التراث العمراني العثماني في مقدونيا ضحية الحروب والزلازل والسياسة
تقع «جمهورية مقدونيا» في قلب البلقان، في مفترق طرق استراتيجية، ولذلك فقد تحولت الى قاعدة متقدمة للدولة العثمانية منذ نهاية القرن الرابع عشر لتنطلق منها الجيوش العثمانية لفتح كوسوفو وألبانيا والبوسنة المجاورة. ومن هنا يمكن فهم غنى مدن مقدونيا بالتراث العمراني العثماني (جوامع وتكايا ومدارس وحمامات وخانات... الخ) الذي يمثل المرحلة العثمانية المبكرة ثم الكلاسيكية مثل سكوبيا العاصمة وأوهريد ومناستير (بيتولا الآن) وفيليس... الخ.
ولكن هذا التراث الذي تراكم على مدى 500 سنة وأكثر من الحكم العثماني، الذي انتهى فجأة مع حروب البلقان 1912-1913، والذي يتمتع بقيمة تاريخية كبيرة لم يحظ في القرن العشرين بما يستحقه من اهتمام، وتحول الى ضحية الظروف التي واكبت قيام الدول الجديدة التي تعاقبت على حكم مقدونيا خلال القرن العشرين.
فقد بدأت المرحلة الجديدة بحروب البلقان 1912-1913 التي تميزت ببعدين: بعد معاد لكل ما هو عثماني، بمن في ذلك السكان المسلمون والتراث العثماني، بعد صراع على استحواذ مقدونيا بين الدول المتصارعة عليها (صربيا وبلغاريا واليونان). وكان ليون تروتسكي الشاب قد ذهب الى مقدونيا ليغطي للصحافة الروسية أخبار الحرب الدائرة هناك باعتبارها حرباً «تحريرية»، ولكنه صدم حين رأى انها تحولت في مقدونيا بالذات الى نهب وتدمير للمسلمين ومنشآتهم على يد الجيش الصربي الذي احتل المنطقة.
وهكذا لم تستقر المنطقة من حروب البلقان حتى دخلت الحرب العالمية الاولى التي تمخضت عن الاحتلال البلغاري لمقدونيا خلال 1915-1918 والذي تصرف فيها بخشونة أكثر الى أن عادت السلطة الصربية الى مقدونيا مع نهاية 1918 لتشكل نواة الدولة الجديدة (يوغوسلافيا) التي تشكلت آنذاك.
وكانت السلطة الصربية قد اعتبرت الجزء الذي سيطرت عليه من مقدونيا انما يمثل «صربيا الجنوبية» التي كانت في القرون الوسطى، كما هو الامر مع كوسوفو، ولذلك عمدت الى سياسة «تصريب» المنطقة التي كانت تعني التخلص من الواقع السكاني والعمراني القائم (المسلم) وإحلال واقع آخر (صربي) مكانه. وقد عمدت هذه السياسة الى تدمير التراث العمراني ليحدث صدمة عند السكان من حوله لدفعهم الى الهجرة الى الخارج (تركيا). وهكذا فقد عمدت السلطات الصربية عام 1924 الى تدمير «جامع بورمالي» وسط العاصمة سكوبيا، الذي يعود الى 1475 وكان يعتبر من أجمل الجوامع في البلقان، لا لشيء الا لتبني مكانه «نادي الضباط» على النمط الموجود في صربيا لتبدأ بذلك محاولاتها لتغيير ملامح وسط سكوبيا التي كانت حتى 1912 مدينة بغالبية مسلمة وملامح شرقية سائدة. وقد أدى تدمير هذا الجامع وغيره الى إحداث الصدمة المتوقعة ودفع السكان المسلمين للهجرة الى تركيا. ولكن بلغراد ارادت استعجال هذه الهجرة الى تركيا لتتخلص بسرعة من التراث العمراني العثماني، فوقعت في صيف 1938 اتفاقية بالأحرف الاولى مع تركيا لتهجير كل المسلمين تقريباً خلال خمس سنوات. ولكن وفاة أتاتورك واندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 حالا دون ذلك.
وفي الحرب العالمية الثانية قامت بلغاريا وألمانيا وإيطاليا في نيسان (أبريل) 1941 بالهجوم على يوغوسلافيا وتقسيمها، ما أدى الى إلحاق مقدونيا ببلغاريا مرة أخرى. وخلال الحكم البلغاري، الذي كان يسعى بدوره في كل مرة الى «بلغرة» المنطقة، تعرضت المنشآت العمرانية العثمانية أيضاً الى تدمير وتخريب خلال سنوات 1941-1944 سواء في شكل مباشر أو غير مباشر من خلال الاستيلاء على مصادر تمويلها (الاوقاف). ومن هذه المنشآت كانت «عمارة سنقر بك» في مدينة مناستير (بيتولا) التي تعود الى عام 838هـ/ 1434م، والتي بقيت تقوم بدورها الحضاري حتى 1941. والمقصود بـ «العمارة» هنا المؤسسة الجديدة التي اشتهر بها العثمانيون ونشروها في كل المناطق التي فتحوها، والتي كانت تقدم وجبات مجانية (صحن من الشوربة مع رغيف خبز) مرتين في اليوم للمحتاجين. وقد أمر السلطان سليم الاول بعد دخوله الى دمشق ببناء أول نموذج من هذا النوع (العمارة السليمية) في المنطقة العربية، وهي التي لا تزال قائمة في دمشق باسم «تكية السلطان سليم».
وفي نهاية الحرب العالمية الثانية عادت يوغوسلافيا الى حدودها السابقة ولكن مع نظامين جديدين (شيوعي وفيديرالي). وهكذا فقد ضمّت يوغوسلافيا «جمهورية مقدونيا» التي احتوت خليطاً مختلفاً من السكان لا علاقة له بمقدونيا القديمة، حيث تألفت من السلاف الارثوذكس الذين يعتبرون أنفسهم مستقلين إثنياً عن الصرب والبلغار والألبان والاتراك والغجر المسلمين. ومن ناحية أخرى فقد جاء حكم الحزب الشيوعي في السنوات الاولى بسياسة لا تبالي كثيراً بالتراث العمراني العثماني. وهكذا فقد استمرت السياسة القديمة في المرحلة الجديدة، فهدمت في السنوات الاولى للحكم الشيوعي بعض الجوامع ذات القيمة التاريخية كـ «جامع سنقر بك» في مدينة مناستير (بيتولا) الذي يعود الى عام 838هـ/ 1434م والذي كان يعتبر من أقدم الجوامع في البلقان، و «جامع ابن بايكو» الذي كان من أقدم جوامع العاصمة سكوبيا (قبل 1467 م)... الخ. وكما في فترة ما بين الحربين فقد أدت هذه السياسة أيضاً الى صدم المسلمين ودفعهم الى الهجرة بأعداد كبيرة الى تركيا خلال خمسينات القرن العشرين.
ولكن ما لم تقم به السياسة في العاصمة سكوبيا، قام به الزلزال القوي الذي ضرب المدينة عام 1963. فنتيجة لهذا الزلزال تضررت بعض أقدم الجوامع في العاصمة سكوبيا مثل «جامع الحاج قاسم» الذي يعود الى 822 هـ/1420 و «جامع الخاتون» الذي يعود الى 1511 و «جامع دكانجيك» الذي يعود الى 1549 و «جامع أراستا» الذي يعود الى القرن الـ 16... الخ. وللأسف، فإن بعض هذه الجوامع قد فقد الى الابد بعدما بقي ضحية للإهمال، بينما قيّض لبعض الجوامع أن تقوم من جديد مثل «جامع دكانجيك» الذي رمم بصورة أعادته الى ما يشبه الأصل عام 2005 بمساعدة خليجية، و «جامع أراستا» الذي بدأ العمل في ترميمه عام 2010.
وكان هذا الزلزال قد جاء بعيد قمة عدم الانحياز في بلغراد، التي أدت الى تراخي «القبضة القوية» على المسلمين في يوغوسلافيا والى التخلص من رموزها في الهرم اليوغوسلافي (ألكسندر رانكوفيتش) عام 1966. ويمكن القول إنه بعد هذه السنة حدث استقرار للوجود المسلم في مقدونيا ويوغوسلافيا بعامة، وانعكس ذلك في الحفاظ على التراث الموجود وحتى في بناء جوامع جديدة.
إلا أن موت تيتو عام 1980 وما أعقبه من انبعاث النزعات القومية وتفاقم الاوضاع وانهيار يوغوسلافيا في 1990-1991 أدى بدوره في ايلول (سبتمبر) 1991 الى استقلال «جمهورية مقدونيا». ولكن التوتر القومي الديني، الذي كان سمة دول ما بعد الشيوعية، برز بدوره في «جمهورية مقدونيا» في شتاء 2000-2001 بعد حرب كوسوفو في 1999. وفي هذه المرة برز الصراع بين الطرف السلافي الارثوذكسي (حوالى 65 في المئة) الذي يعتبر مقدونيا «دولة قومية» له وبين الطرف الألباني المسلم (حوالى 35 المئة) الذي كان يعاني من التهميش وأصبح يطالب بشراكة أو «دولة مشتركة». وللأسف، فإن النزاع المسلح الذي اندلع آنذاك واستمر حتى آب (أغسطس) 2001 قد طاول الجوامع والكنائس كأهداف «معادية». وهكذا فقد تدمرت أو تضررت حوالى 80 منشأة دينية منها 57 جامعاً. ومن المؤسف هنا انه إضافة الى بعض المنشآت التي تعرضت الى القصف فقد تم إحراق بعض المنشآت من جانب «الجماهير الغاضبة» كما حدث مع «جامع السوق» في مدينة برليب وسط مقدونيا الذي يعود الى عام 1475.
وقد عمدت هيئة الجماعة الاسلامية، التي تمثل كل المسلمين أمام الدولة وترعى شؤونهم الدينية والثقافية، الى نشر كتاب بالألبانية والانكليزية عام 2002 بعنوان «الجروح الأبدية: تدمير وتضرّر الجوامع في مقدونيا خلال الحرب» تستعرض فيه بالتفصيل والصور ما حلّ بالجوامع. وربما بدا العنوان آنذاك متشائماً لأن الاتفاق الذي أنهى النزاع المسلح بتدخل دولي في صيف 2001 (اتفاق أوهريد) كان يؤمل منه أن يبلسم جراح الحرب لئلا تتحول الى «جراح أبدية». ولكن العنوان بقي معبّراً الى الآن لأنّ رئاسة الجماعة الاسلامية تشكو من أن «جامع السوق» لم يسمح بترميمه حتى الآن مع أنه «تحت حماية الدولة» كأثر تاريخي!
وكان هذا أحد الاسباب لتجدد التوتر القومي الديني في أيار (مايو) 2010 مع انبعاث الذكرى العاشرة للنزاع المسلح والخلاف بين رئاسة الجماعة الدينية والحكومة القومية التي يقودها الآن نيقولا غرويسفسكي حول «مشروع سكوبيا 2014» و «المؤتمر الدولي الثاني لحوار الاديان والثقافات» الذي دعت اليه وزارة الثقافة مطلع أيار (مايو) 2010. فقد قررت الحكومة في اطار «مشروع سكوبيا 2014»، الذي يهدف الى اعادة بناء مركز العاصمة بملامح جديدة، أن تبني كنيسة جديدة على بعد أمتار من الموقع الذي كان فيه «جامع بورمالي» الذي كان قد هدم في 1924 على رغم كونه من أجمل جوامع البلقان. ولذلك فقد طالبت رئاسة الجماعة الاسلامية بإعادة بناء الجامع الى جانب الكنيسة لكي يكون مركز المدينة معبراً عن التعايش المسيحي الاسلامي. ولكن هذا الطلب دفع الحكومة الى السكوت عن بناء الكنيسة المقترحة في مركز العاصمة.
ومن ناحية أخرى، قررت رئاسة الجماعة الاسلامية مقاطعة «المؤتمر الدولي الثاني لحوار الاديان والثقافات» المقرر عقده خلال 6-9 أيار 2010، مما كان يشكل إحراجاً كبيراً للحكومة أمام المشاركين، ولم تقبل المشاركة إلا بعدما انتزعت عشية افتتاح المؤتمر ضمان رئيس الحكومة بإعادة ترميم «جامع السوق» التاريخي الذي أحرق في ربيع 2001 وبقي كذلك حتى الآن مع أنه «تحت حماية الدولة» كأثر تاريخي.
مع هذا «الاتفاق» بين رئيس الحكومة نيقولا غرويفسكي ورئيس الجماعة الاسلامية في «جمهورية مقدونيا» الشيخ سليمان رجبي، الذي سمح بافتتاح طبيعي لـ «المؤتمر الدولي الثاني لحوار الاديان والثقافات»، يصبح من المأمول أن يلقى التراث العمراني العثماني ما يستحقه من اهتمام لقيمته التاريخية، وأن يبقى خارج الحروب والسياسات المدمرة، لأن قدر «جمهورية مقدونيا» أن تكون نموذجاً للتعايش الديني والثقافي والحضاري بين المسيحيين والمسلمين.
محمد الأرناؤوط
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد