداثة وعلائقها بالمجال العام. بيد ان دراسته الطويلة الأخرى تأتي مفاجئة وبعنوان: «الأخلاق في المدينة»، لكنه لا يتعرض فيها للمدنية لا بالمفهوم اليوناني ولا بالمفهوم الإسلامي الوسيط، بل يرتبط الأمر لديه بما يمكن اعتباره المدنية أو الحضارة أو الأخلاق المدنية، ثم بالعلاقة بين الديني والمدني أو الديني والدنيوي في المجتمعات الغربية والأخرى الإسلامية. ويقوم الأمر بحسب الكاتب على الفصل في الليبراليات الغربية بين الصحيح والجيد أو الحسن أو الفاضل، في الحياتين الاجتماعية والسياسية، فكما أوضح كل من أشعيا برلين وكارل بوبر: كلما كانت الدولة ملتزمة بالحد الأدنى من الحريات السلبية (التحرر من الاستغلال، واحترام قدسية الفرد وخياراته)، عظُمت إمكانات بلوغ أكبر عدد من الأهداف المتنوعة التي يرغب الأفراد وترغب المجتمعات في تحقيقها. وهكذا تكون «الثقافة المدنية» بحسب إرنست غلز هي مجال تفتُّح إنسانية الإنسان، وهي مسوّغ الاختيار بين الفردانية التي تؤمن بالمساواة، وتتماسك في مقابل الدولة، او الممانعة في إطار القرابة والدين والقبيلة. وفي حالة المجتمعات الإسلامية: الاختيار بين الروابط التقليدية للأمة والروابط العلمانية للحداثة المدنية التعددية. ويلاحظ أمين صاجو ان كتابات المسلمين في الأخلاق بدأت بعد ترجمة كتاب أرسطو: الأخلاق الى نيقوماخوس، وهي وإن تكن تتغذى من حُلُم السعادة، لكنها سعادة مدنية، بينما هي ترتبط في أخلاد المسلمين بالفضائل الدينية. والكاتب يرى ان المفهوم الليبرالي الغربي للأخلاق المدنية، لا يتنافى مع كلاسيكيات الإسلام أو حداثياته، إلا إذا جرى فرضُ علمانية راديكالية تُبعد المبادئ الأخلاقية الاجتماعية عن المجال العام، وهذا الرأي يصلُ إليه محمد أركون في مقالته بعنوان: «موقع المجتمع المدني في السياقات الإسلامية». إنما المشكلة في تصور أركون تكمن في ذلك الفصل القاطع بين الأخلاق المدنية (والمجتمع المدني بالتالي)، والأخلاق الدينية. وهنا ينصرف أركون الى توصيف الثورة التي يجبُ ان تحدُث وتعيد وصل المدني والديني بطريقة صحيحة أو سليمة. وقد نبّه عزيز اسماعيل في مقالته بعنوان: «الذات، المجتمع، المدنية، الإسلام»، الى ان الخطورة في مواجهة مسألة المجتمع المدني في السياق الإسلامي، إنما تكمن في نقد المقولة نفسها اليوم انطلاقاً من المبادئ والنماذج الكلاسيكية. ذلك ان في الأمر مفارقة لا تستقيم المسألةُ معها، كما انها تُخضع الإشكالية لقالب جامد يستحيل معه التفكير في «رؤية العالم» الحاضر وقضاياه وتحدياته والتي يوجهها الإسلام ايضاً.
تبدأُ المحاضراتُ الوصفية أو الميدانية بدراسة زيبامير- حسيني، الباحثة النسوية الإيرانية المعروفة عن «الدعوة الى مساواة الجنسين والمجال العام في إيران ما بعد الثورة». وتتخذ السيدة حسيني خطين متوازيين لمعالجة موضوعها: رئاسة خاتمي في الزمان، والصحف والمجلات ذات الصبغة النسوية وما تتعرض له في المكان. وترى حسيني ان شعار «المجتمع المدني» اختير للتلطيف من حدة جوهر المطالبة بالمساواة وبالديموقراطية، وقد كان المقصود به لدى الليبراليين غير ما قصده خاتمي به. الليبراليون عنوا به مجتمعاً غير ديني، وخاتمي عنى إمكانية التوفيق والملاءمة بين الأمرين. ذكرت الكاتبة الصحيفة اليومية النسائية التي أصدرتها فائزة هاشمي باسم «المرأة» عام 1998، وأُقفلت عام 1999، ثم تطيل في عرض مسار مجلة (رسالة هاجر) والتي صدرت عام 1980، لكنها صارت أكثر أهمية في التسعينات بقيادة رئيسة تحريرها السيدة طالقاني، ابنة آية الله المشهور بهذا الاسم. والسيدة طالقاني محافِظة، لكنها تركّز على قيم المساواة والعدالة التي ينبغي ان تسود بين الجنسين. ثم تدرس مسار مجلة (النداء) التي صدرت عام 1987 وترأس تحريرها زهرة مصطفوي، ابنة الإمام الخميني، وتحررها حفيدته فرشته. وكما ان هاتين المجلتين إصلاحيتان وذواتا إسهام بارز، كذلك المجلة المسماة زنان (النساء)، والتي شاركت بالكتابة والنشاط في حملات خاتمي الانتخابية. ثم تعرض حسيني وجهات النظر الأخرى من خلال مجلات وصحف غير إصلاحية. أما أوليفييه روا فيقرأ الموروثات السوفياتية في دول آسيا الوسطى، وكيف انه لا يمكن التخلص منها إلا بالمساعدة الغربية. وهو يقصد بجمهوريات آسيا الوسطى كلاً من: أذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان. ويتحدث الكاتب عن ثلاثة تصورات للمجتمع المدني: التصور الذي يدرس في نطاق المجتمع المدني: الجمعيات المهنية والنقابات والاتحادات والأحزاب السياسية ومجموعات الضغوط والمصالح. والتصور الثاني: شبكات التضامن التقليدي مثل القرابة والرعاية والتحالف، والتي تسمح بمقاومة ظلم الدولة أو تعوّض عن ضعفها وفسادها. والتصور الثالث: التسليم بوجود مجتمع مدني ديني، تعيش فيه أمة المؤمنين المتحدرين بحسب تعاليم دينها، ووفقاً للقيم والأخلاق المتعارف عليها. وأكبر دعاة هذا التصور كل من الرئيس محمد خاتمي، والمفكر عبدالكريم سروش. ويعتبر هؤلاء ذلك ممكناً بالمقارنة مع البروتستانت الذين أنشأوا مجتمعات حرة في الولايات المتحدة. والكاتب يدرس مجتمعات الجمهوريات الست بناء على هذه التصورات في قراءة نقدية هادئة وعميقة. اما شيرين أكيز فقد كتبت عن إرهاصات المجتمع المدني في طاجكستان، شاكية من ان شيئاً كبيراً لم يحصل منذ العهد السوفياتي، والحراك ضئيل، لكنه اصبح ملموساً. وكاير داروف الذي تحدث عن التدين والثقافة المدنية في أذربيجان. والكاتب أكثر تشاؤماً من سابقه أو سابقيه. وبخاصة ان الدولتين عانتا وتعانيان من موروثات الحقبة السابقة، لكن ايضاً لأن الأوضاع شديدة الصعوبة، وتتطلب أكبر قدر ممكن من الصبر والانفتاح. وفي حين تعرضت اذربيجان لحرب ضربت قدراتها ايضاً، فإن طاجكستان قام فيها تمرد كثرت ضحاياه. وهكذا فهناك ثلاث علل رئيسة في مجتمعات ودول آسيا الوسطى: الاستبداد السياسي الذي يصل احياناً الى حدود الطغيان، وضآلة النشاطات التنموية، وتزايد التشنُّج بين الدين والدولة وبخاصة في منطقة فرغانة التي تتقاطع فيها ثلاث دول. والمعروف انه بعد أحداث ايلول (سبتمبر)، فإن الولايات المتحدة دخلت عاملاً فاعلاً ايضاً وصارت لها قواعد، وما عاد الإقليم مركز استقطاب روسي فقط. ثم انه يكون علينا ان نحسب حساباً مهماً لكل من الصين وإيران وتركيا وإن اختلفت الاهتمامات، والصراع على تلك المنطقة الشاسعة بين الامبراطوريات الكبرى قديماً وحديثاً، هو صراع على الموارد والمديات الاستراتيجية. بيد ان العامل الرئيسي في وضعها الحالي لا يزال داخلياً بعد الحقبة السوفياتية التي استمرت سبعين عاماً.
ويختم صاجو ناشر الكتاب مجموعة الدراسات هذه بثلاث مقالات عن دول خارج آسيا الوسطى وهي، أرسين كلايشيوغلو: الدولة والمجتمع المدني في تركيا، وافتخار مالك: بين سياسة الهوية والشمولية في باكستان، وعبده الفيلالي الأنصاري: الدولة والمجتمع المدني والمعتقد الإيماني، تأملات في الحالة المغربية. والمقالة عن تركيا عادية، فهي تُحصي الجمعيات المرخّص لها، وتقسّمها الى أنواع ثم تدرس نشاطات كل منها وعلائقها بالدولة. بيد ان المقالتين عن باكستان والمغرب طريفتان، إذ ان الأولى تدرس علاقة التوتر بين الحكم الشمولي في البلاد والخصوصيات الإثنية. في حين يحاول الأنصاري قراءة تطورات علائق الدين بالدولة في المجال المغربي. والحقيقة ان المسألة الدينية ما جرى علاجُها او التعرض لها في سائر أجزاء الكتاب في شكل شاف. بينما هي شديدةُ الأهمية، ولها مستقبلٌ حافلٌ بأسباب القلق. وقد لا تقتصر أسبابُ الثوران على الحكم الاستبدادي، أو الافتقار للتنمية كما في أفغانستان.
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد