هيكل يحاضر في أكسفورد حول الجسور والعقبات بين الشرق والغرب
اللورد «باتن»، رئيس جامعة أوكسفورد
حضرات السيدات والسادة
يسعدني ويشرفني أن تتفضلوا بدعوتي أول متحدث في المحاضرة التذكارية بكلية الصحافة التي أسس لها هذا التوافق بين جامعة «أوكسفورد» ووكالة «رويترز».
إن هذا التوافق بين جامعة عريقة (أوكسفورد) ووكالة أنباء شهيرة (رويترز) يصعب أن يكون لقاء مصادفات، إذا دققنا أسبابه وتمثلنا نتائجه.
ومن وجهة نظر عملية ـ وعلمية كذلك ـ فإن الصحافة على تنوع وسائلها وأدواتها لديها ثلاثة طرق اقتراب واضحة إلى وظيفتها الحيوية في مجتمعات الحرية والتقدم.
أول طرق الاقتراب: أن تكون الصحافة ـ مكتوبة أو مسموعة أو مرئية ـ خطوطا مفتوحة تنقل القرار السياسي على اختلاف مجالاته: داخلية وخارجية ـ اقتصادية واجتماعية ـ استراتيية وعسكرية ـ من مواقع صُنعه إلى أوسع دوائر المواطنة التي يهمها شأنه، بحيث يتأكد الحق العام في العلم به، وتتوافر إمكانية التعرف على موجباته، والاستعداد لآثاره وتكاليفه، والاطمئنان إلى اتساقه مع الإرادة العامة في الوطن وخارجه، وكي يظل تحت المتابعة الدستورية والقانونية، ويصبح الرأي العام قادرا على ممارسة مسؤولية الرقابة عليه، والقدرة على إعادة توجيهه ديموقراطيا إذا لزم.
وطريق الاقتراب الثاني: أن تكون وسائل الصحافة وأدواتها خطوطا مفتوحة ـ أيضا ـ ما بين مجالات الفكر والعلم والفن من مراكز حيويتها، سواء في الجامعات، أو المعاهد ومراكز البحث، أو مسارح العرض والأداء وأشكالها المتعددة في التعبير، إلى جمهور واسع له الحق أن يرى ويستوعب ويستمتع.
وطريق الاقتراب الثالث: أن تحاول نفس الوسائل والأدوات قصاراها كي تنقل وتستثير أنفع وأرفع حوار بين القرار السياسي وشؤونه الجارية وقضاياه واهتماماته، وبين الأفكار وقدرتها على تخصيب الفعل الإنساني وتوليده، كي يجمع الحوار ما بين الفعل والفكر، ويؤكد القيمة ويحفز إرادة إنسانية ذكية وقوية. وهنا فإن التوافق بين الجامعة العريقة ووكالة الأنباء الشهيرة يصبح مرغوبا فيه ومطلوبا.
[ [ [
إن طرق الاقتراب الثلاثة كما وصفتها لا تحقق مطلوبها بهذه البساطة التي وصفتها، فالواقع العملي أكثر تعقيدا، لأن مراكز صُنع القرار لا تمارس فعلها المثالي المفترض، وإنما تمارسه تحت سطوة صراعات تاريخية كبرى ومصالح يتعارض بعضها مع بعض، والكثير منها غائر في زمانه، أو جامح في مقاصده، أو عنيف في ممارساته، وفي ظل هذه الأحوال فإن القرار السياسي تحكمه ـ بالقطع ـ عوامل غير مثالية!
بالتوازي، فإن مجالات صُنع الأفكار ومنجزات العلوم وتجليات الفنون لا تطرح ما لديها في ذات الفضاء المثالي المفترض، وإنما تتأثر هذه المجالات في مجمل نشاطها بضغوط يناسبها أن تضرب علها تزيح، أو تحجب علها تحتكر، وهنا تبرز عوائق تعرقل المثال الحر للقيمة والقدوة.
يلي ذلك أن قنوات الاتصال التي تمثلها الصحافة لا تمارس دورها في نقل الأخبار والأفكار وصوت وصدى الحوار، على خطوط مستقيمة سالكة ومطهرة، وإنما تتعرض قنواتها المفتوحة على الطرق الطويلة لأنواع ودرجات من التدخل والتحيز تمليها الصراعات والضغوط والمصالح، وحتى الأهواء والأمزجة.
حضرات السيدات والسادة،
إنني سعيد بهذه الفرصة التي أتحتموها لي كي أتحدث أمامكم في هذه المناسبة التي توافقت فيها جامعة عريقة مع وكالة أنباء شهيرة على لقاء يسهم في دعم كفاءة الإعلام من حيث إعداده وتأهيله لأداء دوره من دون عوائق بين القرار والأفكار والحوار، وبحيث يتحمل هذا الإعلام مسؤوليته في أزمنة متغيرة.
إننا نتحدث كثيرا عن عالم واحد لكن مثل هذا الحديث فيه قدر من المبالغة، أو ربما التمني، فقد نكون في حكم الجغرافيا عالما واحدا، لكننا في حكم التاريخ عالمان: شمال وجنوب، وليس يجدي أن نتأدب ونجامل في الحقيقة، وكذلك ليس يجدي أن نكتفي بالنظر إلى النخب المتعولمة في الجنوب، وننسى الكتل الهائلة من البشر وراءها، بل بعيدا عنها.
إن هناك عالمين: شمالا وجنوبا، والفجوة بين الاثنين واسعة وخطرة، وهي تزداد اتساعا وخطرا إذ تلتبس الحقائق وتتداخل الهواجس بين المثالي المفترض وبين الواقع العملي المعقد عند صناع القرار والأفكار، وعندما تتلكأ قنوات النقل والتدفق الحر، وتتلوى مرات وتنسد مرات، وتصبح الفجوة هوة، والهوة هاوية، وتتحول الرسالة للغم في حرف أو قنبلة في رسم!
حضرات السيدات والسادة،
إذا كانت دعوتكم مبعث سعادة وشرف لي، فهي في ذات اللحظة مسؤولية تدعوني الى أن أتحدث معكم بصراحة وأمانة، أزعم أنها قد تكون مقبولة مني وربما مغفورة.
ذلك أنني رجل من عالم الجنوب يدرك هموم عالمه لأنه يعيش واقعها، وهو يتحدث إلى عالم الشمال ويحسب أنه يستطيع فهمه، بظن أن الظروف أتاحت له أن يعيش مهنة الصحافة في الجنوب وفي الشمال معا، فقد كتب في العالم العربي وعنه، ومارس في الجريدة والكتاب والتلفزيون هناك، ثم إن الظروف منحته فرصة أن يمارس هنا كذلك، وانطلاقا من هذا البلد بالتحديد، حيث قامت صحف ودوريات بريطانية عديدة مثل «التيمز» و»الغارديان» و»الإندبندنت» و»الأوبزرفر» بنشر مقالاته وأحاديثه، ثم إن مؤسسات نشر عريقة قامت بإصدار الطبعات الأصلية من كتبه، فظهرت كاملة في المكتبات لطالبيها، ثم نشرت على فصول مسلسلة حملتها صحف كبرى مثل «الصنداي تلغراف» و»الصنداي تيمز» إلى جانب مقالات وأحاديث وغيرها، وكل ذلك أخذ عمله إلى لغات كثيرة وصلت به واسعا وبعيدا!
حضرات السيدات والسادة،
قلت إن انتمائي لعالم الجنوب يجعلني مدركا لهمومه ومشاكله، وقلت إنني زائر للشمال يظن أو يتوهم أنه يتفهم هذا العالم ومحركاته، وقلت إن المسافة بين العالمين واسعة وتزداد اتساعا، وأسمح لنفسي بالقول، من هذه الحافة بين العالمين، إننا نحتاج الآن وبسرعة إلى جسور لعبور هذه المسافة، وإلا تصادمت الكتل ووقعت انفجارات مهولة تسقط مثل الكواكب التي يختل مدارها في ثقوب سوداء في مجاهل الفضاء! وبعض ذلك وارد، واحتمالاته تتزايد إن لم نبذل جهدا، وأول الجهد أن نتصارح، مهما كانت المصارحة مزعجة!
دعوني أبدأ وأقُل بتعميم إجمالي، إن عالمنا في الجنوب يشعر بأن القرار الصادر من مراكز القوة الدولية ـ كما يصل إليه ـ يصدمه بقسوة لا يبدو أنها تأبه وتهتم ـ وبإصرار على العنف لا يبدو أنه يخشى أو يتحرج ـ ثم إن صوت الحوار لا يدعوه إلى مشاركة، لأن القرار في معظم الأحيان ينقض عليه بغتة ودهما.
يشعر عالمنا في الجنوب كذلك بأن دنيا الأفكار والعلوم والفنون ـ كما تضيء أمامه من بعيد ـ ليست مقبلة عليه أو مرحبة به كما يأمل ويتمنى.
ثم إن صوت الحوار يصل إلى الجنوب ـ إذا وصل ـ مثقلا بشوائب من التحيز بل والعدوانية!
وهنا وفي هذا السياق فإنني أستأذن أن أطرح أمامكم ثلاث ملاحظات، آمل أن توضع في اعتباركم، راجيا أن لا يُعتبر القول فيها نوعا من الشكوى أو عارضا من هواجس عقد نفسية لدى القائلين بها، وإذا بدا ظاهر هذه الملاحظات بعيدا عن الموضوع، فإنني آمل في صبركم لعله يتضح أنها قريبة منه إن لم تكن في صميمه.
أولى الملاحظات: أننا لسنا أمام صراع حضارات متعددة متعارضة يمكن أن تتصادم أو تتصالح، لأن شواهد التطور التاريخي تومئ إلينا بأنها حضارة إنسانية واحدة، صب فيها الجميع ما زاد عندهم أوقات الفيض، وسحب منها الجميع ما لزمهم أوقات الجفاف، وساعدوا ـ كلٍ في زمانه ـ على ملء خزان هائل للحضارة الإنسانية أصبح شراكة طبيعة ورصيدا جماعيا متاحا بالحق لمن يريد ويستطيع.
ومن المفيد هنا أن نتذكر أنه مع اتساع الأرض واتصال التاريخ، فإن كافة الشعوب والأمم قدمت ما راكمته من ثقافات البيئة والمعرفة والتجربة ـ وعن طريق الانتقال الحر للمنافع ـ إضافات سخية ومستمرة وتلقائية، إلى المشترك البشري الجامع.
ذلك حدث حالة التأمل والفلسفة بحثا عن الحق والحقيقة. حالة كشف العقل حين تعرف الناس في الفجر الإنساني الأول على ملكات التصور، وتوصلوا إلى سر الحرف في الأبجدية وسحر الرقم في العدد. حالة التنبه إلى معجزة الزراعة. حالة صناعة الأدوات والمعدات. حالة فنون المعمار. حالة فتح الطرق واستئناس وسائل المواصلات. حالة صنع السفن وركوب البحار. حالة النظر إلى الفلك ومسارات النجوم... إلى آخره.
في هذه الحالات وغيرها، فإن الثقافات الطالعة في كل مكان شقت جداول وينابيع محلية، فاضت على جوارها عندما تبين هذا الجوار نفعها، ثم التقت هذه الجداول والينابيع لتكوِّن ما يمكن أن نسميه مجمع ثقافات أو أحواض حضارة، بعضها يكاد يكون مرسوما محددا كخط بالقلم ومثاله الأظهر حوض البحر الأبيض. ثم إن الأحواض الحضارية في كل إقليم من أقاليم الدنيا امتلأت وفاضت، وتمددت واتصلت بحيث بسطت محيطا واسعا لحضارة إنسانية قابلة للانتشار، قادرة على العطاء، عابرة للزمان والمكان.
وعلى امتداد عملية التفاعل بين الثقافات وهي تتدفق من مواقعها الأولية وأحواضها الأوسع إلى المحيط الكبير، وما بين الصب والسحب من الرصيد المشترك للحضارة الإنسانية، فإن الحوض الحضاري للبحر الأبيض تحركت عليه تيارات تتبدى كأنها خريطة مناخية حية موصولة بين معابد وقصور بابل ومنف إلى أروقة وأعمدة أثينا، إلى مكتبة الإسكندرية، إلى دار الحكمة في بغداد، إلى دمشق، إلى قرطبة، ثم عبر صقلية نحو جنوب أوروبا، إلى إيطاليا، ثم إلى الشمال نحو ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ثم يتجه الخط عابرا للأطلسي إلى أميركا ينفذ من الشاطئ إلى الشاطئ في اتجاه الباسيفيك، ليعود فيطل على شرق آسيا، فإذا الحيوية المتجددة لفيض البحر الأبيض عبر الأطلنطي، تجتاز المحيط الهادي كي تلتقي هناك بالحوض العميق للحضارة الصينية.
لقد تصادف هذا الصيف أنني وقفت أمام مكتبة الإسكندرية التي أعيد بناؤها، ثم كنت بعد أيام عند سفح «الأكروبول»، ثم صعدت سلم كنيسة القديس «بطرس» في الفاتيكان، ثم تجولت متأملا معالم النهضة ومقتنيات القصور في فلورنسا، ثم مشيت فوق جسور فينيسيا نحو ميدان القديس «مرقس»، وعند هذه المواقع ومشاهدها فقد ملأت خواطري عبارة كتبها الأستاذ Stefano Carboni أمين متحف «المتربوليتان» في نيويورك قال فيها: «إن حوض البحر الأبيض المتوسط حدود سائلة! «Liquid Frontiers»، وذلك وصف دقيق لحركة الثقافات في صنع أحواض حضارية، ثم فيضان هذه الأحواض لتصنع محيطا حضاريا عالميا وإنسانيا واحدا، وربما أننا إذا عدنا لحظة إلى مجال السياسة نتذكر أن هذا المحيط الإنساني ينسب ـ ولو من باب المجاز ـ في كل عصر إلى القوة الغالبة فيه: فهو فرعوني في عصر. إغريقي في عصر ثان. روماني في عصر ثالث. مسيحي في عصر رابع. إسلامي في عصر خامس. أوروبي في عصر سادس. أميركي هذه اللحظة العابرة!
ومع تعدد اللغات في حالة الثقافات، فإن الحضارة لها لغة رئيسية في كل آن، هي لغة القوة الغالبة في زمانها. فهذه اللغة الرئيسية نطقت يونانية لحظة، لاتينية لحظة أخرى، عربية بعد ذلك، ثم فرنسية أو إنكليزية في هذا الزمان. وقد تصبح نبرة أخرى غدا أو بعد غد!
وعلى تقلب العصور فإن غلبة القوة لا يصح أن تُنسينا شراكة الرصيد الإنساني لمحيط الحضارة ـ فوق أي إمبراطورية ـ أو لغة!
[ [ [
أنتقل إلى ملاحظة ثانية ملخصها أنه قبل سنوات قليلة وقع استغلال فجيعة إنسانية محزنة ضربت مدينة نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) ,2001 وبهذا الاستغلال تحولت الفجيعة إلى عملية تلاعب مقصود بالصور وبأسلوب خداع البصر، فإذا العالم يفاجأ بأن صورة المسلم ـ عربيا وغير عربي ـ قد أزيحت لتحل محلها صورة المتعصب الإرهابي، ثم تضافرت عناصر من عوالم القرار والأفكار والحوار تحت ضغوط المصالح المتصارعة بقصد ترسيخ هذا التلاعب بالصور وخداع البصر، إلى حد إعادة كتابة قصة الإرهاب في التاريخ، فإذا الشمال بريء منه، وإذا الشرق الأقصى بعيد عنه، وإذا الدين الإسلامي وحده مرادف للانتحار والقتل في المخيلة العامة الشائعة في الشمال.
نلاحظ أن رمزا دينيا له مقامه هو بابا الفاتيكان «بنديكتوس السادس عشر» وقف يتحدث عن الإسلام وعن الحضارة في جامعة ألمانية، فإذا هو يلحق «التمدن» بالشمال، والهمجية بالجنوب الإسلامي، ويقرر ولو بالتلميح أن الفارق بين العالمين: «أن الغرب أخذ من المسيحية ثم من الفلسفة اليونانية ما يميزه عن غيره في إعلاء قيمة الإنسان»، وكان أمل كثيرين ورجاؤهم لو تذكر خليفة «بطرس الرسول» أن المسيحية كلها غيث نزل على الشرق وفاض على الغرب رسالة وحكمة ـ حواريين وقديسين ـ قصصا وتعاليم ـ صلوات وترانيم، كما أن السيد «المسيح» نفسه من مواليد «الناصرة»، والقديس «بطرس»، الذي يقوم الفاتيكان على رفاته من أبناء القدس، كلاهما من الشرق، وأن القديس «مرقس» الذي تقوم كنيسته بمعمارها المتميز على أجمل ميادين أوروبا «سان ماركو»، مولود في أقاصي صعيد مصر، وكان مدفنه في الإسكندرية، ومنها أخذ رفاته (ولا أقول سُرق) في القرن التاسع إلى «فينيسيا»، وذلك رغم ان كبار فناني النهضة جنحوا إلى تصوير هؤلاء الرسل والقديسين والحواريين معظم الوقت أصحاب بشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر ذهب.
هذا عن التأثر بالمسيحية في شأن تمدن الشمال أو تمدن الغرب.
وأما عن نفحة الفلسفة الإغريقية، فليس هناك من لا يعرف أن الفلسفة الإغريقية لها مقدمات سبقتها وجوار مشرقي أحاط بها وانساب إليها، ثم إن الفلسفة الإغريقية ضاعت من أوروبا في ظلام القرون الوسطى، بينما كان الجنوب الإسلامي في حالة انتعاش وتدفق ثقافي، وضمن تفاعلات هذا الانتعاش والتدفق فإن الفلسفة الإغريقية عادت إلى أوروبا عن طريق فلاسفة الأندلس العرب، وعلى رأسهم الفيلسوف المسلم الأشهر «محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي»، ولم يكن «ابن رشد» وغيره من فلاسفة الإسلام مجرد وسطاء أو ناقلين، وإنما كانوا مجددين زادوا بالدرس، وتوسعوا وأحاطوا.
هي إذاً حدود سائلة على حد وصف أستاذ متحف «المتربوليتان» الحكيم.
[ [ [
حضرات السيدات والسادة
بقيت ملاحظة ثالثة أتمنى أن ألمسها في رفق.
إنني توسعت كثيرا في حديث التاريخ، بينما حديثنا عن الصحافة، وظني أن هناك صلة من نوع ما بين الاثنين، معقدها أن الشرق المسلم ومعه مسيحيوه يدفع الضرائب مرتين:
الأولى ـ لأن حركة التقدم العالمي بسبب ثورة العلوم والتكنولوجيا لم تعطه حتى الآن فرصة لالتقاط الأنفاس، يمسك لحظتها بالعصر ويواصل معه، وفي حين أن الشرق البوذي نجح، أحيانا، في الإمساك باللحظة، فإن الشرق الإسلامي ومعه مسيحيوه تعذر عليهم اللحاق لأسباب معقدة ليس هذا مجالها.
والثانية ـ وهي التي تعنيني لاتصالها بموضوع الإعلام، وملخصها أن الشرق المسلم يعاني من أن الأقلام والأضواء والعدسات كلها توجهت وتركزت عليه، بينما هو يعاني المرحلة الأصعب في الانتقال من قديم إلى جديد، ومن تأخر إلى سبق، ومن عتمة إلى نور.
وبالطبع فإنكم تتذكرون أن ولادة الجديد عندكم جرت وراء ستار، وأما في عالمنا فإنها جارية في منتصف النهار، وكذلك كان الجديد عندنا حملا ومخاضا وميلادا عاريا تحت الوهج وعلى مرأى ومسمع من عالم يتابع ما يجري متجاهلا لحقيقة أن الحمل والمخاض وولادة الجديد حتى وإن كانت مؤلمة عندكم كما هي عندنا، فإن الفارق أنها جرت عندكم مكتومة لتظهر بعدها في كتب التاريخ بأثر رجعي، لكنها عندنا جرت على الهواء مباشرة فبدت وكأنها فضائح بالصورة والصوت واللون.
حضرات السيدات والسادة
لقد كنتم محظوظين في اجتياز الجسور من التخلف إلى التقدم، ولم يكن لدينا مع الأسف هذا الحظ أو بعضه.
ويسأل بعض زملائنا هنا في الشمال: وماذا نفعل؟ أليست تلك طبيعة عصر السرعة؟ والتساؤل صحيح، والرد عليه بأمانة: أن الإعلام في الغرب ليس مطالبا، بالتأكيد، وهو يغطي الشأن الجاري في الجنوب أن يستعيد السجلات كل مرة، لكن المرادف المعنوي لتعذر الاستعادة، هو استذكار درجة من ثقافة الإدراك والتعاطف والموضوعية.
دعوني أقل إنه ليس من باب التعسف أن نسأل لو أن الصحافة الحديثة وضمنها وكالات أنباء مثل «رويترز» أو مؤسسات مثل A.B.C، وC.B.S، وN.B.C، والجزيرة، وSKY، وFOX، وC.N.N، كانت حاضرة زمن حروب الأباطرة والملوك، والكرادلة والعلماء، والمذاهب والطوائف، والقوميات والطبقات، والإمبراطوريات التحديات الإمبراطورية لها في أوروبا؟!
ماذا على سبيل المثال لو كانت هذه الصحافة الحديثة حاضرة أيام مذبحة «سان بارتولميو»، مثلا، حين جرى ذبح مئات الألوف من «الهوجونوت» الفرنسيين على أيدي مواطنيهم من الكاثوليك، بتحريض كرادلة ونبلاء؟!
وماذا لو كانت هذه الصحافة الحديثة حاضرة في ميدان «الكونكورد» حيث كانت مقصلة الثورة الفرنسية تدور وتقطع رؤوس الملوك والأمراء والسياسيين والمفكرين كل يوم من الصباح إلى منتصف الليل؟! أو لو عبرت البحر إلى برج لندن تنقل ما يجري وراء أسواره للإخوة من النبلاء والمحظيات وأولياء العهود من مآس وأهوال؟!
وماذا لو كان هناك بث على الهواء مباشرة لوقائع الحرب الأهلية الأميركية، حين قتل فيها الأخ أخاه، وانتهك عرضه، وحرق زرعه واستباح مدنه وقراه في أطول مجزرة عاشتها أميركا، وأغزر شلال دم تدفق في العالم الجديد!
وماذا لو كان نفس البث المباشر حاضرا ينقل على الهواء مباشرة مشاهد بعض أو أشد الأعمال ظلما في تاريخ الإنسانية؟! تلك التي كان الشمال لسوء الحظ فاعلها، من ظاهرة الاستعمار إلى ظاهرة العبودية، وإلى ظواهر أخرى متوالية في قلب القرن العشرين، وضمنها الستالينية والفاشية والنازية، ومعاداة السامية، ومحارق الهولوكوست التي طالت اليهود وغيرهم من الأجناس والأعراق.
وماذا لو أن هذه الوسائل كانت حاضرة وعلى الهواء مباشرة تنقل الحرب الأهلية في أسبانيا، وتنقل فظائع «جويرنيكا» وفالينسيا» و»توليدو»، بدل أن تعتمد في وصفها على لمحات من كتابات فنانين وساسة من وزن «بابلو بيكاسو» و»أرنست همنغواي» و»أندريه مالرو» و»هيو توماس»؟!
تذكرون أن وسائل الإعلام الحديث لم تلحق إلا قرب النهاية بأهوال الحرب العالمية الأولى، وإلى حد محدود بالحرب العالمية الثانية، ونعرف بالطبع أن هاتين الحربين العالميتين كانتا صراعا بين قوى الشمال ذاتها، لكن الأطراف المتحاربة نقلت ميادين القتل إلى كل القارات وفرضتها على كل الأمم والشعوب، وكانت الحصيلة الإنسانية ما بين ستين وسبعين مليونا من القتلى، وما بين مئة وخمسين إلى مئة وسبعين مليونا من الجرحى في الحربين معا، وعندما جاء المشهد الأخير في الحرب العالمية الثانية ووقع استعمال السلاح النووي، فإنه لم يكن هناك نقل مباشر على الهواء، وعلى أية حال فقد اكتفينا جميعا بسماع أصداء المأساة قائلين في نَفَس واحد شمالا وجنوبا: لن يتكرر ذلك مرة أخرى، ومع ذلك وبرغم هذا التعهد الإنساني الجامع فإنه عندما نشبت المعارك في أفغانستان والعراق، لم تتورع القوات الأميركية عن استعمال أنواع من أسلحة «اليورانيوم» المستنفد، وتلك درجة من الاستهتار، بالوعد وبالإنسان، يصعب اغتفارها.
حضرات السيدات والسادة
تلاحظون أنني أطلت الحديث في ما جرى عندكم، وكنت في ذلك عامدا حتى تبين الصورة أمامكم، ومع أن ذلك إلحاح، أعتذر عن طوله ولا أعتذر عن مقصده، فمن الإنصاف أن نتمثل وجها آخر للحقيقة وهذا هو الحال دائما، فإلى جانب ما عرضت لطرف منه، وكان يمكن أن أمضي في قوائمه إلى ما لا نهاية، فإن هناك فضلا يصعب إنكاره مبدئيا على صحافة الشمال، أوله ودون تحفظ، فإن بعض قضايانا توجهت إليها لمحات مضيئة لضمائر يقظى قاومت ضغوطا وتهديدات نعرف مدى خطرها ونقدر درجة نفاذها إلى دوائر صنع القرار والأفكار والحوار.
وعلى سبيل المثال، فإنه رغم سطوة أصدقاء إسرائيل فإن بعضا من الحقيقة ظهر وبان عن قضية الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من أرضه وأزيح إلى معسكرات و»غيتوات» مقهورة يائسة، ثم إنه برغم سلطان ما سُمي بجماعة المحافظين الجُدد ومعهم مجموعة المستشرقين الجدد، فإن حقيقة ما جرى في العراق تكشفت ابتداءً من غزو وطن عربي وتمزيقه بغرور وجهالة القوة وبذرائع مختلقة، كما أننا عرفنا أن الشعب العراقي فَقَدَ نصف مليون مواطن قتلوا، وثلاثة ملايين خرجوا لاجئين من وطنهم، بعضهم داخله في العراق، وأكثرهم في المنافي خارجه، ثم إننا بفضل تلك الضمائر اليقظى في الشمال عرفنا ما جرى في معاقل القهر من «غوانتانامو»، إلى «أبو غريب»، إلى الفلوجة، إلى البصرة، إلى الموصل.
إن تلك الضمائر الحية في صحافة الشمال هي التي كشفت كثيرين من هؤلاء الذين قدموا خططا سياسية، والذين قدموا فتاوى علمية في خدمة مشروع أخذه ما يعتري الإمبراطورية من حماقة القوة، وتجاهل ما تراكمه الإمبراطورية من حكمة الخبرة، ليثبت أن مشروعه هو الأقصر عمرا في تاريخ الإمبراطوريات، لأنه الأقصر نظرا بينها!
إننا وأهم من ذلك كله في تجربة الصب والسحب من الرصيد الإنساني المشترك في المحيط العالمي الأوسع أخذنا هذا العلم البديع الذي قام هذا المعهد ليخدم أهدافه وهو: الصحافة مكتوبة مسموعة مرئية، ولا أتجاوز إذا قلت إنه أدى دورا هائلا في حياة عالمنا.
إنكم بالطبع سبقتم وطورتم، مستعينين باختراقات التكنولويا، حتى أصبح الإعلام العابر لمسافات الكون، أبرز ظواهر العصر وأقوى محركاته.
حضرات السيدات والسادة
على أن طبائع مراحل التطور كما تفتح باستمرار، تقيد أحيانا فتضع حدودا لما يمكن أن يأخذه الناس عن غيرهم، بل يتحتم عليهم أن يصنعوه في تجربتهم بآلامهم، لأن هناك مجالات يستحيل فيها اختصار المعاناة بالنقل أو بالمحاكاة، تجنبا لإعادة اختراع العجلة من جديد.
وأول هذه المجالات هو مجال الحرية ليس بمعناها الشاعري وإنما باعتبارها توجها إلى نظم دستورية وقانونية مضمونة بعقد اجتماعي وسياسي يفرض احترام الحقوق، وبحيث يستطيع أي مواطن حر أن يمارس مسؤولية المواطنة.
إن تجارب الحرية يصعب نقلها ويصعب انتشارها، وتعميمها بالحركة الطبيعية الذاتية لعملية التطور، بل يتحتم صناعتها من البداية إلى مقصودها، أو صيانة هذا المقصود والدفاع عنه، لأن العصور لا تتماثل، والأحوال لكل أحكامها.
فعبر القرن العشرين، بالذات، تحددت القواعد والأصول عندكم، وأصبح ممكنا إرساء أصول وترسيخ بناء، وذلك لم يحدث بعد عندنا في الجنوب، حيث ما زالت الحدود مضطربة، وما زالت القواعد واهية، لأن الصراع من أجل التنوير والحرية والتقدم يتخبط محتدما وتحت ظروف عصية.
بينها أن هذه المعركة في الجنوب تختزل في لحظة زمنية راهنة معارك واجهت الشمال متتالية، فهناك تعاقبت وتوالت عصور التغيير: الحرية والتنوير، الصناعة والتجارة، العدل الاجتماعي، المواصلات والاتصالات، الإنترنت وعالم النشر الإلكتروني، لكنه عندنا تزاحم ذلك كله مع تباين الخلفيات والرؤى والضرورات.
وبينها أن تداخل العصور أحدث ضغوطا ومؤثرات حادة، قومية ودينية وطائفية ومذهبية أدت إلى خلط بين الأولويات، وإلى شطط في الوسائل قاد أحيانا إلى مجاهل تاهت بعيدا بالمقاصد.
بينها أن المناخ الذي يحيط بعملية ولادة تجري على الهواء مباشرة، على قارعة الطريق وفي منتصف النهار يصيب كل الأطراف بكل الأعراض التي تصاحب الانكشاف، ومنها الاضطراب والادعاء والإخفاء والتعمية.
وبينها أن نظم الحكم القائمة عجزت أن تؤسس لنفسها شرعية دستورية أو قانونية، ولم تعد سلطتها اختيارا وتفويضا بل إملاءً وقمعا، تعطلت إزاءه دواعي الرشد السياسي والاجتماعي وإدارة الأزمات، وذلك ساعد على الإساءة لمشهد التطور عندنا وإساءة إلى صورته.
ومع أنني أتردد كثيرا قبل أن أضيف أي مسؤولية إلى حساب غير المعنيين في الأصل بها، فلابد من القول، ودون حرج، أن العنصر الخارجي يلعب دورا شديد السلبية في منطقتنا من الجنوب، بالتحديد الشرق الأوسط.
فهناك في قلب هذه المنطقة ثلاثة دواعٍ للخطر أشير إليها باقتضاب لكي أتجنب تكرارا شائعا ومملا رغم صحته، وهي بالترتيب: الموقع الإستراتيي، وأهمية البترول حتى يظهر بديل له، وإسرائيل.
وهنا فمن الحق أن أضيف أن التفاعل بين عوار الشرعية الذي أصاب الدولة العربية الراهنة، مع ضغوط التطور في الداخل على النظم، مع دواعي الخطر من العناصر الخارجية، كل ذلك أدى إلى فجوات واسعة سمحت بالتدخل الدولي في الشأن الداخلي للمنطقة، على أنه لسوء الحظ أن بعض النفاذ الخارجي إلى المنطقة لم يكن دائما ضيفا ثقيلا دعا نفسه، وإنما وصل مدعواً مرغوباً فيه لمناورات السياسة الداخلية وتوازناتها المتصورة أو المتوهمة!
حضرات السيدات والسادة
إذا كنت قد وجهت بعض الملاحظات وفي لهجتها نبرة حدة، فإنني لم آت إلى هنا مكابرا ولا معايرا.
وإذا كنت في نفس الملاحظات قد اعترفت بالتقدير لضمائر حية أدت أمانتها عندكم، فإنني لم آت إلى هنا مادحا أو مهنئا.
وإذا كنت أخيرا قد لمست جانبا من الأوضاع الراهنة في أحوالنا، فإنني لم آت إلى هنا شاكيا أو محرضا.
لقد جئت إلى هنا لداعٍ رئيسي هو أن أطل على مشهد المحيط الحضاري الإنساني، قريبا من شاطئ المهنة التي تعنيكم وتعنينا، وجئت وورائي مؤسسة تحمل بمحض المصادفات اسمي، شاغلها خدمة الكفاءة المهنية لشباب الصحافيين العرب.
وقصارى ما أريده وذلك قصدي وهدفي، لا يخرج عن المشاركة معكم في بناء جسر على موقع من مواقع الحضارة الإنسانية الواحدة التي صبت فيه كل الأمم ما تجمع لديها من نتاج ثقافاتها مما يكون صالحا للجميع، وحقا للجميع، لأنه ملك الجميع.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد