دمشق المسرحي الـ14: السوريون الأكثر جرأة
انتهت أخيراً الدورة الرابعة عشرة من دورات مهرجان دمشق للفنون المسرحية, تاركة خلفها العديد من المفاجآت والأسئلة في ذمة الذاكرة, كي تُؤخذ بعين الاعتبار في السنوات المقبلة, وكان أهمها ما تعلق بنوعية العروض وحجم الاقبال عليها, ثم طبيعة الاشكالات التي أُثيرت على المستوى الفكري, ولا سيما أن هذه التظاهرة الثقافية قد أثبتت حضورها الخاص على مدار أربعين عاماً من تاريخ قيامها, رغم كل الانقطاعات التي مرت بها, ورغم كل الصعوبات التي يواجهها المسرح والمسرحيون في سوريا.
إذا كانت الدورة الرابعة عشرة قد انعقدت بمشاركة احدى وعشرين دولة عربية وأجنبية, فقد شهدت يوميات المهرجان أربعين عرضا مسرحيا, قُدّمت في صالات الحمراء والقباني وراميتا والمعهد العالي للفنون المسرحية ودار الأوبرا, وهي صالات يبلغ مجموع استيعابها ما يزيد عن ثلاثة آلاف مقعد, وتتوافر فيها شروط لائقة, وان تباينت من صالة لأخرى, بحيث تم تجاوز أزمة أماكن العرض التي كانت تواجه الدورات السابقة, وكانت أولى المفاجآت السارة في هذا السياق امتلاء الصالات بالجمهور الذي فاق بكثير جمهور مهرجان السينما هذا العام, وهي سابقة لافتة من نوعها.
العروض المشاركة
احتلت عروض الدول العربية المشاركة نصف مساحة الفعاليات المسرحية تقريبا, فمن العراق تابعنا «أرامل على البسكليت» لجواد الأسدي, و«الموت والعذراء» لابراهيم حنون, ومن الأردن «مأساة المهلهل» لحكيم حرب, ومن الكويت «الهشيم» اخراج فيصل العميري, ومن ليبيا «معرض أم بسيسي», ومن قطر «أبو حيان التوحيدي» اخراج أحمد الرميحي, ومن السعودية «حالة قلق», ومن عمان «المنجور», ومن الامارات «النمرود», ومن لبنان «حلم رجل مضحك» لطلال درجاني, و«العميان» اخراج لينا أبيض, ومن اليمن «الظل», ومن المغرب «حياة وحلم وشعب في تيه دائم», ومن مصر «وجوه الساحر» اخراج عمرو قابيل, الى جانب عرض تكريمي للفنان الراحل صالح سعد بعنوان «حياة للذكرى» من تمثيل واخراج نورا أمين, كما شاركت تونس بخمسة عروض في اطار التظاهرة التكريمية للمسرح التونسي التي شملت: عرض «وزن الريشة» لغازي الزغباني, «مذكرات ديناصور» لتوفيق الجبالي, «امرأة» و«سنديانة» لزهيرة بن عمار, و«مر الكلام» للشاذلي العرفاوي.
واقتصرت المشاركة الأجنبية على دولتين لا غير, فمن قبرص تابعنا «علامة الحسن», ومن هولندا «صوتان» للمخرج الشهير يوهان سيمونز, وهي مشاركة أدنى من معدلاتها في الدورات السابقة.
أما المساحة المتبقية من الفعاليات فقد شغلتها العروض السورية, وأغلبها لم يُنتج خصيصا من أجل المشاركة في المهرجان, بل كان قد أُنتج وقُدّم في فترات سابقة خلال العام, فقد شاهدنا: «المهاجران» اخراج سامر عمران, «تكتيك» لعبد المنعم عمايري, «تياترو» لباسم قهار, «السمرمر» لتامر العربيد, «صوت ماريا» لمانويل جيجي, «تشيخوف» لطلال نصر الدين, و«أحلام شقية» نص سعد الله ونوس واخراج نائلة الأطرش, «عنتر وعبلة» تأليف رياض عصمت واخراج هشام كفارنة.
وإلى جانب ذلك شملت المشاركة السورية تظاهرة للاحتفاء بالتجارب المسرحية الشابة تحت عنوان «نظرة جديدة» تضمنت العروض: «ليلى والذئب» لباسم عيسى, «المنفردة» لرامز الأسود, «مشاجرة» لنضال صواف وزهير بقاعي, «قلوب» لحكيم المرزوقي, «أوضة سورية» لعلا الخطيب, «الزير سالم والأمير هاملت» لرمزي شقير, «كونتراكت» لمي سعيفان, بالإضافة الى تقديم عرض €ستلمس أصابعي الشمس€ كتحية لروح الفنان الراحل لاوند هاجو الذي غادرنا أخيرا.
تحت الضوء
وإذا أردنا أن نسلط بقعة ضوء على الأعمال المسرحية التي شغلت يوميات المهرجان, فقد حملت المشاركة العربية الكثير من العروض المفاجئة على مستويي النص وأساليب الاخراج, غير أن المشاركة التونسية كانت الأكثر نضجا وقدرة على ادهاش المتلقي, لأنها ترافقت مع أداء تمثيلي قادر على امتلاك الخشبة وشحنها بالدلالات, فعلى سبيل المثال في مونودراما «سنديانة» التي تمحورت حول امرأة وحيدة ومحبطة, تلملم ذكرياتها بعد أن خذلها الواقع وفاتها قطار الحياة, في هذا العرض استطاعت المؤلفة والمخرجة والممثلة الفنانة زهيرة بن عمار أن تأسر الجمهور بحضورها الجميل, وأدائها المتعدد المستويات, وقدرتها على توظيف لغة الجسد ووقفات الصمت في توليد بؤر جمالية ودلالية جديدة لموضوع شاع طرحه في الآونة الأخيرة على خشبات المسرح العربي, وهو انكسارات المرأة بوصفها مؤشرا للانهيارات العامة وغياب الحريات.
أيضا العرض الليبي «معرض أم بسيسي» الذي قدمته فرقة «أصدقاء المسرح أجدابيا» كان له بصمته الخاصة, ولا سيما فيما يخص أسلوب تجريب المزج بين عناصر مختلفة ومتضاربة في بوتقة واحدة, بدءا من النص الذي أعده المخرج خالد نجم عن مسرحيتي «ام بسيسي» لفتحي القابسي و«الشريط» لمصطفى الصمودي, مرورا بجعل الخرافة الشعبية خلفية لحدث واقعي معاصر, وصولا الى التناوب مابين المشاهد الجادة والمأسوية في بعض الأحيان, وما بين المشاهد الانتقادية الساخرة, وهو مزج وُظّف بدقة لحشد التفاصيل وتعميق المؤشرات التي تدين البيروقراطية بكل أشكالها, تحديدا تلك التي تعيق الابداع والمبدعين من دون الوقوع في مطب المباشرة, وذلك من خلال قصة رسام يتهيأ لافتتاح معرضه الأول في صالة فخمة, لكن الافتتاح يتأخر ويتأخر عن الموعد المحدد, ثم يُؤجل الى يوم آخر, لان المسؤول لم يحضر لقص الشريط, فيصاب المبدع بالقنوط ويحرق الصالة, وكانت فكرة مبتكرة من قبل المخرج تحويل اللوحات المعلّقة على الجدران, الى أماكن عرض صغيرة ومؤطرة, تجسدت في عمقها المشاهد الساخرة الخاصة بالحكاية الخرافية, ما أغنى الفضاء المسرحي بالحركة والجماليات.
في عرض «أرامل على البسكليت» كان الجمهور أمام ثلاث شخصيات نسائية من أجيال مختلفة, يعشن تحت سقف واحد, لكل واحدة صوتها الداخلي الخاص, وايقاعها المختلف النابع من مركباتها النفسية وظروف حياتها, الجدة المتصابية والمحبة للحياة €نضال سيجري€ وهي شخصية كوميدية, الخالة التي تدير شؤون البيت €كارول عبود€ وهي شخصية متفانية وصارمة, وماريا €نادين جمعة€ ابنة يتيمة لأم كانت ممثلة, وأب سياسي مات من التعذيب في المعتقل, وهي شخصية حالمة ومأزومة نفسيا, وفي ظل هذه المركبات المتناقضة تولدت بؤر الصراع الضمني والمكشوف, واصطدمت الايقاعات المتنافرة, وهنا ذهب المؤلف والمخرج العراقي جواد الأسدي بعيدا في مدارات التجريبية من حيث تفتيت بنية النص, وتغريب الشخصيات, واعطاء الكلمة الأولى لمفردات الفضاء وايقاعاته المتباينة, بما في ذلك الحضور الآسر للموسيقى بوصفها شخصية دلالية مستقلة.
مفاجآت الخليج
حملت المشاركة الخليجية مفاجآتها السارة على مستوى النص المحلي من حيث طبيعة الاشكال المطروق وأسلوب التعبير عنه, وفي هذا السياق جاء عرض «المنجور» الذي قدمته فرقة مسرح الشباب بمسقط, من تأليف عبد الله البطاشي واخراج أحمد بن سالم البلوشي.
العرض السعودي «حالة قلق» الذي قدمته ورشة مسرح الطائف, وأخرجه أحمد الأحمري, هو الآخر تميز بنص جميل متعدد المستويات من تأليف فهد ردة الحارثي, تناول معضلة حرية التعبير وحق ابداء الرأي في المجتمع السعودي.
وتناول العرض الاماراتي «النمرود» موضوع الطغيان وعبادة الذات, من خلال شخصية النمرود, وحسب بعض المصادر التاريخية, فهو ملك حقيقي ينحدر من سلالة حام وهو ابن كنعان, ودارت الأحداث حول هذا الطاغية الذي حكم شعبه بالحديد والنار, وادعى الربوبية, وبني برج بابل العالي, ليثبت أن لا رب غيره, ومع أن السماء انذرته مرارا, غير أنه لم يبال, فهلك جنده بسحابة بعوض, ودخلت في أنفه بعوضة أجبرته للخلاص منها أن يطلب من رعيته ضربه على رأسه, فانقضوا عليه بالأحذية, ولم تكن مفاجأة الجمهور بأسلوب العرض الذي تولاه المخرج المغربي المعروف المنصف السويسي, لأنه تمركز حول العظة الدينية أكثر من المقولة السياسية, بل كانت المفاجأة في هوية المؤلف, فهو حاكم الشارقة الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي, وكانت المفارقة الأكثر ادهاشا أن تزامن العرض مع تحية الوداع التي تلقاها بوش في العراق من الزميل منتظر الزيدي.
آخر الكلام
عموما كانت أغلب العروض السورية هي الأجرأ في اتباع التجريبية, وتناول أزمات الجسد, ومنها مثلا عرض «تكتيك» من تأليف واخراج عبد المنعم عمايري, مع أن المضمون تناول مقدمات الانهيار السياسي والاجتماعي على المستويين العالمي والعربي من خلال قصة زوج €فايز قزق€ يساري محبط, وزوجة هاربة الى باريس من تناقضات الزوج, وهما يلتقيان بعد سنين من الفراق للبحث عن ابنتهما الشابة الضائعة, غير أن عملية البحث تقودهما الى علب الليل, والشخصيات المنتهكة: القواد €قاسم ملحو€ الذي تعرض للاغتصاب في طفولته, والفتاة التي حولتها مجازر صبرا وشاتيلا الى مومس, تماما كما تحولت الفتيات الروسيات الى وجبات شهية على موائد الأثرياء بعد انهيار المعسكر الاشتراكي, أنه زمن السقطات الكبرى والحروب وضياع القيم, صوّره العمايري في فضاء تجريبي امتزجت فيه فنون الأداء والرقص التعبيري.
وبعيدا عن المقولات السياسية جاء العرض السوري الألماني «كونتراكت» ليطلق العنان لحديث الجسد كي يبوح بما يعاني ويشتهي, من خلال لوحات تعبيرية راقصة تقاطعت مع صوت الراحل محمود درويش وهو يلقي أبيات من شعره تطاول نفس الموضوع.
وإذا كانت تلك هي بانوراما مقتضبة وسريعة عما اقترحه مهرجان دمشق المسرحي الرابع عشر في اطار فعالياته, فقد كان المقترح جديراً بالمتابعة والتأمل, لأنه أعطى فكرة عامة عن مسارات التحول في المضمون والشكل التي طرأت على بعض تجارب المسرح العربي, والتي تجذرت في محاولة ربط الاشكال الاجتماعي المعاصر ببعده السياسي, وتفعيل عناصر العرض قدر المستطاع لخدمة الصياغة الفنية النابعة من روح المقولة, وهو مسار لم يكتمل بعد, ولم يثبت أهليته بالكامل, ولم يتجاوز كافة التابوهات والعراقيل, غير أن يتطلع الى مسرح جديد, يستعيد الجمهور لأنه ينطق بحال لسانه.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد