ترويج العداء لسوريا في استراتيجية بوش الأخيرة
الجمل: يعرف الجميع أن العراق لم يشهد حالة الصراع الداخلي المسلح وفوضى العنف الطائفي والعرقي إلا بعد قيام القوات الأمريكية بغزو واحتلال العراق.
وبرغم هذه الحقيقة الواضحة مثل الشمس، نجد أن الإدارة الأمريكية تحاول إدارة رأسها بعيداً عن هذه الحقيقة. وفي هذا الإطار نجد أن استراتيجية الإدارة الإمريكية الجديدة إزاء العراق، والتي طرحها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مؤخراً، تفترض أطروحة تقول بوجود تحديات استراتيجية أمام الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية، فتتمثل في:
- القضاء على حالة الفوضى والعنف والتمرد.
- حل الميليشيات.
- دعم العلمية السياسية بما يؤدي لترسيخ الديمقراطية.
- وضع حد لتدخل إيران وسوريا في الشؤون العراقية.
- إعادة تعمير وبناء العراق.
ولكي يتم تحقيق ذلك تفترض استراتيجية بوش الآتي:
• زيادة عدد القوات الأمريكية.
• إعداد قوات الأمن العراقية.
التحليلات والتعليقات التي دارت حول استراتيجية بوش أظهرت الكثير من التشاؤم إزاء الاستقرار في منطقتي الشرق الأوسط والشرق الأدنى، وأيضاً على التدهور المريع في مصداقية أمريكا، والتي تدنت إلى درجة الصفر.
ركزت التحليلات على موضوع الوجود العسكري الأمريكي واستمرار عملية احتلال العراقي وتداعياتها المتمثلة في العنف الطائفي والتدهور الاقتصادي.. وغير ذلك وقد أغفلت التحليلات تسليط الضوء على الجانب الهام الذي يتمثل في عملية استهداف سوريا وإيران، التي ظلت تسعى الإدارة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل ضمن مخطط تعود بداياته إلى ما قبل عملية غزو واحتلال العراق.
التاريخ السياسي والاجتماعي للعراق، ليس مجرد أحداث ووقائع تدور ضمن العراق فقط، بل نجد أن كل المعطيات تؤكد أن الدائرة السياسية- الاجتماعية العراقية ترتبط وتتداخل متفاعلة ضمن أربعة تقاطعات مع أربعة دوائر جيوسياسية إقليمية، هي:
• دائرة الجزيرة العربية : وتضم السعودية والكويت وبقية بلدان الخليج، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدائرة تضم بعداً اجتماعياً يتمثل في الروابط والتماثلات اللغوية والثقافية بين العراق وبلدان هذه الدائرة، إضافة إلى رابطة الدين الإسلامي، وامتدادات قبائل الجزيرة العربية ضمن البيئة الاجتماعية العراقية، فكل العشائر الكويتية ترتبط مع عشائر جنوب العراق، كذلك تترابط عشائر السعودية مع عشائر وسط وغرب العراق. وقد استطاعت أمريكا ومن ورائها إسرائيل تسميم علاقة العراق بهذه الدائرة، وذلك بعد عملية غزو القوات العراقية للكويت، والتي أوعزت الإدارة الأمريكية للرئيس العراقي الراحل صدام حسين القيام بها.
• دائرة إيران: وتتميز هذه الدائرة بالروابط المذهبية الشيعية الإسلامية بين شيعة جنوب العراق، وإيران باعتبارها مركز الحركة الشيعية الإسلامية في العالم، كذلك يرتبط العراقيون بسكان إقليم عربستان العربي الموجود حالياً ضمن الأراضي الإيرانية، وقد ظلت علاقة العراق مع هذه الدائرة تخضع لكثير من التوترات والاجتهادات منذ قديم الزمان بسبب الصراعات والحروب السياسية والدينية.. وغير ذلك. وكان آخر هذه المواجهات الحرب العراقية- الإيرانية التي دارت خلال مطلع حقبة ثمانينيات القرن الماضي، وقد استطاعت أمريكا وإسرائيل تسميم هذه العلاقة خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية.
• دائرة تركيا: وظلت هذه الدائرة خلال فترة نصف القرن الماضية ترتبط بتداعيات الوقائع والأحداث الخاصة بملف المشكلة الكردية، والذي شكل البوابة الأولى للتدخلات الإسرائيلية- الأمريكية ضد العراق، إضافة إلى تأثيرات المشكلة الكردية السلبية على توازنات المصالح العراقية- التركية، والعربية- التركية. كذلك ارتبطت هذه الدائرة بدرجة أقل بملفات المياه، وأنابيب النفط، وقد استطاعت أمريكا وإسرائيل أيضاً تسميم علاقة العراق مع هذه الدائرة، وذلك عن طريق استخدام الملف الكردي.
• دائرة سوريا (بلاد الشام): وتمثل هذه الدائرة الامتداد الجيوبولوتيكي والجيوسياسي للفضاء العراقي، ويعود ارتباط العراق بسوريا إلى فترات نشأة الإنسانية الأولى، وبلاد ما بين النهرين، والامبراطورية الآشورية.. وغير ذلك مما تحفل به كتب التاريخ، وإضافة إلى ذلك تتميز هذه الدائرة بالروابط الديموغرافية بين سكان شمال سوريا مع سكان شمال العراق (الأكراد)، وسكان شرق سوريا مع سكان وسط وغرب العراق. وقد باءت كل محاولات أمريكا وإسرائيل لتسميم العلاقات العراقية- السورية، بالفشل، ولم تنجح بدفع البلدين إلى درجة المواجهة، وقد كانت الخلافات العراقية- السعودية، تنحصر ضمن دائرة العلاقات الثنائية بين البلدين، بحيث تنشط عندما يكون هناك توافقاً بين البلدين وتتجمد عندما يكون هناك توتر، وحالة من الـ(صراع الكامن).
المحاولات الإسرائيلية- الأمريكية المحمومة لتسميم العلاقات العراقية- السورية ودفع البلدين إلى درجة المواجهة لم تتوقف، وبعد احتلال القوات الأمريكية للعراق، كانت أبرز نقاط الأجندة التي عملت الإدارة الأمريكية على تحقيقها وتنفيذها تتمثل في الآتي:
- بناء جدار عازل بين العراق وسوريا.
- القضاء على العلاقات والمعاملات الاقتصادية بين العراق وسوريا.
ولتحقيق هذين الهدفين، لجأت الإدارة الأمريكية وحكومة المتعاملين العراقيين إلى الآتي:
* استخدام العنف الرمزي ضد سوريا وتنميط صورتها باعتبار أنها تشكل تهديداً رئيسياً للأمن العراقي، وذلك بسبب مساعدتها لتسلل المسلحين إلى داخل العراق، وتدخلها في الشؤون الداخلية العراقية من أجل القضاء على الديمقراطية الوليدة في العراق.
* دفع الزعماء العراقيين الرسميين وغير الرسميين إلى مهاجمة سوريا وشن المزيد من الاتهامات الإعلامية ضدها.
* تركيز انتشار القوات الأمريكية في مناطق وسط وغرب العراق التي يرتبط سكانها بعلاقات وثيقة مع سكان شرق سوريا.
التحليل التكتيكي لطبيعة السياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا، يشير إلى تميز هذه السياسة بالسمات والخصائص الآتية:
• الرسمية: الاتهامات ضد سوريا تتم على كافة المستويات الرسمية في الإدارة الأمريكية، وعلى وجه الخصوص بواسطة الرئيس الأمريكي، ومسؤولي البيت الأبيض، وزارة الخارجية، وزاره الدفاع (البنتاغون)، أجهزة المخابرات، وبعض أعضاء الكونغرس المرتبطين باللوبي الإسرائيلي، ونلاحظ عدم وجود ظاهرة العداء لسوريا في الشارع الأمريكي، الأمر الذي يؤكد أنها ظاهرة مصنوعة في مراكز الدراسات ومكاتب الإدارة الأمريكية وأجهزة مخابراتها فقط، وليس لهذه الظاهرة أي عمق شعبي يسندها.
• الواحدية: إيقاع العداء ضد سوريا يتميز بالطابع الخاص الذي يركز دائماً على اتهام سوريا وفقاً لقائمة تتضمن البنود الثابتة الآتية:
- دعم الإرهاب
- عرقلة عملية السلام في الشرق الأوسط.
- التدخل في شؤون لبنان والعراق.
- تهديد إسرائيل.
- العمل على إفشال الاستراتيجيهات الأمريكية الهادفة إلى نشر الديمقراطية.
- التحالف والتعاون مع أعداء أمريكا.
- عرقلة جهود المجتمع الدولي وعدم الالتزام بالقرارات الدولية.
وقد ظلت كل مؤسسات الإدارة الأمريكية تركز على هذه البنود والترويج لتسويقها داخل وخارج أمريكا، ولم يحدث أن خلا خطاب للرئيس الأمريكي بوش أو لوزراء خارجيته ودفاعه من ظاهرة كيل الاتهامات لسوريا.
• العلنية: العداء لسوريا في الإدارة الأمريكية أصبح معلناً وسافراً، لا يتقيد بأي تقاليد أو روادع دبلوماسية، إضافة إلى كونه أصبح يمثل واحداً من المكونات البارزة المعلنة للخطاب السياسي الدبلوماسي الرسمي الأمريكي.
• الاختيارية: ليس لسوريا مصالح اقتصادية في أمريكا بل إن لأمريكا مصالح اقتصادية في سوريا، وإن كانت قليلة. ولم يحدث أن قامت سوريا بأي محاولة للإضرار بالمصالح الاقتصادية الأمريكية في المنطقة، وذلك بعكس الإدارة الأمريكية التي تلهث جاهدة للإضرار بالمصالح السورية داخل وخارج أمريكا. وإذا كانت دوائر صنع واتخاذ قرار السياسة الخارجية تتعامل مع عدة بدائل تختار من بينها، فإن الإدارة الأمريكية ظلت دائماً ترفض كل البدائل الأخرى دون أي سند، وتركز على اختيار بديل واحد يتمثل في انتهاج السياسة الخارجية المعادية لسوريا حصراً باعتباره الـ(خيار) الأفضل الذي يتلاءم مع مصلحة أمريكا.
• الهدفية: تسعى السياسة الخارجية الأمريكية من أجل تحقيق المزيد من المزايا، وبالنسبة لمواقف السياسة الخارجية الأمريكية، ليس هناك من ثمة مزايا ملموسة، سوى معاداة سوريا بشكل مفتوح باعتبارها تمثل (هدفاً) ضرورياً لحماية المصالح الإسرائيلية.
• الخارجية العابرة للحدود: العداء ضد سوريا في السياسة الخارجية الأمريكية، ليس أمراً ينحصر فقط ضمن المؤسسات الرسمية والدبلوماسية الأمريكية، بل هو موقف دبلوماسي استراتيجي عابر للحدود، وتعمل الدبلوماسية الأمريكية في كافة أنشطتها العابرة للحدود من أجل إقناع كل دول العالم والمنظمات الدولية من أجل عزل سوريا وتشديد الضغوط عليها.
• البرنامجية: العداء لسوريا في السياسة الخارجية الأمريكية أصبح يندرج ضمن خطط وبرامج صياغة الأهداف وتحديد القرارات والسلوكيات السياسية، وبالذات المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. وعلى ما يبدو فإن عقدة (اللوبي الإسرائيلي) قد سيطرت تماماً على دوائر صنع قرار السياسة الخارجية الأمريكية، وذلك على النحو الذي أثر في كل من: توجهات، وأدوار، وأهداف، واستراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط.
إذاً يمكن القول بوضوح: إن استهداف الرئيس الأمريكي جورج بوش لسوريا، ليس أمراً جديداً، بل هو الموقف الذي ظلت تفضله دائماً مختلف الإدارات التي تعاقبت على حكم أمريكا منذ حرب 1967 بين إسرائيل والدول العربية.
خيار بوش، كان متوقعاً برغم المناورة التي لجأ إليها عندما استخدم لجنة بيكر- هاميلتون (مجموعة دراسة العراق) كواجهة تختفي خلفها لجنة معهد المسعى الأمريكي، التي تتكون من عناصر جماعة المحافظين الجدد، والتي أعدت تقريرها الذي تبناه جورج بوش.
الحلقات القادمة في مسلسل استهداف سوريا، يتوقع لها أن تتضمن الآتي:
- تصعيد مسلسل الاتهامات ضد سوريا على النحو الذي يفتح لجورج بوش مجالاً لتبرير المشاكل المتصاعدة التي سوف تواجهه في العراق، بحيث يزعم دائماً بأن سوريا هي التي تقف وراء فشل وإعاقة الاستراتيجية الأمريكية في العراق.
- استخدام الملف اللبناني من أجل تهديد وابتزاز سوريا سياسيا، وذلك لأن الهدف الذي تسعى الإدارة الأمريكية لتحقيقه ليس هو تعاون سوريا في العراق، ولا تعاون سوريا في لبنان، بل هو الضغط على سوريا من أجل الرضوخ لإسرائيل والقيام بتوقيع اتفاقية سلام سورية- إسرائيلية، على غرار اتفاقية السلام الأردنية- الإسرائيلية، التي أخذت بموجبها إسرائيل من الأردن كل شيء ولم تقدم له بالمقابل أي شيء. وقياساً على ذلك فإن ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل ومنظمات اللوبي الإسرائيلي هو إرهاق سوريا بالضغوط، ودفعها إلى توقيع اتفاقية سلام تتنازل فيها عن الجولان، وتتعاون أجهزتها مع الموساد، وتقييد كل توجهاتها السياسية والاستراتيجية بحيث تكون رهناً لموافقة إسرائيل المسبقة حصراً، وذلك على غرار الاتفاقيات السرية التي دفعتها مصر مع إسرائيل ضمن اتفاقية كامب ديفيد، والتي لا تستطيع مصر بموجبها الحصول على أي قروض أو مساعدات أو الدخول في تحالفات أو أي اتفاقيات خارجية، إلا بعد إخطار إسرائيل، والحصول على موافقتها المسبقة عبر أمريكا، الضامنة لاتفاقيات السلام المصرية- الإسرائيلي، والأردنية- الإسرائيلية.
كذلك يمكن القول: إن الأداء السلوكي العدائي لأمريكا في العراق وفي لبنان، بل وفي بقية أنحاء العالم العربي وسائر العالم، يهدف من بين ما يهدف إلى تمهيد المسرح للحرب المحتملة التي تسعى إسرائيل لشنها خلال الفترة القريبة القادمة في المنطقة، والتي بدأت إرهاصاتها المعلنة تتحدث عن هجوم جوي إسرائيلي وشيك ضد إيران، وهو هجوم على الأغلب أن تحاول إسرائيل توسيعه إلى حرب إقليمية دولية تشمل ساحتها إيران، لبنان، وسوريا، وإن طال أمدها فربما تشمل الأردن ومصر.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد