ميساء آقبيق: رحلتي إلى بلاد العم سام (3)
أمريكا.. الانتماء للوطن
الجمل - ميساء آقبيق: لحظات قبل خروجي إلى شرفة الطابق العلوي من مبنى "إمباير ستيت" الشاهق، انتظر في الطابور ريثما ينظم الموظفون عملية خروج دفعة من الزائرين ودخول دفعة أخرى.. على يساري امرأة يبدو أن الارتفاع أثر على ضغط دمها فوقعت مغشيا عليها وجلس زوجها إلى جانبها يحاول مساعدتها، وعلى يميني شاشات تعرض صورا لمشاهير زاروا المبنى ولمراحل بنائه، وفي وسط ذلك صور لأشخاص غير معروفين أرفقت بعبارة "الأبطال الأوائل".. هؤلاء الأبطال هم عمال ساهموا في وضع الدعامات الأساسية للمبنى.. لم أتمالك نفسي وأنا أتوقف عند هذه اللفتة الذكية التي لم أشاهدها من قبل. صحيح أن برج إيفل في باريس احتوى صورا للمهندس الذي رسم تصاميمه وللآلات التي اعتمد عليها في رفع البرج، لكنها لم تترافق بصور العمال العاديين الذين كانوا يسعون وراء قوت يومهم بشكل طبيعي وهم يعملون في بناء البرج.. إن عرض صور بعض "الأبطال الأوائل" في مبنى إمباير ستيت، ربما يجعل ذريتهم حتى الجيل الثالث أو الرابع تسعى لخدمة الوطن والتمسك به وعدم القبول بغيره بديلا..
وأعتقد أن الآلة الدعائية في أمريكا قوية جدا لدرجة تصورها على أنها أرض الأحلام والجنة الموعودة، فالشعب الأمريكي في غالبيته لا يعرف ماذا يدور في بقية العالم إلا ما يقدمه له مسؤولوه وأجهزة إعلامه، وهو ارتضى أن يكتفي بمصادر محدودة لمعرفته حتى أصبح غير واع لوجود أمم أخرى، وأخذته دوامة العمل اليومي الذي لا يستطيع الفكاك منه لكي لا يموت جوعا حتى صار غير مبال بأي شأن خارجي، وإذا قال الإعلام الأمريكي للمواطن مثلا إن شعب سريلانكا هو من أكلة لحوم البشر عبر قصة قد تحدث استثناء سيصدق ويقتنع بل وسيطلب منك دليلا على خلاف ذلك إذا أنكرت هذا. من هنا نشأ أكثر الأمريكيين مرتبطين بوطنهم ارتباطا لا مثيل له لدرجة أن ثمانين في المئة منهم ليس لديهم جوازات سفر، وهم بالتالي لم يقطعوا حدود بلادهم الشاسعة، وعندما يقول أحدهم أنا أمريكي يقولها من منطق أنا سيد هذه الأرض، ليس بالضرورة لأنه متعجرف ولكن لأنه غير مطلع على ثقافات الشعوب الأخرى، تماما كما يقول الإيطالي أنا لا أجيد التحدث إلا بالإيطالية لكنه يعترف بأنه مقصر في تعلم اللغات وليس تكبرا على التحدث بلغة أخرى، وحين يتوجه الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما إلى المسلمين ويحضهم على المشاركة في خدمة البلاد ويتخذ مستشارة مسلمة ويوزع نسخا من القرآن الكريم هو يهدف إلى تشجع مسلمي بلاده في الداخل على الانخراط أكثر في مشروع بناء الدولة وليس بالضرورة أنه يعمل من أجل استمالة قلوبنا نحن في الخارج، لأننا نحن الذين نعيش في ما يسمى العالم العربي بالأصل نتمنى، كثير منا، أن نحصل على جنسية أجنبية، ولكننا بهذا نستسلم لواقع أن بلادنا لا يمكن أن تسير على طريق احترام الإنسان الذي يبني. وأنا آسفة حين أقول إن كل الذين يلهثون وراء الهجرة يختارون الحل السهل والجاهز..
صديقتي قالت لي منذ أيام: لاحظي أن المواطن العربي حين يعيش في الغرب يندمج مع النظام العام ويبدع وينجح في عمله، وأنا لا أتفق تماما مع هذا الرأي، لأن هناك كثيرين أيضا حملوا معهم تعصبهم وانغلاقهم وتخلفهم وباتوا مصدر تندر وسخرية للغربيين، أما في ما يتعلق بهؤلاء الذين نجحوا واندمجوا، فالحكاية برأيي أنهم كذلك لأنهم وجدوا نمط الحياة السائد قائما ومنظما وقد توزعت الأدوار وعرف كل شخص ما هو مطلوب منه وما هي واجباته وما هي حقوقه. ولكن هل يتذكر أحد كيف وصلت الدول الغربية إلى هذا النظام والنمط السائد المثير للإعجاب؟ لقد دفعوا الثمن من دمائهم، وقبل أن يصبحوا كما نراهم اليوم خاضوا الحروب وتقاتلوا وفقدوا مئات الآلاف من الأرواح ودمرت مدنهم واحترقت أراضيهم وشردوا وعذبوا وانسجنوا سواء في أمريكا أو في أوروبا، ونحن نريد أن نقطف ثمار ما عانوه ودفعوا ثمنه بشكل جاهز، ليس عندنا أقل استعداد لأن ندفع ربع ما دفعوه من أجل بناء بلادنا، هكذا نستسهل الخروج من أرضنا وبيئتنا ومجتمعنا وعائلاتنا إلى عالم سكانه مختلفون ولغاته وطبائعه مختلفة وفكره مختلف وحتى طقسه قاس في كثير من الأحيان فقط لأننا لا نريد أن ندفع الثمن. لقد كان الشاعر عربيا، ذلك الذي قال: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق، غير أننا لا نريد أن نعي هذه الحقيقة.. وهناك من سيقول: وهل أنا مجنون لأضحي بعمري وأترك أبنائي بلا معيل، أو لأرسل بولدي إلى مصير مجهول بعد أن تعبت في تربيته، وهي مشاعر إنسانية غاية في السمو، ولكن هل يتخيل أحد الحصول على شيء في الحياة من دون ثمن؟
نسيت أن أذكر أن مبنى إمباير ستيت تتغير ألوان أضوائه وفقا للمناسبات السنوية، وأنواره تصبح خضراء في شهر رمضان وعيد الفطر، ولا أدري كيف سيتصرف المسؤولون عنه عندما يعود شهر رمضان أياما إلى الخلف ويتعارض موعده مع شهر يوليو، الذي يحتفل الأمريكيون فيه بعيد الاستقلال فيتلون المبنى خلاله بألوان العلم الأمريكي، الأحمر والأزرق.
إضافة تعليق جديد