الجدل الأوروبي حول الإسلام والإرهاب
دفعت الاعتداءات الإرهابيّة الأخيرة التي طالت فرنسا وألمانيا، ركيزتي الاتحاد الأوروبي الأساسيّتين، نحو مناخٍ من الشكّ والغضب لا يُعرف مآله، خاصّة إذا استمرّت مثل تلك الاعتداءات. لكن يبدو أنّ مفاعيلها تختلف بين الحالتين لأسبابٍ متعدّدة.
أبرزت مشاهد الاعتداء في ميونيخ «حواراً» بين الجاني وأحد جيران المركز التجاري. الجاني يصرخ أنّه «ألمانيّ» ومولود في هذا البلد، ويردّ عليه الجار أنّه حريٌّ به أن يذهب إلى مصحٍّ عقليّ لما يفعله. وكان الجاني على كاهن قرية سانت إتيان ـ دي ـ روفري قرب مدينة «روون» شمال غرب فرنسا هو أحد سكّان القرية ذاتها، وسرعان ما تعرّف عليه أهلها.
لا شكّ أنّ الصدمة التي عاشها أبناء القرية أنفسهم كانت كبيرة. ولا شكّ أنّه من المروّع أن يرى أولئك الذين يرتادون الكنيسة ويبحثون عن المغفرة عبر ذلك الكاهن العجوز شاباً ترعرع بين أبنائهم وفي مدارس قريتهم يقوم بذبحه من دون رادع. وكان مروّعاً بالنسبة لأهل ذاك الشاب الذي كان يخضع للإقامة الجبريّة القضائيّة بينهم، أن يخرج ابنهم لمهلة الساعات الثلاث المسموح بها ليسجّل نفسه في مقسم الشرطة، لتداهم القوّات الخاصّة بيتهم وتأخذهم إلى الاعتقال ليدركوا ما حصل. فكيف يمكن لهؤلاء الأهل العودة للعيش في قريتهم، أو الاستمرار في ممارسة أعمالهم، هم وجيرانهم الآخرين المسلمين المتحدّرين من أصولٍ مغاربيّة؟ والأمر نفسه ينطبق على المسلمين من أبناء مدينة نيس بعد الاعتداء المروّع فيها، حين حصدت شاحنة مجنونة أرواح أكثر من ثمانين شخصاً. إنّ أحياءً كثيرة في هذه المدينة، كما في مدينة مارسيليا القريبة، تخرج عن طاعة دولة القانون والمساواة منذ زمنٍ طويل وتخضع لمافيات إجراميّة تستند، كما المافيات الإيطاليّة، إلى «عصبيّات» طائفيّة أو مناطقيّة.
موجات الهجرة الجديدة السوريّة والعراقيّة بريئةٌ تماماً من كلّ هذه الممارسات. والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل أكّدت ذلك في موقفٍ تاريخيّ بكلّ شجاعة وصرامة، وأصرّت أنّها لن تغيّر سياساتها الإنسانيّة، برغم استخدام مناهضيها السياسيين لورقة «الخوف» الشعبيّ ضدّها. وهي لم تتّهم مرتكبي الجرائم بـ «الإرهاب» من دون إثبات. في المقابل، ذهب الرئيس فرانسوا هولاند إلى ربط اعتداء نيس بـ «الإرهاب الإسلاميّ» حتّى قبل أن تكتمل صورة الجريمة، لأسبابٍ مفهومة تتعلّق بالصراعات السياسيّة الداخليّة في فرنسا وبالانتخابات الرئاسيّة القادمة. ثمّ تحدّث عن «الحرب» التي «سننتصر فيها» عندما سارع لزيارة قرية الكاهن المذبوح، متوجّهاً لفئةٍ من أبنائها وليس للفئة الأخرى، المصدومة بدورها والتي اتسع الشرخ بينها وبين الآخرين وغدا يهدّد بما لا يُحمد عقباه.
كلّ المجتمعات تعرف «حوادث متفرّقة وإجراميّة». والجناة دوماً لهم دوافعهم وظروفهم النفسيّة والاجتماعيّة. ويُمكن أن يكون لهذه الظروف بُعد طائفيّ أو مذهبيّ لكثرة ما تعرف الاقتصادات الحديثة من تراجعٍ لدور الدولة في الرعاية العامّة والمساواة. لكن يبدو أنّ مجتمعات عالمنا اليوم قد دخلت في دوّامة تضخيم الطابع المذهبيّ أو الطائفيّ لأيّ جريمة كي تعيد تدويرها كوقودٍ «للإرهاب». ووسائل الإعلام أضحت أدوات تحريض تجعل من مُجرمين أبطالاً لبرنامجٍ على غرار «ستار أكاديمي» في العالم الحقيقيّ. مشهديّةٌ لا تُفيد سوى المجرمين الذين لا يرون معنىً لإجرامهم سوى عبر انتقال عرضها من صفحة المتفرّقات إلى العنوان الرئيسيّ.
وهذا الإعلام ذاته هو الذي يتصوّر أنّه يصنع السياسة بعدما أضحى كثيرٌ من لاعبيها أسرى لاستقصاءات الرأي ولرضى المتنفّذين في وسائل الإعلام أكثر من المبادئ التي يدّعون اتّباعها.
لا يُحسد الرئيس هولاند على الوضع الذي هو فيه. لكن كثيرين يتساءلون في فرنسا عمّا حداه إلى توجيه التهمة «للإرهاب الإسلاميّ» في الساعة الثالثة من صباح يوم اعتداء «نيس»؟ أهم مستشاروه أم مناخ عامّ يسود في النظرة الفرنسيّة إلى الإسلام؟
هناك حقّاً علاقة غريبة بين فرنسا والإسلام، ومع الدول العربيّة والإسلاميّة. علاقة تختلف كثيراً عمّا هي عليه في دولٍ أوروبيّة أخرى كألمانيا وبريطانيا. أقلّ ما يُمكن قوله أنّها لا تستند إلى عقلانيّة سياسيّة صرفة. إذ لماذا لجأت وزارة الداخليّة الفرنسيّة لدولٍ تعتمد الإسلام السلفيّ لتدريب أئمة مساجدها حيث يصلّي أبناؤها المتحدّرون من إسلامٍ مغاربيّ مُختلِف؟ ولماذا تبنّت دعم الإسلام السياسيّ أكثر من العلمانيين المتأثّرين بقيم ثورتها خلال أحداث «الربيع العربيّ»؟
هل يعود الأمر إلى التباس التاريخ الفرنسيّ في الانتماء بين ابنة الكنيسة البكر وداعية العلمانيّة المتطرّفة؟ أم إلى التاريخ مع الجزائر وسوريا ولبنان والعلاقات العاطفيّة مع هذه البلدان التي لم تندمل جراحها إلى اليوم؟ أم أنّه يعود إلى مصالح اقتصادية دوليّة؟ أم إلى تأثير تيّارٍ يسود مفكّري فرنسا المتخصّصين في الإسلام، الذين يقولون صراحة إنّ عهد المجتمعات المنفتحة مذهبيّاً أو العلمانيّة في البلدان العربيّة قد ولّى جرّاء التغيّرات الاجتماعية الداخلية والجيوسياسيّة الحاليّة؟ بل يذهب بعضهم بعد موجة الاعتداءات الأخيرة إلى القول بأنّ الإسلام بطبيعته... عنيف.
المشكلة في كلّ هذه الأفكار أنّها تنطبق على جزءٍ من المجتمع الفرنسيّ ذاته، الذي يتخّذ الهويّة الإسلاميّة أكثر من ذي قبل، مثله مثل بقيّة الفرنسيين الذين أضحوا، حتّى الشباب منهم، أكثر ميلاً للتمسّك بالهويّة الدينيّة.
لا يُمكن محاربة التطرّف والإرهاب سوى بالإنسانيّة وبدولة القانون. إذ أنّ كلّ خروجٍ عنهما يغّذي بالضبط مرامي المتطرّفين ومنطق المجرمين. ومكافحة إرهابٍ يُمكن أن يستمرّ طويلاً لا تكون، ولن تكون فاعلة، إلاّ عبر سياسة شجاعة تتوجّه بالتحديد إلى الفئة الاجتماعية التي تشكّل اليوم حاضنة التطرّف على الأغلب، على اعتبار أنّهم مواطنون مثل غيرهم من الفرنسيين برغم اختلاف موروثهم الثقافيّ. وإلاّ أضحى الأمر كما في كورسيكا حيث يهدّد إرهابيوّها التقليديّون... الإرهابيّين الجدد.
سمير العطية
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد