سعاد جروس تكتب :أنا لن أعود إليك
الجمل ـ سعاد جروس : فجأة تنبهت لانخفاض درجة توتري وتراجع شعوري بالصداع, واحساسي بحالة من الهدوء لم تصادفني في الشهور الماضية. تعجبت ورحت ابحث عن السبب, فأنا لم أتعرض خلال اليوم لعارض شخصي سعيد, ولم اسمع كلمة مجاملة ولا مديحاً يحرك غروري, وينسيني مشقة العمل المتواصل. وعلى الصعيد العام, لم تتوصل بعد حكومتنا إلى حل للغز ارتفاع الأسعار, ولا تزال مصادرها المسؤولة تدلي لوكالة «سانا» بتخمينيات وتكهنات حول الأسباب والمسببات, فمن التهريب إلى التدفق الغزير للاجئين, حتى التحسن النسبي لدخل المواطن, وغيرها من أسباب ذكرت كلها سوى السياسة الاقتصادية المتخبطة والفساد الضارب أطنابه. أما على المستوى الإقليمي, فأعمال العنف الطائفي في العراق تحصد المئات كل يوم. والداخل الفلسطيني على الحافة المثالية للهاوية, بينما لبنان لا يفتأ يترنح مذبوحاً من الألم, والزعماء العرب يترنمون بأغنية نجاة الصغيرة: «عيون القلب سهرانة ما بتنمش, لا أنا صاحية ولا نايمة ما بقدرش». ودولياً, بوش راكب رأسه, مصرٌ على إقناع شعبه بأنه على وشك الانتصار في العراق, لكن بعد ضرب إيران وسوريا.
لا جديد سوى المزيد من التصعيد!! إذاً, من أين جاءني هذا الشعور النسبي بالارتياح؟ تذكرت أنني طوال اليوم لم أشاهد التلفزيون, فقد تابعت الأخبار مكتوبة على الانترنت, وجنبت نفسي من دون أن أدري مقداراً هائلاً من المؤثرات السمع بصرية, ما أدى الى إحداث فراغ في رأسي, كان مبعث الهدوء الذي أحسست به. بناء عليه قررت هجر هذا الجهاز الى غير رجعة, مرتاحة من بوم صاخب مهنته التبشير بالخراب, فرصة كنت بحاجة إليها لغسل عينيَّ من مشاهد جثث متفحمة لكثرة ما تعرضنا لها, تفحمنا نحن ولم نعد نشعر بفظاعتها. وفرصة أيضاً لشطف وتعزيل الأذن من موسيقى شارات بداية نشرات الأخبار المنذرة بالشؤم, ومن أصوات المترجمين الفوريين المتلعثمة والمخنوقة, ومن وجوه المذيعين المذعورة والمكفهرة, ومن تبجح المحللين والسياسيين من فطاحل العرب وجهابذة الغرب وأميركا الإمبراطورية. كانت فرصة ذهبية لا تعوض للخلاص من هذا الجهاز العجيب الذي اختُرع للتسلية, فتحول إلى جهاز لتعبئة الجماهير بالرهبة والإحباط, حتى القنوات الترفيهية غدت مثل أجهزة فحص السمع, تمطرنا بالزعيق والنعيق المصحوب بصور ما انزل الله بها من سلطان القلنسوات واللحى الطويلة إلى التنانير المرفوعة والسيقان المكشوفة والبطون المدلوقة. فكيف لا يكون إغلاق التلفزيون تجربة صحية تجلب الراحة من الأفلام والأغاني والمطربين والمشعوذين والمتنبئين الجويين والفلكيين. وهكذا قلت للتلفزيون: «هجرتك يمكن أنسى هواك وأودع قلبك القاسي», وقررت متابعة الأخبار المكتوبة في الانترنت متجنبة مشاهدة الصور غير المرغوب فيها, ملتفتة الى قراءة الروايات والشعر وكل ما يهدئ البال والأعصاب ويروق النفس, ومتابعة أفلام سينمائية منتقاة بعناية. كانت رحلة ساعات أشبه بأسبوع عسل سرعان ما تبين أن بصل الواقع الذي دفعني لهجرة التلفزيون قد تعفن وفاحت رائحته في مجالات الإبداع والميديا كلها, فلا الرواية رواية ولا الشعر شعر ولا النثر نثر. أما السينما فأفضل أفلامها المرشحة للجوائز العالمية تتناثر بين جنباتها الجثث, وتسيطر المؤامرة على حبكاتها, بينما أفعمت قصص الحب الرومانسية باليأس والإحباط والألم. حتى الرمق الأخير, لاحقتني ثقافة الكآبة المهيمنة على العالم, في عملية شحن تتممها ضغوط الحياة اليومية, من غلاء وضجيج في منطقة تعيش منذ احتلال العراق في لحظة الصفر.
ظننت أنني تخلصت من المؤثرات الباعثة على التوتر والشحنات السلبية, إلا أن الإحباط الساكن في كل كتاب وفيلم وموقع انترنت ظل رابضاً على صدري. تمنيت لو عاد الزمن أدراجه الى عصر ما قبل حضارة الديزل والكهرباء, عصر لا نموت فيه من رعب الأحداث قبل وقوعها, ولا يكشف لنا الإبداع الحاضر العاجز, ولا يتنبأ بالمستقبل الحالك. عصر يكون فيه للحلم مكان وللحب سلطان, وفن للإنسان.
اليوم اضطررت مكرهة لإنهاء أسبوع العسل الممزوج بنكهة البصل, بتشغيل التلفزيون لمتابعة ما يجري في شوارع بيروت, على وقع أغنية ملحم بركات «من محطة لمحطة تذكريني», فتذكرت أيام الحرب على العراق وشهر عصيب, لم ينطفئ خلاله جهاز التلفزيون لحظة واحدة لغاية سقوط بغداد, وبعد يومين تماماً احترق الجهاز ومعه أعصابنا, لتبدأ رحلة جديدة من نشرات الأخبار والقتل لا نعرف متى ستنتهي, ولا سيما وقد بدأت بوادر الحرب الأهلية تلوح مجدداً في شوارع بيروت مع نذر الشؤم بعودة القناصة.
عدت, والعودة غير محمودة, لم أقدر على تجاهل التلفزيون, صحيح أنه شر كله, وشر ما فيه أنه لا بد منه, حتى لو تصدعت من الصداع, ولا سيما وأنا أتابع قناة «العربية» وهي تغطي الأحداث في بيروت, إذ بالمراسلة تصرخ من ميدان المعركة €أي معركة؟!€: أنصار تيار المستقبل يحرقون مقر الحزب القومي السوري, ويطلقون الرصاص ابتهاجاً بحرق المبنى بالكامل, ترافقها الصور تعرض قيام الجماعة المذكورة بإنزال اليافطة وحرق أعلام الحزب. وفي الأستديو, كانت المذيعة على الهاتف تترك زمام الحوار لوليد جنبلاط كي يأخذ راحته باتهام سوريا بتخريب لبنان!!
من قال انني لن أعود إلى التلفزيون, أعود إلى... وبئس هذه العودة.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد