سِرّ الباغوز السورية
فتحت وزارة الدفاع الأميركية، أخيراً، تحقيقاً في جريمة حرب ارتكبها «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن في قرية باغوز فوقاني في محافظة دير الزور عام 2019. الجريمة التي أودت بحياة عدد كبير من الضحايا يفوق حتماً المُعلَن أميركياً (80 شخصاً)، استُخدمت فيها قذائف الفوسفور الأبيض «نابالم»، والتي سقطت على بقعة جغرافية صغيرة، تحصّن فيها عناصر تنظيم «داعش» مع عائلاتهم، إضافة إلى عدد كبير من المدنيين. وعلى رغم الضجّة المُثارة اليوم في شأن تحقيق «البنتاغون»، إلّا أنه من غير المتوقّع أن تواجه «مذبحة الباغوز» مصيراً مغايراً لما لاقته «جريمة الرقة»، من الإهمال والتعتيم، وذلك نتيجة ضغوطات واشنطن ونفوذها
لم تَزِد مساحة مخيّم الباغوز، الذي استهدفه الطيران الأميركي بقذائف الفوسفور الأبيض «نابالم»، ليل 17 آذار 2019، عن كيلومترَين مربّعَين في منطقة قريبة من نهر الفرات، تحصّن فيها عناصر تنظيم «داعش» مع عائلاتهم، إضافة إلى عدد كبير من المدنيين الذين لم يتمكّنوا من الخروج من جَيْب هجين، مثّل المساحة الأخيرة التي كان التنظيم يسيطر عليها في ريف دير الزور، قبل أن تطلق «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، بدعم أميركي، المرحلة الأخيرة من معركة «غضب الجزيرة»، والتي أفضت إلى سيطرتها على كامل الأراضي الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات.
وعلى رغم وقوع المذبحة التي يفوق عدد ضحاياها الحقيقي، ذلك المُعلَن من قِبَل واشنطن، والتي أعقبت فشل المفاوضات بين «داعش» و«قسد»، إلّا أن الأخيرة لم تتمكّن من اقتحام المخيّم، لتُستأنف المفاوضات في اليوم التالي، وتفضي إلى خروج عوائل التنظيم من قرية باغوز فوقاني إلى مخيّم الهول في ريف الحسكة الشرقي، إضافة إلى تسليم عدد كبير من عناصر «داعش» أنفسهم لـ«قسد»، ليتمّ نقلهم إلى المعتقلات التابعة لها، وأخرى تشرف عليها القوات الأميركية بشكل مباشر، فيما تمكّن نحو 200 مقاتل من جنسيات أجنبية من الانسحاب، قبل تسليم المخيّم، إلى منطقة الجهفة المُشكَّلة من مجموعة من المُغر والكهوف، في تلال الباغوز الواقعة إلى الشرق من القرية نفسها، وعلى الشريط الحدودي مع العراق مباشرة. وفي هذا الإطار، تدعو مصادر مطّلعة على وقائع المذبحة، في التحقيق مع قادة مجموعات «قسد» التي شاركت في القتال، وأشرفت لاحقاً على نقل الجثامين، مُبيّنة أنه «بمجرّد الوصول إلى موقع المقبرة الجماعية التي دُفن فيها الضحايا، سيتبيّن حجم الكارثة التي ارتُكبت باسم محاربة التنظيم الإرهابي».
تعداد مَن نقلوا من الباغوز إلى مخيّم الهول، أوصل عدد سكّان المخيّم، أوّل الأمر، إلى حوالى 70 ألفاً، علماً أن تعداد سكانه قبل تطبيق الاتفاق كان بحدود 13 ألف شخص، غالبيّتهم من العراقيين الذين لجأوا إلى الأراضي السورية خلال معارك تحرير الموصل. ويشير وجود مثل هذا العدد ضمن القرية قبل أن تسيطر عليها «قسد»، إلى أن ضحايا القصف الأميركي يفوقون الـ80 شخصاً، بخلاف اعتراف واشنطن الرسمي، فيما تفيد مصادر بأن «قسد»، ومِن خَلفها القوات الأميركية، استخدمت الشاحنات لنقل جثث متفحّمة من منطقة المخيم إلى منطقة البادية الواقعة إلى الشمال من قرية أبو خشب في ريف دير الزور الشمالي الغربي، ثمّ عمدت إلى تجريف مكان الجريمة وطمْس أيّ دليل على استخدام «النابالم» من قِبَل المقاتلات الأميركية. وبحجّة البحث عن الألغام والعبوات الناسفة، أبقت المخيّم مغلقاً أمام أيّ أحد من غير «الوحدات الكردية»، على الرغم من رغبة المشاركين في المعارك لمصلحتها في تفتيش المنطقة بحثاً عن «كنوز داعش»، وما كان يُروى عن امتلاكه كمّيات ضخمة من الأموال والذهب، تَبيّن لاحقاً أنها مدفونة في أماكن أخرى.
من جهتها، توضح مصادر كردية معارِضة لـ«قسد»، في حديثها إلى «الأخبار»، أن التثبّت من التعداد الحقيقي لضحايا المذبحة لن يكون ممكناً إلّا في حال دخول لجنة لتقصّي الحقائق تتبع الأمم المتحدة، مشيرة إلى أن عمل مثل هذه اللجنة ممكن جدّاً لكون المنطقة تحت السيطرة الأميركية، ولا إمكانية لعرقلته إلّا من قِبَل «قسد» أو القوّات الأميركية ذاتها. وتقدّر المصادر أن تعداد الضحايا قد يزيد عن 300 شخص على الأقلّ، نظراً إلى صِغَر المساحة المستهدفة والكثافة البشرية التي ضمّتها لحظة حدوث الجريمة، فيما تؤكد مصادر ميدانية سورية كانت تنتشر على الضفة المقابلة لباغوز فوقاني «استخدام الطيران الأميركي الفوسفور الأبيض في 5-6 ضربات متتالية في ليلة 17 آذار من عام 2019»، مبيّنةً أن مثل هذه الضربات «تُحدث خسائر بشرية كبيرة في مساحة ضيّقة ومكتظة مثل مخيّم باغوز فوقاني، لا يمكن أن تنحصر بـ80 فقط».
جرائم أخرى
قصفت القوات الأميركية سجوناً تابعة لـ«داعش» في مدن كبرى مِن مِثل الرقة والطبقة وهجين قبل أن تسيطر عليها. وقد فاق حجم الدمار الذي لحق بالرقة، مثلاً، خلال الفترة الممتدّة بين شهرَي أيار وأيلول من عام 2017، 80% من حجم الكتلة العمرانية للمدينة، التي كانت تُعدّ عاصمة لـ«دولة داعش»، قبل أن يسلّمها التنظيم وينسحب نحو ريف دير الزور الشرقي. وعلى الرغم من أن «منظّمة العفو الدولية» نشرت تقريراً في حزيران من عام 2018، تؤكد فيه ارتكاب القوات الأميركية جرائم حرب خلال حملتها على الرقة، إلا أن التقرير لم يثمر إجراء أيّ تحقيق أممي حول ما حدث، وذلك بفعل ضغوط الإدارة الأميركية. وبالتالي، يمكن القول إن الحديث عن «مذبحة باغوز فوقاني» لن يلاقي مصيراً مختلفاً، خصوصاً أن واشنطن تروّج لمعلومات تقول إن عدد المدنيين من إجمالي الـ80 الذين تعترف بهم، لا يزيد عن خمسة أشخاص فقط.
والجدير ذكره، هنا، أنه يمكن الاستدلال على طبيعة الأسلحة التي استُخدمت في قصف الرقة، من خلال الكشف على جثامين الضحايا الذين نقلتهم الفرق التابعة لـ«قسد» من المقابر التي تشكّلت في حدائق المدينة، نحو مقبرة تل البيعة الواقعة إلى الشمال الشرقي منها، إذ سيؤكد تشريح الجثامين، عندها، أن المعلومات التي رُوّجت من قِبَل «قسد» عن أن الجثث عائدة إلى ضحايا جرائم التنظيم، إنّما هي مغلوطة في الحدّ الأدنى؛ فـ«داعش» لم يكن يمتلك «نابالم» ليقصف به الرقة. والأمر نفسه ينسحب على جثامين ضحايا باغوز فوقاني، في حال تمّ العثور على أيّ منها.
خلال معركة باغوز فوقاني، كانت «قسد» والقوات الأميركية تروّج لمعلومات عن احتمال وجود الأب باولو دالوليو، الذي فُقد في مدينة الرقة في تموز من عام 2013، وموظّفة «الصليب الأحمر الدولي» النيوزلندية الجنسية لويزا أكافي، إضافة إلى الصحافي البريطاني جون كانتلي، الذي كان قد نفّذ بالقوّة مجموعة من الأفلام الدعائية لمصلحة التنظيم. كذلك، تمّ الترويج لوجود قيادات من الصفّ الأوّل في «داعش» في القرية، وعلى رأسهم زعيمه السابق أبو بكر البغدادي. إلّا أنه في أعقاب بسط «قسد» سيطرتها على المنطقة، تَوقّف الحديث عن قيادات التنظيم والرهائن الأجانب، لتَبرز صورة الإيزيديين ممّن قالت «الإدارة الذاتية» إنهم كانوا مختطَفين لدى «داعش»، وليعلن الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في أواخر تشرين الأول من العام نفسه (أي بعد 6 أشهر فقط من السيطرة على الباغوز)، مقتل البغدادي في عملية للجيش الأميركي في قرية بريشا في ريف إدلب، فيما أكدت لاحقاً تقارير أوروبية مقتل الأب باولو والممرضة آكافي.
أمّا كانتلي، فتصف مصادر كردية مصيره بـ«المجهول»، مقدّرةً عودته إلى بلاده بسرّية، من خلال القوات البريطانية التي دخلت الباغوز منتصف نيسان 2019، أي بعد السيطرة على القرية بحوالى 25 يوماً، علماً أن الصحافي البريطاني تحوّل حتماً إلى صندوق معلومات مهمّ عن التنظيم وارتباطاته، بعد نحو سنتين من التواجد في كنفه، والتحوّل من معتَقل لدى «داعش» إلى متحدّث باسمه، وإن بشكل غير معلَن. وبمراجعة التسجيلات التي ظهر فيها كانتلي، يتّضح أنه يمثّل أحد أهمّ مصادر المعلومات التي تجب مراجعتها، لكن احتمال أن يكون قد غادر الأراضي السورية إلى جهة مجهولة بالتنسيق مع التنظيم نفسه، يظلّ أمراً محتملاً.
الأخبار - محمود عبد اللطيف
إضافة تعليق جديد