سعاد جروس تكتب عن دور الجثة
الجمل- سعاد جروس: نظرية المؤامرة تشبه التسليم بالغيبيات، هذا في مدى في حاجتنا إليها هذه الأيام، فالمؤامرة باتت ضرورية لتفسير تزامن ظهور أشرطة زعماء القاعدة مع كل تمهيد لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لاتخاذ قرار جديد ينطوي على "تضحيات صعبة" حسب المعايير الأمريكية الصرفة. ولا شك أن إقناع الشعب الأمريكي ببذل المزيد من التضحيات، أي الأموال بالدرجة الأولى ومن ثم الجنود، يتطلب تذكيرهم بأن الهدف من الحرب هو القضاء على "الإرهاب" المرموز إليه بـ"القاعدة"، وبما أنها ماتزال حية ترزق بدليل زعمائها الذين يطلون على الشاشات في الأوقات الحرجة. إذاً النضال البوشي ضدها سيستمر ويستمر ويستمر مع فواصل منوعات ترفيهية لا تخلو من مسابقات تنافسية جهنمية لتحمية وطيس الكفاح الأمريكي.
ففي الوقت الذي يتوقع فيه أن يفكر بوش جدياً بتوصيات لجنة بيكر ـ هاملتون، لإيجاد حل للتورط الأمريكي، ووضع جدولة لانسحاب القوات من العراق، مع مطالبة االعراقيين بالتعجيل به، يتحدث بوش عن إرسال المزيد من القوات الى العراق!! ما يعني أن المعركة ستتعمق وتشتد وتتوسع، فالعسكريون أكدوا له "أننا لا نخسر ولا نكسب"، والمشكلة أن بوش مصر على كسب الحرب حتى لو دمر منطقة الشرق الأوسط عن بكرة أبيها، تارة بوهم الحرب على الإرهاب، وأخرى بزعم التخلص من الأنظمة الديكتاتورية ونشر الديموقراطية، مستبيحاً المنطقة كحقل تجارب لنظريات التوسع الأمبرطوري، وليس على الشعوب إلا دفع دمائها وأمان استقرارها ثمناً للتمتع بمواسم سياسة إدارة أمريكية تشتعل وتخبو وتنطفئ كشجرة الميلاد مع الفارق، أن شجرة الميلاد تبعث على الحبور بينما السياسة الأمريكية تدفع الى الجنون وبالأخص هذه الأيام.
فعندما وطأت قوات الاحتلال أرض بغداد أعلن الحاكم العسكري بريمر أن البعثيين ورم خبيث لازم استئصاله، وجرى ما جرى وحل أقوى جيش عربي مكون من 400 ألف عسكري، رغم تهديد الضباط حينذاك بالتحول الى المقاومة المسلحة، ونفذوا ما وعدوا به، وتكرس خلال أربع سنوات واقع جديد لا يجدي معه الرجوع عن قرار حل الجيش، كما ارتأى مؤتمر المصالحة العراقي مؤخراً. كذلك وبالتوازي مع حل الجيش، شكل الزعيم مقتدى الصدر تحدياً للاحتلال، ولم يكن حينها قد شكل جيشه بعد، وتمت محاصرته حتى الرمق الأخير، وحين أعلن عن تشكيله جيش المهدي ترك لشأنه مع فك الحصار. الآن بعد أن قويت شوكة جيشه الى درجة فقد فيها زعيمه السيطرة عليه، عادت الإدارة البوشية إلى القول أن التحدي الأكبر هو جيش المهدي، وربما ستعلن الحرب عليه كما أعلنتها على البعثيين من قبله، تمديداً لمعاناة العراق الى أجل غير مسمى ..
حتى محاكمة الرئيس صدام حسين والتي لم يبق غيرها كمنديل ديموقراطي هش لمسح الوخم الأمريكي، هناك اقتراحات يدرسها بوش لإيجاد مخرج للورطة العشائرية المترتبة على المحاكمة وما ينجم عنها من أعمال انتقامية عقب كل جلسة. ولا نشك أن الاقتراحات المقدمة تبقى مجرد اقتراحات، إذا لم تتوافق مع رؤية إدارته مع استراتيجية المشروع الأمريكي، والتي من الصعوبة بمكان التنبؤ بالحلول التي ستلجأ إليها لمعالجة المضاعفات الجانبية التدميرية لها في المنطقة، فحين يزداد التفاؤل بـ "عودة الأمريكي الى رشده" والتحاور مع دول جوار العراق، يتم تسريع قرار فرض العقوبات على إيران مشفوعاً بنيات أمريكية لزيادة القوات في العراق، مع طواف بريطاني لتوني بلير في الخليج العربي والإعلان أن ايران تزعزع الاستقرار!! دون تجاهل الموسيقا التصويرية الإسرائيلية التصعيدية المرافقة للمشهد، ومعزوفة الحرب والمفاوضات مع سوريا.
ترى كيف نفهم، هل نحن على أبواب مرحلة حوار أم مرحلة لتوسيع رقعة الحرب والخراب؟ الطامة الكبرى إذا كان الاحتمالان قائمان معاً، ويصبح الحوار جائزة ترضية لشعوب المنطقة لتشريع استمرار الحرب، كما سبق وجرى عندما قدم وعد الديموقراطية مكافأة على القبول باسقاط نظام صدام حسين، ونحت نموذج للتغيير، وكانت النتيجة أن العراق لم يربح الديموقراطية وخسر الاستقرار، والتغيير الذي حدث لم يصلح للنمذجة والتصدير.
المفارقة أن الديموقراطية التي بشر بها الأمريكيون، رُدت الى نحرهم في الانتخابات الفلسطينية باختيار حماس، واعتصام المعارضة في لبنان الذي نسف مصداقية الثورات المخملية التي طرزتها أمريكا في دول أوروبا الشرقية، وزعمت صلاحيتها للتصدير الى المنطقة العربية عبر "ثورة الأرز" في لبنان و"الثورة البنفسيجية" في العراق، فأثبت اعتصام المعارضة اللبنانية كما حكومة حماس أن تلك الثورات لم تكن أكثر من ضحك على شباب هم وقودها، ومن ثم رميهم مع النفايات السياسية بعد استخدامهم. طبعاً ليس قبل تقويض أحلامهم البريئة النظيفة بالتغيير والديموقراطية.
المؤلم انقسام مواقف العرب تجاه أمريكا، مع أو ضد، بما ينسجم مع مقولة بوش التي افتتح بها حقبة "حربه على الإرهاب"، وكأنما أمريكا قدر أحمق الخطى، يناهضونه ويبذلون الغالي والنفيس في محاربته، أو يجارونه على أمل تجييره لمصالحهم؛ الأنظمة للتخلص من المعارضين، والمعارضة للتخلص من الأنظمة، في عراك يخسر فيه الجميع، وفي المقدمة بشر ما يزال تحصيل لقمة عيشهم في سلم أولوياتهم، فما بالنا بالتطوير والتنمية والتحديث ..إلخ. يمكن القول، منذ انكشاف الخطوط العريضة للمشروع الأمريكي وما تبعه من مشاريع أخرى إقليمية، لم يبادر العرب أنظمة ومعارضات الى التفكير بمشروع على مستوى التحديات يتيح لهم لعب دور على مسرح السياسة الدولية غير دور الجثة الهامدة المنكل بها.
الجمل
إضافة تعليق جديد