مؤتمر اسطنبول ودور إعلامنا في السياسة الخارجية
الجمل - هدى العبود: ما أن حطت الطائرة فوق أرض مطار أنقرة ذات مساء بارد جداً , حتى بدأت الصور تتوارد تباعاً في مخيليتي , عن هذه الإمبراطورية القديمة التي كانت تعانق الشمس من قسرتها, ويرقص فرسانها الأشداء على أنغام الفالس في شوراع فيينا, عاصمة الموسيقى الكلاسيكية بلا منازع , صور شتى راحت تتداخل وتتعانق لتشكل لوحة لبلد , لست أدري لماذا يعود الآن ليقرع أبواب الاتحاد الأوروبي طالباً منحه عضويته, ولو هزيلة ناسياً أن حضارته ما تزال تسم كل بلدان البلقان, وأن نهضته الإقتصادية والعمرانية والحضارية تنذر بأنه قادم إلى مدينة تلوح شمسها نحو الأفول أفي ذلك ضرب من الهروب نحو الأمام أم لا سلاح عن ماض يؤرق في بعض ثناياه.
ما من زائر لاسطنبول إلا ويتساءل : هل يمكن أن توجد في أوروبا عاصمة أو مدينة تضاهيها تألقاً وجمالاً , ودفئاً روحياً تنثره مآذنها الشاهقة التي ترفع ذكر الله بصوت رخيم لا يضاهيه شيىء آثرت وزملائي الخمسة, أن نكون في أنقرة قبل يوم من وصول وزير خارجيتنا لحضور وقائع مؤتمر وزراء خارجية دول الجوار للعراق . وكان الأمل يحدونا جميعاً بالاستئثار بتغطية إعلامية مميزة نظراً لأهمية الصحف العربية التي نمثلها.
توجهنا في اليوم التالي إلى فندق الكوراد حيث من المقرر أن يعقد اجتماع الخبراء في ذلك الصباح البارد جداً والمنذر بتساقط الثلوج , لنفاجأ برهط من البوليس التركي على بوابة الفندق يرفع في وجهنا, نحن الصحفيين السوريين فقط , ممنوع الدخول ..
لماذا نحن دون غيرنا من باقي الإعلاميين ؟ سألناهم فأجابوا : "هكذا ممنوع "بجلافة وتركونا ,على الرصيف , تحت رحمة البرد من جهة , وتحرشات كلابهم البوليسية المصحوبة معهم من جهة أخرى ..
قلنا لا بد أن نفعل شيئاً ما يغير في واقع الأمر , كيف سنبرر لصحفنا التي أوفدتنا أمر منعنا من الدخول إلى المؤتمر ؟
اتصلنا بسفارتنا في أنقرة شاكين أمر حالنا , فتجاوب القنصل العام , ووعدنا بايفاد موظف من السفارة لمعالجة الأمر بالسرعة القصوى .
عدنا الى دوامة الانتظار من جديد على رصيف الفندق وبدأت الساعات تمر دون جدوى ,لنعلم فيما بعد أن الموظف قد غير اتجاهه, ومضى إلى المطار لاستقبال السيد الوزير....مع القنصل العتيد, إلى أن أشفق على حالنا زميلنا كبير الصحفيين وقال :"إن الموظف الغلبان من السفارة حاله من حالنا" وصحبنا الى فندق تشرغان الشهير " أي قصر يلدز " علينا أن نتبعه دون أن نسأله الى أين ؟
وعندما وصلنا باب القصر المنيف استقبلنا البوليس ومعه كلابه البوليسية فقامت بواجبها بأن دارت حولنا للشمشمة " وأنا والله اعترف لكم لا أنتمي لأسرة أرستقراطية خبرت تربية الكلاب بأصنافها وأنواعها كان "قلبي مقطوع خوفاً من استقبالها لنا مشكورة ودخلنا مرحب بنا الى انتهى بنا المطاف على ضفاف البوسفور " ليس داخل القصر المنيف او اللوبي للفندق " وهناك تعرفنا على زميل عراقي يدعى "سلام" كان منهمكاً باعطاء رسالة حملت معلومات لم نسمع بها ولم يبق عليه إلا أن يعطي البيان الختامي "
فقال أهلاً أنتم عرب نعم من سوريا فقال مشكوراً " تعالوا معي لأدخلكم إلى القصر , فهرعنا وراءه عبر ممرات ضيقة أوصلتنا الى مطابخ القصر وهناك "ظن وان بعض الظن إثم " العاملون في المطبخ أننا قدمنا لتناول وجبة الغذاء فأشاروا لنا للدخول من الرواق الآخر , وكان البرد قد أخذ منا مأخذه ودخلنا مسرعين باتجاه اللوبي أدركوا أننا متعبين وخائفين من تحرشات الكلاب لبوليسية بنا طيلة ساعات من الوقوف والإنتظار والسير عبر الممرات , ولم تنقطع اتصالات رؤساء التحرير بنا مستغربة صمتنا , وقد قارب النهار على الزوال .. الى أن أتى الفرج أخيراً وظهر لنا وزير خارجيتنا وزودنا بموجز أعمال المؤتمر وأطلعنا بلفتة طيبة منه فيما بعد على ما جرى طيلة النهار, وأجاب مشكوراً على تساؤلاتنا , فخرجنا نتنفس الصعداء... فقد تمكنا أخيراً من الحصول على مادة إعلامية تسمح لنا بإرسالها لصحفنا التي أوفدتنا .
حضرنا صبيحة اليوم التالي إلى الفندق الشهير " تشرغان" وكان لزامأ علينا أن نسلك نفس طريق اليوم الفائت أي خلسة .
ربما قد تنبهت الدولة المضيفة لمؤتمر جوار العراق الجريح لما ألحقته بالإعلاميين من استهتار غير مسبوق فأقاموا لنا " خيمة كبيرة" في حديقة القصر فتمكنا من لقاء سلطانوف , وعمرو موسى , ومتكي , وعلي الدباغ الذين أجابوا على جميع أسئلتنا بصراحة وشفافية ووضوح وظننا أنه لم يعد هناك أي فرصة للتسريبات الإعلامية التي أضحت لأزمة بهكذا مؤتمرات , وكما تعودنا ممن نصبوا لإعطاء الخبر للمراسلين .
فهرعنا إلى حواسيبنا ندون مقالاتنا الى الصحف التي تنتظر صفحاتها الاولى شيئاً مميزاً نرسله لها .. الى أن قدم الينا مراسل وكالة أخبار الشرق الاوسط المصرية المتعارف عليه باسم" أش أ" نحو الساعة الرابعة والنصف مساء ليثبط من عزائمنا جميعاً بقوله بلهجة لا تخلو من التحدي: "هيا يا سوريين" هل تعلمون أن وزير خارجيتكم قد اجتمع مع كونداليزارايس لمدة ساعة وربع وتحادثا في الشأن اللبناني والعراقي والفلسطيني وقد طلبت رايس منه الامتناع عن التدخل في الشأن اللبناني واحتد النقاش بينهما و..و.. واتجه مخاطباً أحد الزملاء قائلاً: له حتى وزير خارجية السعودية القى شعراً أثناء القاء كلمته وفي نهاية المؤتمر خرج مع السيدة السمراء رايس .
قلت في سري ...اذا كانت الأمور هكذا فلأقتفي أثر التسريبات في كل اتجاه .. فأرسلت فاكس لصحيفتي الانباء الكويتية متضمناً ما سمعته إضافة إلى ما تم تناقله من تسريبات لحوار جرى بين نوري المالكي ورجب طيب أردوغان ..
لكنني آثرت قبل أي شيىء الذهاب بسرعة للقاء وزير خارجيتنا قبل أن يستقل طائرته ويقفل عائداً إلى دمشق للوقوف عند دقة ما نقله الى زميلي المصري : أعدت سؤالي ثلاث مرات وفي المرة الأخيرة نقلت للوزير المعلم ما سمعته فأكد أن اللقاء قد تم فعلاً على مأدبة العشاء بشكل بروتوكولي فقط , ولم يتخلله أي حديث مما سمعناه من هذا القبيل ..فأبرقت للصحف لأنفي صحة ما كنت قد أرسلته قبل ساعة لأفاجأ من جديد في ساعة متأخرة من الليل بتأكيدات لصحة اللقاء بين رايس والمعلم , وهذه المرة على لسان زميل لنا يحظى بعناية فائقة من وزارة الخارجية السورية ومن السيد ساتر فيلد شخصياً بتزويده الخبر السوري حصراً وماذا جرى , فاضطررت لمراسلة الصحف مجدداً طالبة منهم إعادة اعتماد مضمون الرسالة التي سبق لي ونفيت مضمونها .ولا أريد أن أصف زميلتي كيف وقع الخبر عليها لقد أصبحت في دوار نفسي وبوضع يرثى له , واما كبير الصحفيين والذي ما فتأ يكذب زميلة له في بي بي سي وهي تصر على ما تناقلته وكالات الأنباء خاصة الفرنسية , وأن رايس تحدثت للاعلاميين المرافقين لها على متن الطائرة .. لاأريد أن اصف حاله فليكتب اذا أراد بنفسه عما آل اليه حاله ...
وهكذا كنا ضحية للتسريبات الإعلامية من جهة وللتهميش المتعمد , فكنا شهود عيان لم يشهدوا شيئاً من وقائع المؤتمر , ولولا جهودنا الشخصية لعدنا من اسطنبول وحالنا يقول : " تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي "
شكراً لكل معني بشأن الاعلام السوري في ذاك المؤتمر كما نشكر السادة المسؤولين الذين لم يبخلوا علينا ولا بمعلومة كما نشكر البوليس التركي وكلابه المدربة جداً على الأمن والأمان . وندعو الله أن يجعلنا من محظي التسريبات الاعلامية ولو كانت من السيدة السمراء رايس التي لم تبخل على الاعلامين الذين رافقوها على متن طائرتها الخاصة والذين لم يسبقوها بيوم وليلة , بأدق التفاصيل .. تعيشوا وتاكلوا غيرها .
الجمل
التعليقات
شكرا للنبيل الصالح على النشر
شكرا للنبيل الصالح على النشر
فظيع المقال لاعلامية لا تخاف…
فظيع المقال لاعلامية لا تخاف من قول الحق
إضافة تعليق جديد