الأمة وتحولاتها في الفكر العربي المعاصر: تصورات دينية ولغوية
إذا نظرنا إلى ما أنتجه الفكر العربي الحديث والمعاصر من تعريفات للأمة سنجد أنها تتوزع على أربع مجموعات كبرى وهي: مجموعة التصورات الدينية التي تجعل من الرابطة الدينية المحدد الأساسي للأمة - مجموعة التصورات اللغوية التي تجعل من الرابطة اللغوية المحدد الأول للأمة - مجموعة التصورات الإقليمية التي تجعل من الإقليم الجغرافي المتميز المحدد الرئيس للأمة - مجموعة التصورات السياسية التي تجعل من الدولة المحدد الأهم للأمة.
وتتعدد التصورات السابقة تبعاً لاختلاف المنطلقات والركائز التي تنطلق منها أو تبني عليها، لكن يبقى القول إن في داخل كل تصور مجموعة من التصورات الفرعية، فيحتوي التصور الديني للأمة، على سبيل المثال، ثلاثةَ أنماط فرعية وهي: التصور الديني التوفيقي، والتصور الديني السياسي، والتصور الديني اللاسياسي.
وحلل ناصيف نصار في كتابه «تصورات الأمة المعاصرة» (الكويت، 1986) خمسة عشر نوعاً من التصورات الفرعية والتي تندرج تحت المجموعات الرئيسة السابقة. بدأ نصار فصول كتابه الأربعة بتحليل التصورات الدينية، فاللغوية، ثم الإقليمية وأخيراً التصورات السياسية على التوالي. ومع ذلك، فإن بداية الاهتمام بالمفهوم في الفكر المعاصر تاريخياً تأتي مغايرة للترتيب الذي اتبعه نصار في كتابه، إذ انتقل المفهوم من التصور البسيط إلى التصور المركب، أي تطور من التلمس الحدسي إلى التفكير التنظيري المجرد.
وتبعاً لذلك، بدأ التصور اللغوي للأمة في القرن التاسع عشر مع زعماء النهضة الأدبية والشيخ حسن المرصفي، من مستوى التعريف البسيط والتلمس العفوي، لينتقل منذ بدايات هذا القرن إلى مستوى التعريف المدروس المركب بعناية ودراية عن ذي قبل. وعلى هذا المنوال تنتظم جهود عبد الغني العريس وأقرانه ونديم البيطار مروراً بساطع الحصري وزكي الأرسوزي ومنظري الحقبة الناصرية وحزب البعث...إلخ.
وفي ما يتعلق بالتصور الإقليمي لمفهوم الأمة، فمن الملاحظ أنه بدأ تاريخياً مع المعلم بطرس البستاني، وإن ظل أقرب ما يكون إلى البساطة والتجربة المباشرة منه إلى التعقيد والبحث المتعددة جوانبه كما هو واضح في فكر كل من انطون سعادة وجمال حمدان لاحقاً. الأمر نفسه يكاد ينطبق بدوره على التصورات السياسية للمفهوم، والتي تنوعت ما بين: بسيط، ومتطور، ودستوري، على رغم عدم اتساع شكله التنظيري وعدم تنوعه بقدر ما هو ملحوظ في تطور الأشكال التنظيرية الأخرى لكل من التصور اللغوي ونظيره الإقليمي.
ويعد التصور الديني للأمة من أهم التصورات السائدة في الفكر العربي المعاصر، وانطلق هذا الاتجاه أساساً من تصور نموذجي مركب للأمة الإسلامية. وفي كل الأحوال، يبدو التصور الديني التوفيقي للأمة أقل تعقيداً من التصور الديني السياسي للمفهوم، ذلك لأنه يترك مشكلة الوحدة السياسية ذات الإسناد الديني خارجة عن نطاق المشكلات التي يراها في قوام الأمة، وإن ظل أكثر تعقيداً في الوقت نفسه من التصور الديني اللاسياسي للأمة، نظراً الى كونه لا يحسم قضية استقلال الدولة القومية عن الرابطة الدينية والشريعة الإسلامية.
وإذا أمعنا النظر فى نوعية هذه الحركة التنظيرية المتنامية حول فكرة الأمة، سنجد اختلافاً كبيراً وبيّنا في ما بين أنواعها ومجاريها. ففي الوقت الذي يبني فيه التصور الديني التوفيقي تنظيراته على مبادئ دينية عامة، وعلى اعتبارات عملية مرتبطة بمبدأ الضرورات التي تبيح المحظورات؛ يبقى هذا التنظير مشتملاً على خليط من فكر عقائدي منفتح وفكر عملي براغماتي. ونتيجة لذلك، كان هذا الضرب من أغنى أصناف التصور الديني للأمة وأشدها تأثيراً في الحياة العملية.
فبحكم تركيبته هذه، أصبح بمثابة المجال المفتوح لتجدد كل أشكال التسوية بين مطلب التوحيد الديني من جهة ومطلب التعامل مع واقع المجتمعات العصرية القائمة على المبدأ القومي العلماني من جهة ثانية. وما دام منطق التسوية المتجددة عبارة عن خليط من منطق تبشيري ومنطق ذرائعي، ونظراً الى كونه لا يرضي العقول التي تُفضل الحلول القاطعة، فقد نما على جانبيه تياران متناقضان تماماً يسعى الواحد منهما الى التخلص من كل مساومةٍ مع واقع المجتمعات العصرية المعلمنة، فيما يسعى الآخر الى دفع المساومة قُدما مع هذه المجتمعات إلى أقصى حد ممكن!!. وهكذا جاء التنظير للأمة في الفكر الديني السياسي مبنياً على نوع من تقديم مطلق لواجب مستعاد ونوع من احتقار مطلق لواقع معاد. فيما جاء التنظير في الفكر الديني اللاسياسي أقرب ما يكون إلى منطق التفسير التاريخي المتسم بالواقعية العلمية والتقدمية. ولعل ذلك ما جعله يرتاح إلى الالتزام القومي أو الوطني، كما تطرحه التصورات اللغوية والإقليمية للأمة، أكثر ما يرتاح إليها التصور الديني التوفيقي.
وما دامت القوانين الاجتماعية التاريخية هي عبارة عن قوانين انتظامية احتمالية بطبيعتها، وليست قوانين علية مطلقة، وما دامت قوانين التجارب القومية الوحدوية عبارة عن قوانين سياسية في الجوهر، وليست قوانين ثقافية؛ فإن التنظير اللغوي الثقافي لوحدة الأمة، كما طرحه الحصري، يصبح على هذا الأساس أقرب إلى منطق التسوية منه إلى منطق الثورة وبالتالي، تُصبح الاستعانةُ بالعلوم الاجتماعية التاريخية متيسرة للتصورات السياسية الإقليمية بقدر تيسرها للتصور اللغوي السياسي للأمة، إن لم يكن أكثر.
وفي المحصلة، يدل تطور التنظير في تاريخ التصور الإقليمي للأمة الى اتساع استخدام العلوم الاجتماعية انطلاقاً من علم الجغرافيا الطبيعية والبشرية فضلاً عن كونه منح نتائج مهمة في تآليف كل من: انطون سعادة، وجمال حمدان بصفة خاصة تُوازي، على الأقل من الناحية النظرية، النتائجَ التي وفرها استخدام هذه العلوم لمصلحة التصور اللغوي ولمصلحة التصور السياسي للأمة. ويكشف هذا الترابط عن سمة أخرى من سمات تصورات الأمة في الفكر العربي المعاصر ألا وهي سمة الحضور الفاعل، إن لم نقل الطاغي، لعامل الدولة في جميع التصورات السابقة.
ففيما كان من المنتظر أن تبادر الأنظمة السياسية القائمة في البلدان العربية إلى تشجيع التعويل على العلوم الاجتماعية إظهاراً لخصوصيتها، وتبريراً لاستقلالاتها الوطنية، حال تداخل العقائد والأيديولوجيات في حياة تلك الأنظمة دون ترك حركة التنظير القومي فيها تجري في اتجاه واحد، فتكاثرت فيها مستويات التعامل مع فكرة الأمة على شاكلة ما انعكس في دساتيرها أو أكثر.
وعلى رغم بديهة أن تشهد التصورات السياسية من هذا الحضور أقوى أشكاله، نظراً لكونها تجعل من عامل الدولة المقوم الأساسي الأول لكيان الأمة، لم تنفرد تماماً بهذه الميزة عن بقية التصورات الأخرى. فقد اعترف التصور اللغوي السياسي، كما عبر عنه الفكر القومي لحزب البعث وعبدالناصر والبيطار، لعامل وحدة الدولة بدورٍ رئيس في تشكيل الأمة. وبالمثل، ينحو التصور الديني السياسي للأمة في فكر حسن البنا وسيد قطب وعبد القادر عودة نحو تبني الأطروحة القائلة بأن الوحدة السياسية، أي عامل الدولة الواحدة والحكم الواحد، شرطٌ واجب وأساسي لتحقيق كيان الأمة الواحدة وأن من دون تحققه فليس ثمة إمكان فعلي لوجود الأمة.
ليس هذا فحسب، بل إن التصور الإقليمي المتحدي، كما طرحه انطون سعادة، يتلاقى هو الآخر مع التصور الإقليمي التكاملي، كما صاغه جمال حمدان، حول الدور الحاسم الذي تلعبه وحدة الدولة في تشكيل الوحدة القومية التامة. أما التصورات الأخرى التي لم تنظر إلى الدولة كعنصر من عناصر مفهوم الأمة، فقد ظل هاجسها الأول ممثلا في كيفية التوفيق بين ماهية الأمة التي لا تنطوي على عامل الدولة الواحدة من ناحية ووجود الأمة الذي لا يبلغ حد الاكتمال إلا بواسطة هذا العامل من ناحية ثانية؟!. وفي المقابل، اتجه التصور الديني اللاسياسي اتجاهاً مضاداً لسائر التصورات السابقة معارضاً الجمع بين الطموح إلى الوحدة الدينية من جهة، وهاجس الوحدة السياسية من جهة ثانية. وإن كانت معارضته هذه ليست بدعاً في تاريخ التصورات العربية المعاصرة لمفهوم الأمة وإنما تكاد تكون قاسماً مشتركاً وترد ضمن تضاعيف مختلف التصورات الأخرى.
نحن إذاً أمام تصورات أيديولوجية مشروطة بظروف وصراعات اجتماعية معينة، ومشروطة كذلك بنمط خاص من الجدال والمناقشة لذا ينبغي التمييز بين ضربين من الجدال في ما بينهما: الجدال الذي يكون بين نوع ونوع، والآخر الذي يتم بين صنف وصنف ضمن النوع الواحد. ففيما كان الضرب الأخير قوياً في نطاق التصور الديني والتصور اللغوي، كان ضعيفاً في نطاق التصور الإقليمي والتصور السياسي. بل إنه اتخذ شكلاً حاداً حيناً، كما في العلاقات ما بين التصور الديني السياسي ونظيره اللاسياسي، وشكلاً هادئاً حيناً آخر كما في العلاقات ما بين التصور اللغوي والتاريخ، والتصور اللغوي العنصري والتصور اللغوي السياسي.
أما الضرب الأول، أي الجدال بين نوع تصور للأمة ونوع آخر، فقد ظل بمثابة المحرك الدائم الذي يبدو ويختفي، يقوى ويضعف، رهناً لحسابات علاقات القوى المتصارعة على ساحة الأحداث. وبهذه الكيفية واجه التصور الديني للأمة كلاً من: التصور اللغوي، والتصور السياسي، والتصور الإقليمي. ونتج من هذه المواجهة محاولات استيعاب للاعتراضات القوية التي يحملها كل من هذه التصورات عن فكرة الأمة والدين، ما أسفر عن تباين وتعدد النظرات المعاصرة إلى الوحدة بين المؤمنين بالإسلام وإلى العلاقات بين الإسلام والدولة القومية أو الوطنية.
وتشعبت المناقشة بين التصور الإقليمي للأمة والتصورات المعارضة لها شعبتين، وأنتجت بالمثل موقفين متباينين من قضية الدولة القائمة، ومن قضية العلاقة بين الدين والأمة والدولة. لكن يبقى القول، إنه قبل صدور كتاب نصار بنحو عامين ظهرت إلى الوجود محاولات أشد رساخة في تعاملها مع مفاهيم الأمة والجماعة والسلطة على النحو الذي تميزت به كتابات رضوان السيد بخاصة كتابيه: «مفاهيم الجماعات في الإسلام» (بيروت 1984)، و «الأمة والجماعة والسلطة» (بيروت 1985).
محمد حلمي عبد الوهاب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد