الصراع على ليبيا ومستقبل السياسة الليبية
الجمل: تعتبر ليبيا من البلدان الشرق أوسطية التي ظلت على مدى الأربعين عاما الماضية تلعب دورا هاما في تطورات الأحداث والوقائع الإقليمية والدولية, وعلى وجه الخصوص في الساحتين العربية والإفريقية: بعد التحسن الملحوظ في العلاقات الليبية-الأميركية-الأوروبية, وما هو مستقبل السياسة الليبية؟
بيئة السياسة الداخلية الليبية:
تولى الزعيم معمر القذافي مقاليد السلطة في ليبيا في مطلع أيلول (سبتمبر) 1969م, وعلى مدى ال 41 عاما الممتدة من تلك اللحظة وحتى الآن, مازال الزعيم معمر القذافي يتولى زمام القيادة, وخلال هذه الفترة شهدت ليبيا العديد من التطورات المؤسسية السياسية, وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بطبيعة النظام السياسي الداخلي, وعملية صنع واتخاذ القرار, وحاليا, وبرغم الطبيعة الفائقة الخصوصية لآليات عمل النظام السياسي الليبي, فإن هذا النظام قادر على الاستمرار, وفي هذا الخصوص فقد تفاوتت وتباينت تفسيرات ذلك, ما بين طرف أكد أن السبب تمثل في قدرة النظام على توظيف أجهزته في عمليات قمع وإخماد المعارضة السياسية, وطرف آخر يؤكد على أن السبب يتمثل في قبول ورضى الرأي العام الليبي بسبب التحولات الاقتصادية الكبيرة التي حدثت إضافة إلى نجاح النظام في معالجة الاختلافات الاقتصادية في كافة المجالات.
تقول المعلومات والتسريبات, بأن الزعيم معمر القذافي المولود في العام 1942م قد أصبح على وشك بلوغ السبعين عاما, وبرغم تمتعه بكامل الصحة والحيوية, فإن مجرد دخوله عتبه العقد الثامن, سوف تمثل أمرا يلقي بالمزيد من الشكوك والتساؤلات الحرجة حول مدى قدرته على متابعة ومواصلة الإمساك بزمام المبادرة والسيطرة, على السياسة الليبية وهي في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية المتجددة, وأشارت بعض التسريات إلى وجود خلافات خافتة داخلية حول من هو الأكثر صلاحية لخلافة الزعيم معمر القذافي, وأشارت التسريبات إلى وجود ملف خلافات منخفضة الشدة, يمكن الإشارة إلى خطوطه الرئيسية على النحو الآتي:
• سيف الإسلام معمر القذافي: يتمتع بعلاقات طيبة مع البلدان الغربية, إضافة إلى الشهرة الواسعة بسبب التغطية الإعلامية الكبيرة التي حصل عليها بسبب تحركاته في أوساط المنظمات المدنية غير الحكومية داخل وخارج ليبيا, ولكن مع ذلك فهو لا يتمتع بمساندة المؤسسة العسكرية-الأمنية الليبية.
• معتصم معمر القذافي: تقول التسريبات بأنه يتولى منصب مستشار الأمن القومي الليبي, إضافة إلى تمتعه بمساندة المؤسسة العسكرية-الأمنية الليبية, وأيضا التأييد الكبير بواسطة رموز وعناصر «الحرس القديم» في أوساط منظمات حركة اللجان الثورية الليبية (الحزب الحاكم).
• خميس معمر القذافي: يعتبر من الناشطين في مجالات التعبئة الداخلية, وإضافة لذلك يتمتع بتأييد كبير في أوساط العسكريين الليبيين.
• هانيبال معمر القذافي: يتميز بالحركية في المجال الخارجي, ويتميز بالعصبية وسرعة ردود الأفعال, وأشارت التقارير إلى حدوث مشكلة في العلاقات السويسرية-الليبية, بسبب قيام السلطات السويسرية باستهداف هانيبال بسبب الدعوى التي رفعت ضده بسبب قيامه بضرب الخادمة التي كانت تعمل لديه خلال فترة تواجده فيها, وإضافة لذلك فقد واجه مشكلة مماثلة لذلك خلال وجوده في فرنسا.
تشير المفاضلات الجارية إلى أن الخيارات سوف تنحصر في سيف الإسلام القذافي, ومعتصم القذافي, حول أيهما أصح لتولي القيادة لاحقا, وفي هذا الخصوص تجدر الإشارة إلى أن الخلافات المشار إليها ليست بين أبناء الزعيم القذافي, فهم متعاونون بقدر كبير, ومنفتحون إزاء التعامل مع بعضهم البعض, وفقط تكمن الخلافات في نظرة الرأي العام الليبي, وفي الرأي السائد في أوساط المؤسسة العسكرية-الأمنية وحركة اللجان الثورية, وبكلمات أخرى, كل واحد من هذه الأطراف المؤسسة يعتمد وجهة نظر يبني عليها خياره الخاص المختلف عن وجهات نظر وخيارات الأطراف الأخرى.
يتميز الاقتصاد الليبي بالاستقرار, والوفرة, وعدم القابلية للتأثر بالضغوط, وعلى أساس اعتبارات أداء الاقتصاد الكلي, يمكن استعراض المؤشرات الآتية:
• الناتج الوطني الإجمالي: 91,1 مليار دولار سنويا.
• معدل الدخل السنوي للفرد: 143,81 دولار أميركي سنويا.
• معدل التضخم: أقل من 1% سنويا.
• الميزان التجاري الخارجي: 20 مليار دولار (يبلغ إجمالي الصادرات السنوية 31 مليار دولار والواردات السنوية 11 مليار دولار).
وتشير التحليلات إلى أن الاقتصاد الليبي يتمتع بالمزايا الآتية:
• القرب من الأسواق الأوروبية الغربية.
• عدد السكان الكلي المنخفض, (إجمالي عدد السكان 6 مليون نسمة).
• برغم الاعتماد على صادرات النفط والغاز, فإن الاحتياجات لا يتم الحصول عليها عن طريق الاستيراد, فهناك قطاع زراعي يساهم بنسبة 7,6% من الناتج الوطني الإجمالي, ويساهم القطاع الصناعي بنسبة 49,9% وقطاع الخدمات بنسبة 42,5% الأمر الذي أتاح للاقتصاد الليبي قدرة كبيرة في تحقيق مبدأ الاعتماد على الذات.
• التوازن النسبي في توزيع قوة العمل: 17% في مجال الزراعة, 23% في قطاع الصناعة, 59% في قطاع الخدمات.
هذا, وتشير معطيات التحليل المقارن, إلى أن نسب توزيع مساهمة معطيات التحليل المقارن, إلى أن نسب توزع مساهمة القطاعات الاقتصادية, ونسب توزيع العمالة بشكلها الموجودة به في الاقتصاد الليبي, لا توجد مثيلاتها في معظم الدول النفطية العربية الأخرى وعلى وجه الخصوص السعودية وبقية دول الخليج.
بيئة السياسة الخارجية الليبية:
ظلت البيئة السياسية الخارجية الليبية تمثل مصدر الخطر ومنبع المشاكل المهددة لاستقرار ليبيا السياسي, وتشير التحليلات إلى أن السبب الرئيسي في هذه المهددات يعود إلى النقاط الآتية:
• طموحات القيادة الليبية إزاء القيام بور الزعيم والقائد الإقليمي في المنطقة العربية والمنطقة الأفريقية.
• تورط السلطات الليبية في العديد من المحاور الدولية والإقليمية, وعلى سبيل المثال لا الحصر: التورط في ملف الحرب الأهلية اللبنانية – التورط في ملف الجيش السري الجمهوري الأيرلندي – التورط في ملف حركة فطامي الفلبينية – التورط في ملف حركة إيتا الانفصالية في إسبانيا وفرنسا – التورط في ملف حركة الألوية الحمراء الإيطالية – التورط في ملف منظمة بادر ماينهوف الألمانية, إضافة إلى العديد من ملفات الحركات الثورية الناشطة في أميركا اللاتينية مثل منظمة التوباماروس, وغيرها, إضافة لذلك فقد سعت الأجهزة الغربية إلى اتهام الأجهزة الليبية بالتورط في العديد من العمليات السرية التي استهدفت أمن البلدان الغربية, مثل التفجيرات التي حدثت في بعض المنشآت الأوروبية الغربية, باإضافة إلى حادثة تحطم طائرة لوكربي.
• سعت بعض الأطراف الغربية من أجل فرض النفوذ على ليبيا, فواشنطن ظلت تضع عينها على النفط والغاز الليبي, ونفس الشيء بالنسبة لفرنسا وإيطاليا, الأمر الذي أدى إلى جعل ليبيا تمثل أحد نقاط الصراع في ملفات الحرب الباردة بين البلدان الرأسمالية التي ظلت تستهدف ليبيا والبلدان الاشتراكية التي ظلت تسعى إلى دعم ليبيا والتمركز فيها لجهة استخدامها كقاعدة متقدمة لإعاقة تقدم المعسكر الرأسمالي الغربي.
أدت هذه العوامل إلى زعزعة استقرار علاقات ليبيا مع دول جوارها الإقليمي, فقد اندلعت الاشتباكات بين القوات الليبية والقوات المصرية مرارا وتكرارا, ودارت الحرب التشادية-الليبية بسبب تورط ليبيا في الحرب الأهلية التشادية, وبالنسبة للعلاقات الليبية مع تونس, فقد شهدت المزيد من التوترات والخلافات, ونفس الشيء مع الجزائر, أما بالنسبة للسودان فقد سعت ليبيا إلى دعم حركات المعارضة السياسية السودانية خلال فترة الرئيس جعفر النميري, وكان أخطر ما تورطت فيه ليبيا هو قيامها بتزويد حركة الجيش الشعبي لتحرير السودان في عام 1982 بالمزيد من القدرات العسكرية, الأمر الذي أتاح لزعيمها الراحل الدكتور جون قرنق أن يحقق المزيد من الانتصارات المتتالية, والاستيلاء على 26 مدينة في جنوب السودان إضافة إلى وضع ما لا يقل عن 75% من مساحة جنوب السودان تحت سيطرة قواته.
عانت ليبيا كثيرا ولفترة طويلة من تداعيات وانعكاسات سياستها الخارجية, وحتى الآن لا توجد حكومة عربية أو حركة سياسية عربية, إلا وكانت للقيادة الليبية علاقات التعاون والصراع معها.
مستقبل السياسة الليبية: إشكالية الخيارات الحرجة
إذا كانت السياسة الداخلية مصدر خير لليبيا, فإن سياسة ليبيا الخارجية ظلت على مدى 40 عاما الماضية تمثل مصدر الشرور والخطر الداهم, بسبب توجهات السياسة الخارجية الليبية, فقد تعرضت ليبيا إلى المزيد من الضغوط الدولية والإقليمية, إضافة إلى مواجهة العقوبات الدولية متعددة الأطراف, وحاليا, فقد استطاعت القيادة الليبية أن تستوعب المزيد من دروس الماضي, وفي هذا الخصوص نشير إلى أن انفراج أزمة العلاقات الليبية-الأميركية-الأوروبية, وبرغم تخفيف الضغوط, الدولية والإقليمية المفروضة ضد ليبيا, فإن المزيد من المخاطر المهددة لأمن واستقرار ليبيا ما تزال ماثلة ومتجددة:
• المخاطر الداخلية: وتتمثل في تزايد الخلافات القبلية-الإثنية, وذلك بسبب الطبيعة البدوية الصرفة لمكونات المجتمع الليبي, إضافة إلى تزايد نزعة تسييس الخلافات القبلية, وعلى أساس الاعتبارات السياسية المؤسسية, فإن إطلاق يد حركة اللجان الثورية الحاكمة قد أدى إلى حدوث الكثير من التجاوزات التي ولدت وأفرزت خلافات وصلت إلى حد الاشتباكات المسلحة بين عناصر هذه الحركة.
• المخاطر الخارجية: وتتمثل في تزايد التنافس بين القوى الكبرى, وعلى وجه الخصوص في مجالات الاستثمارات النفطية, واستثمارات البنيات التحتية, وحاليا تصارع العديد من الشركات العالمية الكبرى من أجل الحصول على المزايا في الأسواق الليبية, ومن الممكن أن يؤدي تحيز السلطات الليبية إلى طرف دولي دون سواه إلى توليد العداء مع الأطراف الدولية الأخرى.
ماتزال الفرصة متاحة أمام القيادة الليبية لجهة القيام باحتواء المخاطر الداخلية والخارجية, وعلى سبيل المثال لا الحصر, فإن لجوء القيادة الليبية إلى التوازن غير المتحيز في منح المزايا الاستثمارية للشركات الأجنبية سوف يساعد في تحقيق مبدأ التعايش مع الاستثمارات الروسية والفرنسية والإيطالية والبريطانية إضافة إلى الصينية, أما بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية فإنها أصبحت أقل قدرة إزاء القيام باستهداف ليبيا على المدى القريب المنظور, وذلك بسبب دخول استثمارات حلفاءها الأوروبيين الغربيين بكثافة في الأسواق الليبية, لكن وبرغم كل ذلك, فإن مصدر الخطر الرئيسي سوف يظل باقيا وهو الطموحات الإقليمية والدولية المفرطة التي ظلت القيادة الليبية تسعى إلى تحقيقها, فهل ترى سوف تسعى هذه القيادة إلى التفاعل المتوازن بين معطيات سياساتها الخارجية ومعطيات سياساتها الداخلية بما يحقق لها الاندماج في بيئتها العربية-الأفريقية-الشرق أوسطية, أم أنها سوف تطمح مرة أخرى إلى تجاوز هذه المعطيات, بما يجعلها مضطرة لمواجهة مالا تحمد عقباه!!!
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد