ثقافة السلام بين المسيحية والإسلام
الحوار بين الأديان كان ولا يزال العنوان الدائم المفتوح أمام الحركة البشرية في شتى اتجاهاتها، وهو يُطرح اليوم بإلحاح أكثر، بما يشبه التحدي الإنساني، فإما أن يستمر مثاراً للتعارض والتصادم، وإما أن يحقق غاية الدعوة فيحتضن البشر عيالاً متآلفة بين ذراعي الله، لما فيه خير الإنسان وصلاح العالمين.
وعندما نقول الأديان، فإنما نعني الرسالات السماوية التي أطلقها وأوحى بها مرجع واحدٌ علي أعلى، منه انطلقت وإليه تنتهي، والأديان محورها الإنسان في إطار الحركة الكونية دنيا وآخرة.
على أن الرسالات السماوية التي تشخّص الإنسان على صورة الله ومثاله، ان هي شوّهت صورة الله في المطلق، وصورة الله في الإنسان، وصورة الإنسان في الله، فقد تصبح أدياناً وثنية.
وما دامت الأديان السماوية، في عمقها، وأبعادها، ومصدرها وتوجهاتها، تلتقي على جوهر مشترك، وقواعد عامة مشتركة، حول الإله الواحد، وعبادة الإله الواحد، واليوم الآخر، والوحي الإلهي، وممارسة شؤون الحياة بإرادة الإله الواحد. فلا يصح لأي منها أن يحتكر استملاك الله، ولا يصح معها، أن تكون المفاضلة بين دين ودين، بل بين إنسان وإنسان.
- بين إنسان ضلّ بدينه عن رؤية الله فجعل من الله مشكلة دينية...
- وإنسان آخر جعل من الدين منبراً لتسامي الله في حضوره الإنساني...
وإلا... فكيف يكون إله القرآن، هو غير إله التوراة والإنجيل...؟
إذا كان بين المسيحية والإسلام فوارق تتعلق بالتفاصيل، فإن بينهما جوامع التحام تتصل بالجوهر وصميم العقيدة.
فالقرآن عندما يخاطب الناس... «يا أيها الناس» فإنما يخاطبهم أجمعين ولا يخصّ بذلك المسلمين.
«يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم...» (الحجرات: 13).
والإنجيل عندما يحدد الحياة المسيحية، فإنما يطرحها دعوة محبة منفتحة على جميع الناس... «أحبب قريبك كنفسك».
ودعوة التوراة والإنجيل والقرآن تتوحد بالتنزيل الإلهي، كما تتوحد بالمنزلة في نظر المسيحيين والمسلمين.
فالمسيح ما جاء لينقض الناموس بل ليكمل.
«لا تظنّوا أني أتيتُ لأحُلَّ الناموس والأنبياء، إني لم آتِ لأَحُلَّ، لكن لأُتمم...» (متى: 5/17).
والقرآن إذ يشدّد على الإيمان بكل الرسل:
«قلْ آمنا بالله وما أُنزل علينا وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتيَ موسى وعيسى والنبيّون من ربّهم، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مُسلمون...» (آل عمران: 84).
هكذا يشدد على الإيمان بالكتب.
«... نزّل عليك الكتاب بالحقّ وأَنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس...» (آل عمران: 3).
من هنا، يبدو القرآن دعوة منفتحة برحابة على ما هو اندماج وحدوي وروحي، ويجاريه الإنجيل في المقابل بدعوة تصل الى حدود المبالغة في الانفتاح.
«قد سمعتم أنه قيل: أحببْ قريبك وأبغِض عدوك، أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وأحسِنوا الى من يُبغضكم وصلّوا لأجل من يضطهدكم» (متى: 5/43/44).
وعندما يطرح المسيح هذا الشعار فإنما يتخطى حدود المعتقد والجنس واللون والعرق، فيتلاقى معه النبي كما روي عن أبي ذرّ:
«أنظر، فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله...».
إلا أن المسيحيين والمسلمين معاً، يتعارضون مع مبدأ المعتقدات اليهودية تفسيراً وممارسة وتحريفاً، فهم على لسان المسيح وإنجيله، كما على لسان القرآن والرسول، يتصدون للهرطقة اليهودية التي خرجت على أصول الدين، وحرَّفت معاني التوراة ورسالة النبيين.
فالقرآن يكفّر اليهود الذين لا يعملون بأحكام التوراة.
«أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض...» (البقرة: 85).
«ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...» (البقرة: 61).
والمسيح يحمل عليهم بالقول:
«الويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيون فإنكم تشيّدون قبور الأنبياء...» (متى: 23/29).
«... أليس موسى أعطاكم الناموس وما أحد منكم يعمل بالناموس» (يوحنا: 7/19).
ولن نسترسل في هذا المجال وهو غنيّ بالبينات، إلا لنتوقف عند التمييز الذي يخصّ به القرآن النصارى.
«لَتَجدنَّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، والذين أشركوا، ولَتَجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا إنّا نصارى...» (المائدة: 82).
وهذا يعني أن اختلاف المسيحية والإسلام ليس مع اليهودية كرسالة، بل هو يتناول الفكر اليهودي الاستنسابي الذي راح يبتكر آلهة وأنبياء على صورة المعتقدات الزمنية، وقد جاء في كتاب بروتوكولات حكماء صهيون «إن اليهود يضعون التلمود فوق التوراة والحاخام فوق الله...» (بروتوكولات حكماء صهيون الجزء الثاني (ص 870).
قد يتهمني بعضهم بأنني تناولت الجوانب الإيجابية في العقيدة المسيحية - الإسلامية، وتغاضيت عن جوانب أخرى تحمل تبايناً ونقاط خلاف.
وحتى لا أستثير حفيظة المتسائلين أسارع الى القول: أعرف أن ثمة اختلافاً بين المسيحية والإسلام حول موضوع النبوّة والصلب والتثليث والتجسّد وما إليها.
إلا أن هذه الفوارق تظل على هامش الاندماج الجوهري ما بين الإنجيل والقرآن، ولو أوغلنا النظرة في العمق حول الإيمان بالله الواحد، وأنبيائه وملائكته وكُتبهِ، واليوم الآخر، والسماء، والأرض والدينونة والمبادئ الروحية والأخلاقية، لرأينا أن ما يتوقف عنده المفسّرون والمجتهدون من الطرفين هو نوع من التفاصيل والإمعان في الاجتهادات.
وفيما يشرد ذهن بعض المفكرين المسيحيين في تحليلات قرآنية أو في نسج الحكايات حول دور «ورقة بن نوفل» منسوبة حيناً الى تاريخ اليعقوبي أو الى كتاب «قسّ ونبي» لأبي موسى الحريري، أو الى كتاب «الدامغ» لابن الراوندي. يلجأ بعض المفكرين المسلمين في تفسيراتهم حول نقاط الخلاف الى الكتب المنحولة أو كتب المدرسة الهيغيلية ككتاب شتراوس «حياة المسيح» وكتاب فيورباخ «ماهية المسيح» أو الى كتاب «برنابا» الذي عبثت به الريشة اليهودية ضلالاً وتحريفاً. وهذا ما استدركه تصحيحاً كامل حسين في كتابه «قرية ظالمة» وعباس محمود العقاد في كتابه «حياة المسيح» وما أوضحه الكاتب الإيراني محمد شين بارتو «حول التقارب المسيحي - الإسلامي، وتأثر النفس الإيرانية برسالة المحبة المسيحية» (Anawati in Midio mg P 200).
يقول العلاّمة محمد حسين فضل الله: «إن الرسالات الثلاث تلتقي بالقواعد العامة والأفكار العامة... وليست هناك أية فروق في عمق المعنى الرسالي... لكن التفاصيل التي تختلف فيها الرسالات السماوية هي تفاصيل الحاجات، التي ربما تقتضي حلاً معيناً في مرحلة معينة تماماً كما هي مسألة التشريعات التي قد تتغير تبعاً لتبدّل الظروف، ويتابع العلامة فضل الله استطراداً: «حين أن الفرق بين الإسلام والمسيحية لا يزيد عن الفرق بين المسلمين أنفسهم أو بين المسيحيين أنفسهم...» (محمد حسين فضل الله: «تحدّي الممنوع» ص 139).
ولو سلّمنا جدلاً بأن الاختلافات المسيحية - الإسلامية تتصل حقاً بمبادئ العقيدة الدينية، فهل يصح السؤال: ما هي الفائدة من بعث هذه الاختلافات؟ وما هي الخدمة التي تؤديها لأهل الديانتين وأهل الديانات عامة، فيما البشرية تنهد الى امتصاص الاحتقان العنصري والديني، وتبريد التشنّجات العسكرية والثورات الداخلية التي طاولت القسم الأكبر من جغرافية العالم في غضون السنين القليلة الماضية ولا تزال؟
وما هي الغاية من التجاذبات المتوترة حول عمق الأديان، والتي تتحول أحياناً على ألسنة بعض المفسِرين الى موجة من الخصومة، تقود معها موجة من الكفر والإلحاد على حساب أديان السماء؟
إذا كان ما يوحّدنا، بما هو جوهر وعمق، أسمى وأثمن مما يفرّقنا بما هو شكل وتفصيل، فلماذا نبدو كمن يمحّص عن اكتشاف الفروق إمعاناً في توسيع رقعة التباين؟
وما هي الغاية التي تحتّم على المفكرين والمنظّرين، أن يعبّوا من الفتاوى الفقهية تفسيرات جدلية؟
فيما الأحجى أن يجتهدوا في إبراز المعالم المتقاربة، ومعظمها متوافق حتى الانصهار المعنوي واللفظي...
فما هو إرواء لنهم التنقيب العلمي، هو أيضاً إرواء لغليل التعصّب الديني.
إن موضوع الفروق، الذي تلظّى عبر العصور الغابرة، طالما كان مطروحاً بإلحاح، فما كان تأثير الإلحاح المسعور في تفسير النصوص؟ وسيظل مطروحاً بحرارة أقوى، إذا ما استخدمناه مادة إثارة واستهلاك، ولن تؤدي المساجلات التصادمية الى إقناع المسيحيين بغير كلام الإنجيل، والى ثني المسلمين عن كلام القرآن.
وإذا استمرت مناخات الانشقاق أو الانكفاء، فإنما تسهم في إيقاظ الغرائز، لا في تحرير العقل، وتستمر معها الفوضى الدينية، وموجة التجاذب، بين مذهبي السنّة والشيعة، كما بين الكنائس الغربية ذات الطابع الفلسفي، والكنائس الشرقية ذات الطابع اللاهوتي.
وليس من حق أهل الرشد، أن يقبعوا في برج المراقبة، فيما الجدليون يتلهّون بالأفكار المجردة، أمام الشأن المصيري، وتحديات العصر، وجدية التاريخ.
وبتعبير روحي آخر أقول: إذا كان الله قد وحَّد ذاته فينا، ووحَّدنا في ذاته، فمن العبث التفتيش عن الله في السماء والأرض والكتب والرسالات، إن لم نكتشفه في ذاتنا الواحدة، وعلى طريق الإنسانية جمعاء، فإن لم نلتقِ مع الله وبه، وبالآخر ومع الآخر، في كينونة الوحدة والمحبة، نكنْ كمنْ يعلن موت الله فيه، وفي الأرض والسماء على السواء.
وحين نجعل نحن من الله مادة للتصارع والنزاع البشري، نكون كمن يجعل من الله مشكلة من مشاكلنا الروحية والزمنية، وهذا نوع آخر من الوثنية، وإلحادٌ من نوع آخر بالله.
والوحي الذي أنزله الله على رسله والأنبياء، وصايا هدى للعالمين... إنما هو دعوة الى التلاقي المنفتح، والحوار الإيجابي بين الله والناس، وبين الناس والناس.
فهل شاء ربك، أن يكون التوحيد تفرقة، والحوار صراعاً لنتحارب باسم الله، ونحارب الله بالله؟
حسبنا، أن نتعمق إذاً، في التوراة والإنجيل والقرآن. والله يهدي المهتدين.
جوزيف الهاشم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد