التعايش لا يعني إلغاء حرية الاعتقاد
أصّل الإسلام فكرة التسامح والتعايش الديني بشكل لم يشهد دين أو فكر مثله كما يؤكد أحد العلماء، فقد بيّن القرآن الكريم مجموعة من الأسس الفكرية والعقدية لقبول الآخر والتعايش معه منها التركيز على فقه المشاركات بين المسلم والآخر ويؤكد هذا العالِم أن موقف الإسلام يقوم على أساس سنة التدافع في حالة الحرب وعلى سنة الدفع بالتي هي أحسن في حالة السلم.
لقد كان الإسلام ولا يزال ديناً عظيماً ورائداً ورائعاً في التسامح ورغم ذلك وجد نفسه في عين العاصفة التي أثارها ولا يزال الإعلام الغربي ضده مدفوعاً من قبل جهات لا تريد لحالة السلم والاطمئنان أن تسود هذا العالم ويعترف أغلب العلماء أن هذا الإعلام نجح في مواقع عدة في تقديم هذا الدين باعتباره دين الإرهاب والعنف، والمسلمين باعتبارهم متوحشين إرهابيين وقد ظل سدنة الإعلام الغربي ينفخون على هذه النار مستغلين حالة الضعف التي يعيشها العرب والمسلمون على مختلف الصعد ولعل حادثة مقتل المرأة المصرية مروة الشربيني في محكمة ألمانية منذ بعض الوقت دليل ومؤشر خطير على هذه الحالة التي ساهم هذا الإعلام في إيصالها للإنسان الغربي حيث أقدم مهاجر روسي على إطلاق النار على هذه المرأة المسلمة لمجرد أنها استعانت بالقضاء لحل إشكال تولّد نتيجة اتهام هذا الروسي للمرأة بأنها إرهابية وبالنتيجة قضت مروة الشربيني بطلقات نارية من رجل غربي يدّعي زوراً وبهتاناً أنه مثال التحضر والمدنية.
وأتى المؤتمر العام لكلية الشريعة الذي عُقد منذ يومين تحت عنوان: التسامح الديني كمحاولة جديدة للدفاع عن الإسلام والتأكيد على الحوار أنه دين يعتبر التسامح أحد أهم مقاصده وأهدافه وقد ألقيت في هذا المؤتمر محاضرات ودراسات لعدد كبير من العلماء ورجال الفكر والحوار من سورية ودول عربية وإسلامية تناولت جوانب مهمة على هذا الصعيد ومن هذه المحاضرات محاضرة حملت عنوان: ثقافة التسامح بين الغرب والشرق للدكتور وهبة الزحيلي ذكر في مقدمتها أن التسامح في المفهوم الحضاري الإسلامي معناه: التزام ضابط التوازن والاعتدال في خطاب الآخرين والتعامل معهم نظرياً وعملياً على أساس منهج موضوعي مرن، دون ضرر ولا إضرار، ودون انتظار مقابل أو جزاء.
وبيّن الزحيلي أن غاية التسامح «الانفتاح على الشعوب الأخرى وإشعاع الخير والمعروف والحفاظ على ألق الحضارة ونشر ثقافة الحوار ونبذ التعصب والصراع واحترام كرامة الإنسان.. والعيش الودي المشترك بين المذاهب والأديان والفلسفات والقيم الخلقية السامية وزرع الثقة والطمأنينة بين الناس».
وأكد الزحيلي أن آفاق التسامح في شرعة الإسلام لا تقتصر على الوسط الإسلامي وإنما تعم العالم كله وتأصيله ثابت في السنة النبوية في حديث: (إني أرسلت بحنيفية سمحة) وحديث: (أحب الدين إلي الحنيفية السمحة).
وأوضح أن أصوله أو أسسه خمسة هي: الإخاء الإنساني، والاعتراف بالآخر واحترامه، والمساواة بين الناس جميعاً، والعدل في التعامل، وإقرار الحرية المنظمة واستشهد الزحيلي بالقرآن الكريم والسنة الشريفة للدلالة على وحدة الأصل الإنساني ووحدة الإنسانية مؤكداً أن التسامح بين الأديان واتباعها في الحقوق والأموال والملكيات إنما هو ليعم الرخاء الجميع وتتهيأ النفوس للحوار البناء، ولفت الزحيلي إلى أن المسيحية الحقّة في أصولها ومنهج عيسى عليه السلام لا تعرف إلا السماحة والحب والسلام.
ورأى الزحيلي أن ثقافة التسامح هي التي ميّزت الإسلام بالمرونة والانفتاح على العالم وأنها انتقلت إلى الثقافة الغربية من الثقافة العربية ولاسيما في الأعمال الإنسانية الخالدة للقائد الفذ صلاح الدين الأيوبي.
وبعد شرح مستفيض لمفهوم السماحة في الإسلام خَلص الزحيلي إلى القول إن شريعة الإسلام شريعة الرحمة وهي ذات نزعة عالمية قائمة على العقل المتفتح والفكر العميق المدى وأن السماحة الذاتية في الإسلام تتطلب أمرين: الأول- الاعتراف بالآخر والثاني- اجتناب اللجوء إلى العدوان أو الحروب لحل المشكلات.
وساهم آية الله الشيخ محمد علي التسخيري من إيران بمحاضرة عنوانها: التسلل الثقافي الاستكباري إلى العالم الإسلامي عقبة في وجه التسامح. لم ينكر في بدايتها سيطرة الثقافة الغربية في العالم الإسلامي ويرى أن هناك عاملين اثنين ساهما في ذلك الأول ما سماه (الاستكبار العالمي) والثاني (الفراغ في الأمة).
كما يرى التسخيري أن الاستكبار يعني التمرد على الله تعالى والتعقيد الوهمي للوجود الإنساني وهو يستهدف إشباع حس السيطرة العارم بشتى الوسائل الشيطانية كما فصّل التسخيري في جوانب الفراغ في الأمة حسب وجهة نظره حيث يرى أن الاستكبار يحاول توسعة هوّة هذا الفراغ من خلال العمل على قطع صلة الأمة الإسلامية بتاريخها المشرق المشرف والمشترك بين شعوبها وقطع صلة الأمة بلغة القرآن وإشاعة الروح القومية الضيقة والعمل على تضييع معالم الشخصية الإسلامية سياسياً واقتصادياً وتنفيذ خطة واسعة لضرب الأخلاقية الإسلامية. وتناول التسخيري في سياق محاضرته حجم التغلغل الثقافي في العالم الإسلامي على مختلف الصعد وتساءل: ومع هذا الحال فهل يمكننا أن نطرح فكرة التسامح مع من يتسلل إلى عقولنا ويحاول أن يسرق منابعنا ويستهدف شخصيتنا. إن الدعوة للحوار أحياناً تعبر عن أسلوب مخادع، داعياً إلى تعميق الفكر الإسلامي الأصيل في النفوس وتحقيق التلاؤم الكامل بين الجانب الفكري والجانب العاطفي وبذلك تضمن الانعتاق الحقيقي من سيطرة الثقافة الأجنبية. كما قدم الدكتور محمد توفيق رمضان ورقة حملت عنوان: منهج الاعتدال في الخطاب الدعوي أكد في بدايتها أن الأمة بأشد الحاجة إلى قراءة تأمل لواقعها الأليم وإعادة النظر في طريقة طرح الخطاب الدعوي لعل في ذلك ما يمكنها من النهوض والعودة إلى الواقع الصحيح مؤكداً أيضاً حاجة الأمة الإسلامية إلى توحيد الكلمة وجمع الصف «فعدونا يعمل جاهداً لتمزيق كلمتنا زيادة ما هي عليه من التمزق».
وأوضح رمضان أن الدعوة الإسلامية تتجه إلى إسعاد البشرية في ظل منهج الله وشريعته ولذا يجب أن تكون قلوبنا مفعمة بالرحمة والشفقة على كل الناس حتى أولئك الذين يحاربوننا ويضمرون لنا الكيد والعدوان.
ويرى رمضان أن هذا الأمر لا يتنافى مع شريعة الجهاد «فللجهاد فلسفته فهو المبضع الذي يستخدمه الطبيب الجراح لإنقاذ جسم البشرية من سرطان فيه الشر، وبيّن رمضان أن الخطاب الإسلامي تؤثر فيه عوامل عدة من أهمها: مضمون الخطاب وشخصية الداعية والمخاطب والظروف التي يصدر فيها الخطاب وقد فصّل رمضان في هذه الجوانب في محاضرته وشدد على أن أساس العلاقة بيننا وبين غير المسلم هو كون كل منا إنساناً كرمه الله بالإنسانية، قال تعالى: ((ولقد كرمنا بني آدم)). وانتهى رمضان عند التأكيد على أننا لا نستطيع أن نقدم للغرب الصورة الواضحة القوية إلا بمقدار ما نترجمها في واقعنا فنحن بحاجة للغرب والغرب بحاجة إلينا فلماذا لا نلتقي معه على الإصلاح.
وتناول الدكتور نوفل نوفل في ورقته المقدمة للمؤتمر «التعايش الإسلامي المسيحي من منظور التسامح الديني في الشريعة الإسلامية» حيث بيّن أن الأديان السماوية جميعها تنهل من مصدر واحد هو الله تعالى وتضاء بمشكاة واحدة هي نور الله وهدايته وأن الإسلام جاء ليكمل الرسالة السماوية السابقة. وقد دعا نوفل إلى نصرة التعايش لأنها تعني قبول الآخر وفق القوانين الناظمة للحياة الاجتماعية التي تعارف عليها جميع أفراد المجتمع ومفهوم التعايش لا يعني إلغاء حرية الاعتقاد والإيمان وأضاف نوفل: فكرة التعايش تنطلق من النتيجة التي يريدها الله من الإنسان والتي تصب في مجملها في أن يكون عمل الإنسان أياً كان نوع هذا العمل لخدمة أخيه الإنسان من دون النظر إلى خلفيته الدينية.
وأوضح نوفل أن إنكار الآخر ناتج عن جهل، مؤكداً أن نظرتنا للقبول بالآخر والتعايش معه جزء من ثقافتنا وحضارتنا وديننا الحنيف وأن ما جاء به الدين الإسلامي لم يكن مغايراً ومخالفاً لما جاء في حقيقة وصلب الدين المسيحي.
وقدم الدكتور عبد الجليل العبادلة من الجامعة الأردنية ورقة بعنوان: التسامح أصل دعوة الإسلام وسبب انتشاره أكد فيها أن التسامح من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يوليها الباحثون أهمية قصوى في عصر الغربة عن الإسلام وظهور الفتن والانقسام داعياً إلى تضافر جهود العلماء والمصلحين على تجديد هذا الدين وإصلاح ما أفسدته الشياطين على حد تعبيره. وأكد العبادلة أن التسامح أصل دعوة الإسلام وهو سبب انتشاره ودخول الناس فيه عن طواعية واختيار وإنه أصل لحل المشاكل وفض كل صور النزاع والخلافات بين الدول والأفراد والأحزاب والجماعات. ويرى الدكتور أحمد الزبيبي من كلية الشريعة بجامعة دمشق أن الاعتراف بتعدد الحضارات بوابة التسامح، وفي بحث حمل عنوان: المواطنة في العهد الإسلامي أكد الدكتور عماد الدين الرشيد أن الإسلام دين لمعتقديه فقط أما لغير معتقديه فهو نظام وأن المواطنة في الإسلام قضية أصيلة والفرق بين مفهوم المواطنة في الإسلام وغيره من الشرائع أن المواطنة في الإسلام مفهوم سياسي مدني وفي غيره مفهوم ديني يماثل مفهوم الأخوة في الإسلام وأشار الرشيد إلى أن الإسلام استطاع أن يوجد توازناً في مجتمعاته على الرغم من التنوع العرقي والديني والثقافي. وقدم الدكتور عبد الرحيم عمر الشريف من جامعة الزرقاء في الأردن ورقة عمل حملت عنوان: صفحات من صور تسامح علماء السلف مع إخوانهم المخالفين. وفي السياق ذاته قدم محمد بن زكريا النداف من جامعة دمشق بحثاً تناول فيه ظاهرة تسامح الأئمة وتشدد الاتباع. ومن جامعة اليرموك جاء بحث مقدم من أحلام مطالقة حول مظاهر التطرف الفكري وطرق علاجها من منظور التراث الإسلامي قالت في بدايته: التسامح قيمة دعا إليها الإسلام وقام عليها وهي التي تضفي عليه صفة الوسطية والاعتدال بلا إفراط وتفريط. وأوضحت أن هناك عقبات تقف في طريق إبراز الصورة السمحة للإسلام أبرزها شيوع التطرف الفكري بصوره وأشكاله المختلفة ابتداءً من الجهل والتعصب واتباع الهوى والتقليد الأعمى وسوء التعامل عند الاختلاف بالرأي.
وبينت أن التطرف الفكري هو إحساس المرء بأنه يمتلك كل الحقيقة وفيه سد المنافذ على الآخرين وعدم الاعتراف بهم ولا يقف عند حدود الفكر بل يتجاوزه إلى مظاهر السلوك والانحرافات وترى أن التطرف الناجم عن قناعات عقلية يعد من أخطر أنواع التطرف لأن أثره لا ينحصر في النظرية التجريدية البحتة والخاصة بالقناعة بل يتخطاها إلى جملة من السلوكيات البادية في المأكل والملبس والحديث والتعامل.
ومن أخطر أنواع التعصب المقيت التعصب للرأي لمجرد كونه رأي فلان أو علان فالمقلّد ليس معدوداً من أهل العلم فالعلم معرفة الحق بدليله ورأت المحاضرة أن الشعوب التي تطبق النظرية الواحدة وتغلق باب الاجتهاد وتحجر على العقل هي شعوب مصابة بعمى البصيرة.
وتناولت أحد مظاهر التعصب وهو تكفير الآخر وأوردت أحاديث نبوية تحرم التكفير ومنها: «إذا كفر الرجل أخاه باء بها أحدهما» وقوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
كما تطرقت لمفهوم غلو التفريط والإفراط مؤكدة أن مبدأ التسيير وعدم التشديد هو الأصلح لرعاية مصالح الخلق.
وقدمت لهذا المؤتمر الذي شارك فيه مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة وهدف إلى تأصيل مفهوم التسامح الديني العديد من المحاضرات القيمة التي تناولت مواضيع وجوانب مهمة وسعت إلى التأكيد على أن الإسلام دين التسامح والوسطية والاعتدال والدفع بالحسنى.
محمد أمين
المصدر: الوطن السورية
إضافة تعليق جديد