غازي أبو عقل لـ"الحياة" و"السفير": لاتستخدموا مفردات العدو
الجمل-غازي أبو عقل: أمسى الحديث عن دور وسائل الإعلام في الصراعات من قبيل تحصيل الحاصل. أما علائم تفوق معسكر على آخر في معارك المكتوب والمسموع والمُشاهَد, فتتجلى عندما ينجح أحدهما في أن يفرض مفردات أعدها على خصمه, لأنها تسوق وجهات نظر تسهم في تشكيل قناعة ما تؤثر في ما يسمى "الرأي العام"! يدخل في هذا الإطار ما قرأته في تيارات "الحياة" –الأحد السادس من حزيران- على صفحة واحدة بقلمي كاتبين معروفين في الشؤون السياسية.
فالأستاذ ياسين الحاج صالح بدأ بهذه الجملة: "في جدولها الوراثي, تحمل إسرائيل التي وجدت لتبقى "محرقة" مستمرة" مضيفا بعد عدة أسطر: "ولما كان المقام هذا فُرض بالقوة وتمخض عن محنة إنسانية مستمرة يعانيها اليوم ما يعادل ضحايا الهولوكوست" ويساوي عدد سكان إسرائيل اليهود الحاليين تقريبا..."
انتهى الاجتزاء. في هذا الاستهلال الوجيز استعمل الكاتب مفردتين مختلفتين –محرقة وهولوكوست- فحمّل النص- بحسن نية واضحة-حمولة ثقيلة جدا... على الهضم. وهو أمر لا ينفرد فيه كاتب عربي واحد بل يكاد يكون شاملا كل من يكتبون بهذا الشأن في الإعلام العربي.
لن أخوض هذه المرة في رماد "المحرقة" لأني أنوي الاحتفاظ بذخيرتي لمناقشة كتاب الأستاذ جيلبير الأشقر "العرب والمحرقة النازية" الذي أوجزه لنا السيد سمير جريس في الحياة نفسها-الاثنين السابع من حزيران- بل أود أن أطرح على كل كاتب عربي, يقع عن حسن نية حتما, في كمين استعمال مفردات صنعها خصومه من أجل ترويج وجهة نظرهم, هذا السؤال: طالما أن الدنيا كلها مقتنعة بفداحة جريمة الحزب القومي الاشتراكي الألماني المرتكبة في ثلاثينات وبداية أربعينات القرن العشرين, ضد اليهود الأبرياء في أوروبا, فما هو السبب الكامن وراء إقدام دول أوروبية كثيرة بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية, على إصدار قوانين مستوحاة من القانون الفرنسي المعروف باسم النائب الشيوعي ثم الوزير جان كلودغيسو (J.c.GAYSOT) الذي يحرم التعرض لمناقشة "المحرقة" والبحث فيها كحادث تاريخي, ويمنع انتقاد قرارات محكمة نورنبيرغ الشهيرة؟ لا أريد الجواب فأنا أعرفه, وأريد توجيه سؤال ثان إلى كتابنا الذين يستعملون مفردات خصومهم بحسن نية, سؤال له صلة بمدرسة المراجعة التاريخية. وهي تيار ظهر في الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الأولى 1914-1918, بمبادرة من مؤرخ أميركي اسمه آ.بيرنز, ضم عددا من المؤرخين أرادوا إنقاذ كتابة التاريخ من أقلام المنتصرين, وهو هدف نبيل ولا ريب. اشتهرت هذه المدرسة بعدد من الإنجازات المهمة وانضم إليها مؤرخون أوروبيون, واكتسبت شهرة عالمية. ولما انتهت الحرب العالمية الثانية 1939-1945, تابعت بمؤرخيها عملها المهم, وكان من الأمور الحتمية أن تقع على وثائق كثيرة لا تنسجم مع رغبات المنتصرين, ومنها ما يتصل بواقع معسكرات الاعتقال والعمل الإجباري لا في ألمانيا القومية الاشتراكية فحسب بل وفي غيرها من الدول المنتصرة. وهنا بدأت مصاعب المؤرخين العاملين في هذا التيار. فأُطلق عليهم أولا صفة "الإنكاريين" لأنهم لم يصدقوا كل ما يقوله المنتصرون, ثم تفاقمت الاعتداءات عندما كتبوا عن "الهولوكوست", فأحرقت مكتبتهم الثمينة في لوس أنجلوس, وتعرض المؤرخون إلى القتل والضرب, بل وإلى قطع لسان أحدهم. والأدهى من هذا كله, أن مؤرخي هذا التيار المهم, أرادوا منذ سنوات قليلة عقد واحدة من ندواتهم في عاصمة عربية, واختاروا بيروت, فإذا بالهولوكوستيين العرب المستَجدين ينبرون على صفحات جرائدنا القومية والجهادية إلى الهجوم على مزوري التاريخ ومنكري الحرائق بما في ذلك محارق الغابات, جرى هذا كله قبل معرفة ما هي بحوث المؤتمر وما هي نتائج أعماله, لأن هولوكوستيينا المستَجدين لا مجال للمزاح معهم فحوافزهم معروفة, مما أجبر الحكومة اللبنانية على عدم الموافقة على استقبال هكذا مؤرخين لم يصابوا بعمى البصائر مثل هولوكوستيينا المستجدين (عندي قصاصات نفيسة من جرائدنا فيها بعض مقالات هؤلاء السادة الذين مازال بعضهم يمارس هواية التعامي على صفحات الجرائد نفسها).
لم أنس السؤال الثاني بعد هذا التمهيد للتعريف بالمؤرخين "الإنكاريين" الذين لا يثقون بدعاوى المنتصرين. لأنه يشبه السؤال الأول.. لماذا كانت مدرسة المراجعة التاريخية محتفى بها إلى أن راحت تعمل على وثائق غير المنتصرين المتصلة "بالمحرقة" فبدأت مصاعبها واستشرى قمعها حتى بقوة القوانين في دول النور والقانون؟ ما هي الأمور الخطيرة التي يريد الغرب المتصهين إخفاءها إلى درجة سن القوانين التي تعرقل حرية البحث العلمي التاريخي؟
هل سمع كتابنا من هولوكوستيين مستجدين وغير هولوكوستيين بحكاية "البروفيسور" الفرنسي هنري روك الذي حاول كتابة أطروحة عن وثائق ألمانية تتصل "بالمحرقة" عُرض بعضها في محكمة نورنبرغ؟
ريثما تتضح حقيقة أسباب قوانين القمع, نتمنى على كتابنا أن يتريثوا قبل أن يستعملوا المفردات العنقودية الصهيونية حرصا على سلامتهم وهذا رغم اقتناعي بأن الحقيقة لن تنكشف في المستقبل المنظور.
لن أغادر صفحة تيارات الحياة –السادس من حزيران- قبل التوقف عند "فكرتين", لا مفردة, جاء بها الأستاذ صلاح سالم في ورقته المُعَنْوَنَة: "تلك الدولة التي تجهل التاريخ وتحتقر الإنسانية". لأني اكتشفت في الورقة أنه من الظلم اتهام تلك الدولة وحدها بجهل التاريخ. دخل الأستاذ سالم إلى موضوعه بهاتين الفكرتين: "مع ذبول أو تراجع النمط القديم من القيادات أمثال بن غوريون ورابين وصعود أمثال نتنياهو وليبرمان وباراك, يتبدى خطر أن يكون القادة مهتزين طامعين في مناصبهم, وعيونهم مفتوحة على القوى التي تمكنهم من البقاء فيها (.....) فيما صارت هذه العيون مغمضة عن رؤية العالم وما فيه, ورصد حركة التاريخ.. لذلك لا يرى هؤلاء كل فرص السلام المتاحة والتي كان يحلم بها أسلافهم الكبار حتى عقدين مضيا"... انتهى الاجتزاء.
نفهم مما تقدم أن بن غوريون -أولا- ما كان طامعا في منصبه ولا راغبا في الاستمرار كرئيس للوزراء. ولو أن الأستاذ سالم عاد إلى بعض ما نُشر عن تاريخ بن غوريون, من مذكراته إلى كتاب توم سيجيف "المليون السابع" لما برّأه من الأطماع, ولولا ضغوط جون كينيدي رئيس الولايات المتحدة الأميركية, وإصراره على مراقبة المشروع النووي الإسرائيلي لما تخلى بن غوريون عن كرسيه. مع أن هذا التخلي كلف الولايات المتحدة حياة رئيسها الذي أودى به المشروع النووي الإسرائيلي, وتعصب الجمهوريين العنصريين.
أما الفكرة الثانية المغلوطة القائلة بأن نمط قادة إسرائيل القدامى وأولهم بن غوريون كانوا "يحلمون بفرص السلام" فإني أحيل الأستاذ سالم إلى كتاب أخير مهم للمؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم, وعنوانه الجدار الحديدي, لكي يقرأ نحو عشر صفحات لا غير, بدءا من الصفحة السبعين من الطبعة الفرنسية, المتصلة بمفاوضات الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل في 1949, ويتوقف عند المقترحات السورية التي قدمها يومئذ المشير حسني الزعيم من أجل حسم الصراع وفتح باب السلام. لكي يعرف حقيقة أحلام بن غوريون, التي لا علاقة لها بالسلام, بل باستكمال المشروع الكبير بين النيل والفرات على الأقل.
في هذه الأيام العصيبة التي تزداد فيها حدة الصراع الوجودي, لا يجوز لكتابنا الصحافيين ولا لصحفيينا الكتاب, خفض سوية يقظتهم نحو ما يُدخلونه إلى أدمغتنا من معارف.
ملاحظة ذات صلة بما قبلها:
كمين مصوَّر أوقعتنا فيه "السفير" التي نشرت على صدر صفحتها الأولى يوم الاثنين – السابع من حزيران. صورة جندي إسرائيلي من مقتحمي السفينة مرمرة, أصيب بجرح في وجهه, وصورة لجندي آخر في صفحة داخلية ملقى أرضا لأن المتضامنين مع غزة لم يمكنوه من أنفسهم.
تلقت السفير كما هو منتظر "اتصالات من قرائها يستغربون نشر الصورتين" فنشرت توضيحا لا يكاد يُرى في صفحة داخلية يوم الثلاثاء, تسوغ فيه فعلتها بأن الصور وزعتها جمعية الإغاثة التركية, كان "هدفها التوضيح" أن المتضامنين مع غزة دافعوا عن أنفسهم "بأيديهم العارية"... فصدق فيها قول القائل:
هو عُذرٌ يُفاقِمُ الذّنبَ قُبحا من دعاوى أعدائنا مُستوحى
ازدراء القُرّاء فَنٌّ "جميل" فادْعُ هذا السفيرَ كي يَتَنَحّى....
إضافة تعليق جديد