البهائية «دين» بلا سياسة
البهائيون ينتشرون في حيفا. يسيرون في شوارعها بهدوء. يأتون إليها لفترة محدودة، يختلطون ببعضهم فقط، لا يقيمون سجالاً مع «المحليين» ويمنعون من الإقامة الدائمة في إسرائيل. يسكنون في المنطقة المحيطة بالمعبد البهائي لفترة محدودة، من ستة أشهر حتى عام ويتبدلون من بعدها، في حال من الهدوء تثير الريبة أحياناً.
من هذا الهدوء، وما يلفه، بنى البهائيون أجمل المواقع في حيفا، 18 حديقة معلقة ومقاماً لضريحي «عبد البهاء» (ابن بهاء الله) و«حضرة الباب» المبشر بقدوم «بهاء الله»، وهو أقدس شخصيات البهائية، وضريحه في عكا التي تتمتع بالمكانة الروحية الأرفع لدى البهائيين، أكثر من حيفا.
البهائيون جعلوا من مقام الباب أو «قبة عباس»، كما يطلق عليها العرب، لوحة فنية متكاملة، افتتحت في عام 2001، تشدّ إليها نصف مليون زائر سنوياً.
هذا الجمال الذي يكتنفه الغموض، خلق حول البهائيين في إسرائيل مليون قصة. شائعات تتهمهم بالعمالة لإسرائيل وأميركا، وقد عرضت القناة الإسرائيلية الثامنة، قبل عام، شريطاً مصوراً ربط بعض الشخصيات البهائية بالـ«سي آي إيه»، إلا أنَّ البهائيين، يفندون هذه الادعاءات بالقول: «نحن هنا قبل قيام إسرائيل، وديننا يمنعنا من التدخل بالسياسة أصلاً».
إذن لماذا هم صامتون إلى هذا الحد؟ هم يملكون الإجابة: «من أحد تعاليمنا، تحدث قليلاً وافعل كثيراً».
الناس في حيفا لا يكنون مشاعر خاصة للبهائيين، لكنّهم يعتقدون بأنهم «منظمون ونظيفون وأمناء». ويقول أحد القاطنين قرب حدائق البهائيين: «تخيل لو أنَّهم لم يبنوا هذه الحدائق. كانت إسرائيل ستبني عمارات إسمنتية مقرفة».
تحت جسر البهائيين القاطع شارع الجبل الحيفاوي، والموصل بين الحدائق التسع العليا والحدائق التسع السفلى، يوجد باب أسود عملاق، تزينه زخرفات معقّدة وحبيبات ذهبية، على مدخله حارس أفريقي، يتحدث الإنكليزية، مع قائمة للمواعيد المسبقة. لا مجال لإقناعه بمن ليس في القائمة.
من وراء الباب ممر حجري يؤدي إلى مكتب العلاقات العامة. واقع تحت الحديقة بتصميم غريب. المكتب يشبه القصور العباسية تصميماً. من أحد أبواب الغرف الثلاث، يخرج دوغلاس مور، مسؤول العلاقات العامة في البهائية. أنيق للغاية، يتحدث بهدوء دمث، مبتسم وهادئ تماماً مثل كل البهائيين.
حين تسأله عن مفارقة أنَّ «البهائيين العاديين» الموجودين في شوارع حيفا والعاملين أيضاً كلهم من دول العالم الثالث، من الشرق الأقصى وأفريقيا، لكنَّ المسؤولين، عادة ما يكونون من دول غربية، يبتسم مور ويقول: «هذا ليس صحيحاً، المسؤولة عن هذا المكتب من غانا، كلنا متطوعون».
ويفنّد مور كل ما سمّاه بـ«نظريات الغموض». لا يهاجم القناة الثامنة على إنتاجها فيلماً «غير واقعي» عن البهائيين. ويقول: «هذه الحدائق بنيت قبل قيام إسرائيل. نحن ممنوعون أصلاً من ممارسات السياسية دينياً». وكان لا بدَّ من سؤاله: «هل الرئيس الفلسطيني محمود عباس بهائي»، فيجيب: «هذا ليس صحيحاً، لا علاقة له بالبهائية. يبدو أنه إذا ما أراد شخص تشويه سمعة أحد يتهمه بالبهائية».
البهائية دين ينتشر في أكثر من 183 دولة في أنحاء العالم. يبلغ عدد البهائيين أكثر من خمسة ملايين شخص. النسبة الأكبر في الهند. وهناك جماعات بهائية كبيرة في إيران وأميركا وأفريقيا. قبلتهم نحو عكا، هي المكان الأقدس لهم روحانياً، حيث ضريح مؤسس البهائية «بهاء الله».
وحيفا هي المقر العالمي للبهائية، فهي الأهم من ناحية عملية، فيها ضريح «الباب» والمؤسسات البهائية العالمية وبيت «العدل الأعلى»، ومقام «عبد البهاء»، ابن بهاء الله. ويعدُّ البهائيون مدينتي عكا وحيفا توأمين «عكا من الناحية الروحانية، وحيفا من الناحية العملية».
يقول البهائيون إن دينهم «مستقل لا ينتمي ولا ينشق عن أي فئة دينية أخرى. ليس شُعبة من شُعب الدين الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي». وحسب معتقدات البهائيين، فإنَّ للبهائية «كتبها المُنزلة» و«شرائعها الخاصة» وتحتوي على نظم إدارية، وأماكن مقدسة. لا يكفّرون أحداً ويعترفون بكل الديانات السابقة.
يؤمن البهائيون، حسبما يدونونه في كتبهم، بـ«وحدة الجنس البشري»، و«مبدأ المساواة في الحقوق بين البشر»، بما في ذلك «المساواة بين الرجل والمرأة». يقضي الدين البهائي بعدم تعدد الزوجات، و«الأسرة أساس بناء المجتمع الإنساني الصالح». ويمنع أتباعه من الاشتغال بالأمور السياسية والحزبية. لا يشربون الخمر ويمنعون الجنس قبل الزواج. لا يوجد في البهائية رجال دين أو رهبان أو كهنة أو قادة روحانيون أو أولياء صالحون. لا لباس خاصاً ولا حجاب للنساء. العبادة في هذا الدين خالية من الطّقوس، وتؤدّى صلاته على انفراد.
يعتمد البهائيون «بيت العدل الأعظم» المقام في حيفا لإدارة شؤونهم. ينتخب أعضاؤه التسعة من مندوبين بهائيين عن 183 دولة مرة كل خمس سنوات. ومن بعدها، يعين «بيت العدل الأعظم» السكرتير العام للبهائيين، وهو اليوم د. البرت لينكولين، أميركي الأصل، ولد لعائلة مسيحية في ولاية بوسطن عام 1945، ودرس موضوع علم الاجتماع والمحاماة في جامعة «هارفرد» وتعرف من خلال دراسته إلى شبّان من ديانات مختلفة، كان بينهم بهائيون. وصل إلى حيفا في عام 1993، ومنذ ذلك الحين هو يشغل منصب السكرتير العام للبهائيين في العالم.
ويقول مور إن فترة التطوع عادة ما تكون لعام واحد، مشيراً إلى أن المتطوعين يتبدلون بشكل دائم، ممنوع بقاؤهم واستيطانهم هنا حسب الدين. كما لا توجد في إسرائيل فئة بهائية «يمنع نشر البهائية هنا حسب تعاليم بهاء الله».
يعتقد البهائيون اليوم أنَّ تاريخ البهائية يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حين بشّر علي محمد، وهو تاجر شاب أطلق على نفسه اسم «الباب»، بقدوم «رسول إلهي» أعظم هو «بهاء الله»، مؤسس الدين البهائي.
أُعدم «الباب» في إيران عام 1850 وأخفيت رفاته إلى حد عام 1909، حين نقلت إلى مدينة حيفا، حيث أُقيم المعبد البهائي خصيصاً للمقام والقبة الصفراء التي تغطيه في عام 1953.
بعد إعدام «الباب»، ظهر ميرزا محمد علي، وهو شخص إيراني كان من أتباع الباب وأطلق على نفسه اسم «بهاء الله»، ويقول البهائيون بأنه النبي الذي بشّر به الباب والشخص الأول في البهائية. نفي بهاء الله إلى عكا في عام 1868، حيث كانت المدينة الفلسطينية تحت الحكم العثماني. واحتجز بهاء الله بين الأسوار، ومن بعدها خففت شروط الإقامة الجبرية عليه، فانتقل إلى خارجها. توفي في عام 1892، ودفن قرب عكا في منطقة تدعى «البهجة»، وهي أيضاً منطقة أنفق عليها «البهائيون» الكثير من الأموال ويرون ضريح «بهاء الله» «أقدس المقدسات البهائية على وجه البسيطة».
بعد وفاة «بهاء الله»، خلفه ابنه عبد البهاء عباس، الذي مات في عام 1921 ودفن في مقام الباب في حيفا. تولى من بعده شوقي أفندي نشر الرسالة، إلا أنه لم يورّث من بعده أحداً وعندها تأسس «بيت العدل الأعظم» لإدارة شؤون البهائيين.
الدخول إلى الحدائق المعلقة في حيفا يستغرق وقتاً، على الفرد أن يدخلها ضمن مجموعة حجزت مسبقاً. لا طريقة ثانية، إلا مع دوغلاس مور. للحدائق مدخلان، واحد على سفح جبل الكرمل وآخر من وسط المدينة. على باب كل مدخل ثلاثة رجال أمن مدججين بالأجهزة اللاسلكية والرقمية والقوائم.
حدائق البهائيين الممتدة من جبل الكرمل إلى حي الألمانية في حيفا، صارت حاضرة في صور المدينة. لا صورة لمدينة حيفا من دونها. يعمل في صيانتها مئات المتطوعين إضافة إلى 200 عامل من العرب. يزورها نصف مليون سائح سنوياً. ويؤكّد مور أن الدخول إلى الحدائق مجاني على قاعدة أن «الجمال من حق الجميع التمتع به». والحدائق ممتدة على كيلومتر واحد. فيها 18 حديقة معلقة، تسع حدائق فوق مقام «الباب» وتسع حدائق في أسفل على ارتفاع 225 متراً، عرض الحديقة 60 متراً تقريباً. ألوان الأحجار القرميدية تمتد تحت الشجيرات الخضراء المستقيمة. نوافير المياه تعمل بشكل متناسق في الحدائق الثماني عشرة في الوقت والقوة نفسيهما. كذلك حال الأضواء.
المعايير لبناء الضريح وما حوله لم تكن دينية. «كل المعايير جمالية»، يقول مور. ويتابع: «بنيت الحدائق بطريقة معمارية متطورة للغاية، وبدأنا العمل بها منذ عام 1987. أساليب الري حديثة، هندسة الأضواء فيها متقنة. الليل ذاته في حيفا، لكنَّ الحدائق تتجدد دائماً».
قد يبدو مشهد الحدائق والقبة الذهبية هما الأجمل، لكنَّ الواقع أجمل بكثير. المؤسسات التابعة للبهائيين مبنية على طراز جميل. تعزز جمالها في السنوات الماضية عند افتتاح الحدائق في عام 2001. كان الافتتاح الأكبر في حيفا، لكنّه الأقل ضجة. بنوا مدرجاً متنقلاً في أكثر المناطق صخباً. لكن لا أحد شعر كيف بنوه، وكيف فككوه، وكيف مر الاحتفال تماماً كما خططوا.
البهائيون لا يختلطون بالمحليين. لا يشاطرونهم الآراء السياسية في بلد يشتعل سياسياً. الناس المحليون، وخصوصاً فلسطينيي 48، يرون البهائيين «جهازاً نظامياً كبيراً»، ومن العرب من يراهم «غامضين يقف وراءهم سر كبير». ويقول أحد السكان إنَّهم «زينة المدينة»، لكن هناك من يرى أيضاً أنَّ البهائيين «خربوا البلد»، ويتساءل: «ماذا يعني أن تبني حدائق؟ ماذا تريد من الحدائق؟ لا مباني رمادية».
يعتقد الناس أن البهائي يتبرع بدولار يومياً، لكنَّ البهائيين ينفون «هذه الشائعة». يؤكدون أنهم لا يقبلون الدعم من غير البهائيين. هناك من يتبرع بالملايين، وهناك من يتبرع «بمبلغ زهيد لا يكفي حتى للطابع البريدي لإرسال الوصل». كل حسب قدرته.
«الحدائق البهائية» و«ضريح الباب» وعباس أفندي مفتوحة للزوار يومياً. من الأحد حتى الجمعة. ثلاث ساعات يومياً. من التاسعة حتى الثانية عشرة. لكن في حيفا هناك خمسة مبان غير مفتوحة للزائرين. هي أشبه بقصور تعود بالناظر إليها إلى عهودٍ قديمة من الرقي والجمال. مبانٍ ضخمة، مقارّ كبيرة. كلها تقع في محيط الحدائق. منتشرة في منطقة واحدة وفي حيفا. لا مباني تفصلها سوى حدائق خضراء.
وإذا كان الدخول مسموحاً إلى الحدائق، إلا أنه ممنوع قطعياً إلى هذه المباني الخمسة. هي أشبه بسجون ذهبية، منها مقر «بيت العدل الأعظم» ودار الآثار البهائية، التي يقول البهائيون إنها تحتوي على الكتب التاريخية للبهائية. ومبنى المركز لدراسة النصوص المقدسة، وما يسمى دار التبليغ لترويج التعليم البهائي في الجامعات البهائية والحدائق التذكارية.
فراس خطيب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد