بدء العد العكسي لمئير داغان: انقلاب صورة«سوبرمان الموساد»
اختارت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي رئيس الموساد الجنرال مئير داغان رجل العام 2009. وفي منتصف كانون الثاني الماضي، وصف مراسل الشؤون الفلسطينية في صحيفة «الأهرام» المصرية الزميل أشرف أبو الهول داغان بأنه «سوبرمان الموساد الإسرائيلي». ولم تمض خمسة أسابيع على ذلك، حتى خرج قائد شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان ليتحدى داغان بعد اغتيال القيادي في حماس الشهيد محمود المبحوح قائلا: إذا كان داغان رجلا «فليعترف مثل الرجال بمسؤوليته».
وبين «رجل العام» و«سوبرمان الموساد» واتهام داغان في رجولته، أواصر قوية تظهر أن الرجال وأن الأساطير دُوَل، وأن ما يبدو عظيما في لحظة قد يتبدى عكس ذلك في لحظة أخرى. فداغان اختير لكي يكون أسطورة لكنه، كحال الكثير من الأساطير الإسرائيلية، تتهشم مع كل احتكاك بواقع مختلف. فالدعوات لإقالة داغان لم تعد حكرا على أوروبيين شاهدوا مساس داغان وموساده بكرامتهم الوطنية، وإنما تعدت ذلك لإسرائيليين باتوا يستشعرون الخطر من سلوكيات الموساد الحمقاء تحت قيادته.
والواقع أن الإسرائيليين أكثر من غيرهم يسمعون القول العربي المأثور «إنما الأعمال بخواتيمها»، مترجما للعبرية على شكل «اختبار النتيجة». وخواتيم أعمال داغان لا يمكن أن تكون خيرا. فالعشرات من أعضاء وحدة النخبة العملياتية في الموساد المسماة «كيدون» باتوا مكشوفين بأساليبهم وأسمائهم ووجوههم بل وببعض جيناتهم الوراثية للجميع. وأدرجت صور وأسماء 33 من أعضاء وحدة الاغتيال هذه في الموساد ضمن قائمة «الإنذار الأحمر» للأنتربول الدولي. كما أن علاقات إسرائيل الأمنية مع العديد من الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا واستراليا وايرلندا وألمانيا تضررت. وتم طرد دبلوماسيين إسرائيليين من عدد من هذه الدول جراء تزوير جوازات أوروبية أو استصدار مثل هذه الجوازات بطريق الخداع. وأخيرا ألقت بولندا القبض على عميل الموساد المسمى «أوري بوردسكي» في أول خيط مباشر لاصطياد المشاركين في عملية اغتيال المبحوح بدعوى تزوير الجوازات وتنوي تسليمه لألمانيا.
بل أن قسما من الفشل العملياتي الإسرائيلي في مواجهة قافلة الحرية لكسر الحصار المفروض على غزة ينسب للموساد الذي عجز ليس فقط عن توفير المعلومات الاستخباراتية للقوة البحرية وإنما لم يتوقع وجهة تطور الأمور في المواجهة البحرية التي بلغت حد اقتراف مجزرة على سفينة «مرمرة». والحديث يدور عن تركيا بشكل أساسي والتي رغم تصنيفها استخباراتياً كـ«دولة صديقة» لا يجوز جمع المعلومات عنها (وهذه أكذوبة لأن إسرائيل ضبطت مرارا وهي تجمع معلومات حتى داخل الولايات المتحدة)، إلا أن الموساد لم يفلح في استخدام صداقاته للحصول على المعلومات المطلوبة من جهاز الاستخبارات التركي.
ويصل الفشل الموسادي ذروته في اضطرار إسرائيل للمرة الأولى لمواجهة إدراج ملفها النووي على جدول أعمال ليس فقط القمة النووية في واشنطن ولا المؤتمر الدولي لمراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وإنما أيضا مؤتمر الوكالة الدولية للطاقة النووية. صحيح أن الإدارة الأميركية أفلحت في تمرير قرار في مجلس الأمن الدولي بشأن فرض جولة رابعة من العقوبات على إيران، لكن أحدا لا يؤمن (وخصوصا في إسرائيل) أن بوسع هذه العقوبات منع إيران من تطوير برنامجها النووي. وقد أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس أن بوسع إيران امتلاك قنبلتها النووية الأولى من عام إلى ثلاثة أعوام، ما يشير إلى فشل الجهود التي تمت حتى الآن في منع تقدم إيران النووي. ومعروف أن هذه كانت بين أولى مهام الموساد وعليها بنيت أسطورة مئير داغان.
- في حزيران من العام الماضي، قررت حكومة نتنياهو بالإجماع تمديد ولاية داغان لرئاسة الموساد لعام آخر. وأغدق الوزراء ثناء منقطع النظير على داغان الذي احتل في عهدي ايهود أولمرت وبنيامين نتنياهو مكانة «الشخصية الأمنية الأولى». ووصفه وزير التجارة والصناعة بنيامين بن أليعزر، الذي يسجل في خانته الفضل باقتراح اسمه كرئيس للموساد على رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون في العام 2002، بأنه «يمثل قدوة لنظرائه في العالم». كما أن وزير المالية يوفال شتاينتس، الذي يصطنع لنفسه هوية الخبير في قضايا الأمن الأمني، قال عن داغان أنه «رئيس موساد ممتاز. وقد رمم الموساد الذي عاد ليغدو أحد أفضل أجهزة الاستخبارات في العالم وكثير من هذا بفضله». بل أن وزير شؤون الاستخبارات دان ميريدور، وفي معرض تبرير التمديد الإضافي لداغان شدد على أن «رئيس الموساد هو شخص كفؤ أحدث تغييرات جوهرية. إن الوضع خاص، والفترة خاصة والأمر يتعلق برجل خاص».
غير أن الوضع تغير. فالكثيرون في داخل الحكومة وخارجها ينظرون إلى نتائج أفعال وأقوال داغان ويستغربون. فقد أعلن داغان قبل أسابيع أن الولايات المتحدة باتت تميل لاعتبار إسرائيل عبئا وليس ذخرا أمنيا. وهناك مطالبات عديدة في الصحف الإسرائيلية بإقالته جراء الإخفاقات المتكررة العملياتية والسياسية على حد سواء.
وأشار عدد من المعلقين الأمنيين في إسرائيل إلى أن الحظ كان سيحالف داغان ولفترة طويلة لو أنه أنهى خدمته نهاية العام 2009 من دون أن يضطر ليدخل العام الحالي كرئيس للموساد. فالتمديد الثاني له بعد سبع سنوات في رئاسة الموساد حمل معه كل عوامل التفجير. إذ استقال نائب رئيس الموساد الذي لم يرق له بقاء داغان كل هذه المدة في سدة القيادة مما حال دون تقدم آخرين في الجهاز.
ومن المعروف أن داغان أنهى خدمته العسكرية التي استمرت 32 عاما برتبة جنرال قبل أن يقوم أرييل شارون قبل سبع سنوات بتعيينه رئيسا للموساد خلفا لإفرايم هاليفي. وترى مصادر إسرائيلية أن الموساد في عهد هاليفي وسلفه كان قد تحول إلى نوع من الجهاز الأكاديمي ومني بالعديد من الإخفاقات العملياتية وأبرزها الفشل في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في عمان، واعتقال عملاء الجهاز يزرعون أجهزة تنصت على السفارة الإيرانية في قبرص. حينها غدا الموساد في نظر الكثيرين «ليس نمرا مفترسا وإنما قطة أليفة».
وخشية من تردي وضع الموساد أمر شارون بتعيين داغان الذي تجمعه به صداقة وزمالة من أيام الجيش رئيسا لهذا الجهاز فقط لأنه يسير والخنجر بين أسنانه. وأراد شارون من تعيينه إعادة الاعتبار للجانب العملاني في أداء الموساد في الخارج. ومع ذلك فإن تعيين داغان جوبه بالكثير من الريبة والعداء في صفوف الجهاز وقدمائه الذين آثر بعضهم الاستقالة. وتعتبر ساحات كل من سوريا ولبنان وإيران مناطق العمل الأساسية للموساد. وكانت أول مهمة كلفها شارون لداغان هي إحباط المشروع النووي الإيراني. غير أن داغان نال المجد في عهد أولمرت الذي منحه دعما مطلقا لتنفيذ عمليات دموية.
ولعب في اختيار داغان رئيسا للموساد خبرته في العمل ضد المقاومة في كل من قطاع غزة ولبنان. معلوم أن داغان هو أحد مؤسسي قوات العميل أنطوان لحد في الجنوب اللبناني، وقد قاد القوات الإسرائيلية هناك لعدة سنوات. وأشرف على تشكيل الذراع الأمني لهذه القوات وأقام وحدة تفجير على غرار «الوحدة 405» في شعبة الاستخبارات العسكرية، ليمارس العديد من أعمال التفجير في لبنان ما حدا بالمعلق الأمني في «هآرتس» أمير أورن إلى تحذير اللبنانيين، عند اختيار داغان لرئاسة الموساد، من أن السيارات المفخخة قادمة. وأشارت الصحف الإسرائيلية إلى أن ميزانية الموساد في عهد داغان تزايدت بشكل كبير.
وبحسب المراسلين العسكريين للقناتين الأولى والعاشرة في التلفزيون الإسرائيلي يؤاف ليمور وألون بن دافيد فإن داغان غدا «الشخصية الأمنية الأهم» في إسرائيل بفضل وجوده في مفصل كل المخاطر التي تواجه إسرائيل وخصوصا الخطر النووي الإيراني. وقالا أن كلمته في الموضوع الإيراني كانت على الدوام حاسمة وأنه «ليس من المبالغة القول بأن مستقبلنا، أو على الأقل جودة مستقبلنا، بين يديه». وأشارا إلى أن داغان لم يبلغ هذه المكانة هكذا، وإنما تسلق طوال خمس سنوات ونصف كي يصل. فقد أفلح في هز وتهوية الموساد وأعاد له، حسب قولهما، الهالة الأسطورية التي كانت له. وعندما تسلم داغان الموساد كان الجهاز «مطفأ» يستهلك الكثير من الموارد ولا يقدم نتائج ولذلك تحدث عن الصهيونية وحدد أهدافا.
ولم تكن بداية عمل داغان في الموساد واعدة. إذ ظهر الفشل الإسرائيلي عندما اعترفت ليبيا للولايات المتحدة وبريطانيا بما كان قد وصل إليه مشروعها النووي، ولم يكن للموساد علم بذلك. ولكن سرعان ما شرع داغان بموجة اغتيالات في لبنان ضد ناشطين في المقاومة الفلسطينية واللبنانية. ثم جاءت بعد ذلك الغارة الجوية الإسرائيلية على منشأة وصفت بأنها نووية في منطقة دير الزور في شمالي سوريا وبعد ذلك اغتيال الشهيد عماد مغنية في دمشق.
في نهاية هذا العام، ينهي داغان خدمته في الموساد. وحتى الآن ليس معروفا الشخص الذي سيتولى خلافته. ولكن من الآن فصاعدا تتجه الأنظار إلى الخليفة المحتمل. في العام الفائت عندما جرى تمديد ولاية داغان مرة ثانية حذر كثيرون من مخاطر التفكير بانعدام البديل. كثيرون في إسرائيل، وبينهم داغان نفسه، كانوا يتمنون لو أنه لم يتم التمديد لرئيس الموساد. ففي ظل تراكم الإخفاقات والمخاطر هناك من تمنى لو بقيت أسطورة «سوبرمان الموساد»، و«الرجل الذي أعاد لإسرائيل قدرتها الردعية»، على الأقل لتحفز من يخلفه على العمل بجد أكبر.
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد