عن قضية التكفير
مازن كم الماز: عاد جنون التكفير ليحاول التعويض عن الأزمات العميقة التي ينتجها نظام الاستبداد في الخرطوم , عندما تعود الأمور من جديد لتحاول من تسمي نفسها الرابطة الشرعية للعلماء السودانيين تنصيب نفسها حاكما أعلى على ضمير السودانيين و تحاول أن تؤكد على حقها الحصري في رسم خطوط التفكير المسموح و غير المسموح , يطرح من جديد السؤال : من يحق له تكفير أي نزعة نحو الحرية و العدالة الإنسانيتين ؟ و إذا كان التكفير فعل فقهي بحت فمن هو الذي يجرؤ , و بأي درجة من الوقاحة , على محاولة استئصال حق الإنسان في التفكير و النقد الحر , و حلم البشر بعالم أفضل , بالانعتاق من القمع و القهر و الاستغلال .
من المؤكد تاريخيا بالفعل أن التكفير بدأ ( كما هو الحال اليوم ) سياسيا , و ارتبط أساسا بتأسيس السلطة المطلقة في الدولة الإسلامية الناشئة , أولا ضد القبائل التي رفضت أداء الزكاة لأول خليفة معلنة بذلك تمردها على سلطته المركزية , رغم أن النصوص الدينية , بما في ذلك التي "جمعت" في وقت لاحق , لا تقدم تبريرا لهذا التكفير و ما تبعه من أعمال عسكرية لإخضاع المتمردين بالقوة , و من ثم في الصراع على السلطة , كما فعل معاوية و أبناء أسرته الأموية من بعده عندما أمر بسب علي بن أبي طالب في المساجد , لذلك فإن محاولة إلصاق التكفير بالخوارج تحديدا غير صحيحة عدا عن أن فكرة التكفير عند الخوارج تمركزت أساسا على السلطة التي كفرتها لمبرر أساسي هو عدم قيامها بالعدل و الشورى و ليس , على الإطلاق , لعدم تقيدها بنسخة سائدة عن فهم النص المقدس كما سيكون الحال فيما بعد ( لهذا إسقاطات هامة تهدف لتبرئة السلطة أساسا من تهمة الكفر ) و حتى عندما استخدم الخوارج هذا المفهوم ضد الناس كان مبررهم هو تخاذل هؤلاء أمام السلطان و استسلامهم لطغيانه , بينما سيستخدم هذا المفهوم , أو السلاح بالأحرى , ضد المفكرين الأحرار في فترة لاحقة و ستستثنى السلطة تماما من مفعول هذا المفهوم , ابن حنبل رغم مواجهته الشرسة مع السلطة العباسية التي نصرت الفكر المعتزلي في بداية الأمر لم يعتبر معركته هذه ضد السلطة بل ضد المعتزلة و أصر حتى في أحلك مراحل هذه المواجهة على استبعاد السلطة نفسها عن التكفير أو حتى عن أي نقد ( أقل حدة ) على العكس من موقفه المتشدد دون هوادة من المعتزلة أنفسهم .
في الحقيقة إن المؤسسة الدينية هنا تصر مرة أخرى على تجريد سلاح التكفير ضد الفكر النقدي , إنها تجرده ضد أي نزعة إلى العدالة و الحرية , عدا عن أنه وسيلتها للحفاظ على تأثيرها من جهة و بالتالي سلطتها المعنوية على وعي الجماهير و من جهة أخرى على دورها في بنية الأنظمة القائمة , أما القوى التي تستخدم سلاح التكفير ضد السلطة اليوم فإنها قد بقيت لفترة طويلة جدا تمثل المؤسسة الفكرية التابعة لأشد الأنظمة رجعية و قامت لعقود بتبرير القمع الواقع على اليساريين معارضي تلك الأنظمة ( بتهمة العلمانية ) و تبرير أقسى و أشنع حالات القهر و الاستغلال المنفلت الذي مارسته تلك الأنظمة ضد شعوبها بما في ذلك نهب أمريكا و المراكز الرأسمالية للبترودولار التي تتباكى عليه اليوم , الذي طالما أحرقت بخورها حول دولاراتها التي تقاسمتها لفترة طويلة مع تلك الأنظمة و أسيادها في المراكز الرأسمالية , أما تكفيرهم للسلطة فما هو إلا المرحلة الأولى ليقيموا سلطتهم , ديكتاتوريتهم , الخاصة , التي تريد استبدال حراس السجون القائمة بحراس جدد , بلحى أطول و كراهية لا حدود لها لكل فكر حر , لكل إنسان حر .
هناك أشكال مختلفة للكفر , هناك من يكفر بالطغاة و هناك من يكفر بحرية الإنسان و بحلمه في غد أفضل , بأحلامه التي طالما أخفاها طوال تاريخ طويل من القهر و الاضطهاد عن عيون الحراس , هناك من يكفر بكل من يستعبد الإنسان و هناك من يكفر بكل ما يحرر الإنسان . إن الحلم بالحرية و العدالة ليس غريباً عن الإنسان العربي , و لا هو اختراع معاصر و لا أجنبي , إنه اختراع الجماهير التي تحلم بالخلاص من القهر و الاضطهاد , بل إنه في الواقع اختراع الطغاة أنفسهم و كل أزلامهم , إن الغريب عن الناس هم أولئك الذين يحقدون على حلمهم بالحرية و توقهم إلى العدالة , لقد أسقطت المؤسسة الدينية منذ زمن طويل راية أبي ذر الغفاري لصالح راية السلطان , منذ ساهمت في اغتيال أبي ذر لصالح محدثي الثراء من بني أمية و لصالح أحقية السلطان المطلقة في نهب العباد و البلاد , بينما بقيت راية أبي ذر مرفوعة في شرقنا رغم أنف الطغاة و القتلة و الجلادين و أزلامهم , راية بابك الخرمي والشيخ الصوفي عبد الرحمن و أبي الدرداء , لم تسقط يوما من أيدي الفقراء , هذه الراية لا علاقة لها ببعض الطغاة المصابين بجنون العظمة الذين يريدون أن يحولوا المؤسسة الدينية ككل شيء في مجتمعاتنا إلى مجرد وظيفة لدائرة بيروقراطية تابعة لإحدى وزاراتهم , إن سخافات جنون العظمة الذي ينتاب هؤلاء الطغاة يجعلهم يعتقدون أنهم , بعد أن مارسوا دور الإله الأرضي لعقود وسط "تقديس" البيروقراطية بكل أصنافها و فئاتها الثقافية , الدينية و "العلمانية" , أنهم قادرون على ممارسة دور إله السماء الذي تحتكره المؤسسة الدينية حتى اليوم , و إن بإذن و إشراف و أمر المؤسسة المركزية في السلطة : رأس النظام و حاشيته , يريد البعض أن يروج لهذيانات بعض الطغاة ( كما فعل وزير الأوقاف التابع لزين العابدين مؤخرا ) على أنها علمانية , هذه "العلمانية" ليست إلا امتدادا لأصولية الأمس , أو أنها أصولية من نوع مختلف تستخدم لخدمة استبداد بعض الطغاة , من المؤكد أن هستيريا العداء للآخر ما تزال قوية و متأصلة و قادرة على إعادة تمثيل هيروشيما جديدة , لكن سجون الطغاة لن تكون أبدا من يحمي الفقراء أو أصحاب الفكر النقدي من جلادين متعطشين للدماء , في أمريكا كانت الحكومات "الديمقراطية" جدا للبيض القادمين من أوروبا هي من أرسلت الجيوش تلو الجيوش لتقتل الهنود الحمر بدم بارد حتى الاستئصال شبه الكامل لآخر هندي أحمر , و كانت الحكومات "الديمقراطية جدا" في أوروبا "المتحضرة" هي من أعطى ملايين الفقراء السلاح و الأوامر ليذبحوا بعضهم بعضا في حربين عالميتين تحت شعارات القومية التي فسرت حسب أهواء و مصالح الطبقات السائدة بكراهية الآخر حتى ذبحه الفعلي , ملايين البشر ذبحوا , في أغلب الأحوال , دون ثمن أو مقابل , بكبسة زر قضى مئات آلاف اليابانيين بيد "زعيمة العالم الحر", إن مجانين السلطة المطلقة و الذهب يسببون الموت أكثر مما يحققون من السلام للبشر , إن سجونهم تخلق أجيالا لا تنتهي من القتلة و من مبررات الكراهية و القتل , إن الحل الفعلي لما يمكن تسميته بقضية التكفير ليس في الالتجاء إلى سجون طغاة طالما اعتبروا تكفير و ذبح كل صوت حر و معارض و كأنه قدس أقداس النسخة السائدة من الحقيقة المطلقة , بل إنه في أوسع دمقرطة ممكنة لآليات اتخاذ القرارات باتجاه توزيع السلطة و الثروة على كل البشر دون أي اعتبار للدين أو الجنس أو اللون أو الطائفة , من يظن أن هذا سينتج استبدادا جديدا عليه أن يذكر جيدا أن الشيوخ و الملالي من كل الطوائف عندما تولوا السلطة كما في العراق مؤخرا لم يوزعوها على أفراد طوائفهم , على العكس تماما , فقد حافظوا على أقصى درجة من تمركز السلطة و الثروة بأيديهم و وزعوها فقط بالقدر الذي يحول الناس إلى خدم عندهم , إن نقل السلطة و إدارة الإنتاج و التوزيع إلى شبكة مؤسسات قاعدية مجالسية سيعني أن الجميع , بمن فيهم رجال الدين أيضا , سيشاركون في النشاط الاجتماعي و السياسي الجماعي كأفراد متساوين مع الآخرين , دون أن يمارس أي كان، وصاية على ضمائر الناس و وعيهم أو تفكيرهم الحر أو حريتهم في تسيير أمور حياتهم.
إضافة تعليق جديد