جولة كلينتون الديبلوماسية في الأسواق القوقازية لشراء الحلفاء
الجمل: شهدت الأيام الخمسة الماضية قيام وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بجولة دبلوماسية شملت بولندا-أوكرانيا-أذربيجان-أرمينيا-جورجيا: فما هي دلالات هذه الجولة, وهل من دبلوماسية علاجية-وقائية أمريكية جديدة في منطقة القوقاز, والبحر الأسود, وشرق أوروبا, وماهي تداعيات هذه الحراك الدبلوماسي الأمريكي على التطورات الجارية حالياً في منطقة الشرق الأوسط؟
-توصيف الحراك الدبلوماسي الأمريكي الجديد:
تحدثت الكثير من التقارير الإعلامية والقليل من التحليلات السياسية الأمريكية والغربية عن جولة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الأخيرة, ويمكن الإشارة إلى أبرز معطيات المعلومات والوقائع المتعلقة بهذه الجولة على النحو الآتي:
-بولندا: سعت الوزيرة هيلاري كلينتون إلى تطمين مخاوف البولنديين, من خلال التأكيد بأن واشنطن سوف تظل أكثر التزاماً بالوقوف إلى جانب بولندا في مواجهة أي خطر روسي محتمل, إضافة إلى الالتزام بدعم الاقتصاد البولندي, مع التأكيد بالتزام واشنطن بنشر القدرات العسكرية الدفاعية الأمريكية الصاروخية في بولندا..هذا , وتجدر الإشارة إلى أن ملف نشر القدرات العسكرية الأمريكية الصاروخية في بولندا, ينظر إليه البولنديون بأهمية فائقة, وذلك على أساس اعتبارات أنه سيساعد في تأمين بولندا ضد الخطر الروسي و يتيح الفرصة لبولندا أن تخطو الخطوة الأولى في مسيرة الانضمام إلى حلف الناتو, وهو الانضمام الذي يجد معارضة الأوروبيين الغربيين الساعين لخفض التوتر على طول حدود أوروبا الشرقية مع روسيا, وتقول المعلومات والتسريبات بأن البولنديون يخططون إلى الالتفاف على قرار الأوروبيين القاضي بعدم ضم بولندا إلى الحلف, وذلك عن طريق إفساح المجال أمام الأمريكيين لجهة القيام بنشر قوة عسكرية أمريكية كبيرة تتجاوز الخمسة ألاف جندي, بما ينسجم مع بند اتفاقية حلف الناتو القائل بأنه إذا كان لأي دولة عضو في الحلف قوة عسكرية كبيرة في حدود خمسة آلاف جندي, فإن الحلف يكون عندها ملزماً بأن يأخذ في الاعتبار وضع هذه المنطقة ضمن نطاق اختصاصات الحلف, وكأنما هي منطقة تابعة لحلف الناتو, وتأسيساً على ذلك فإن الخلاف الأمريكي-البولندي ينحصر الآن في حجم القوات الأمريكية التي سوف يتم نشرها في بولندا وبكلمات أخرى, وافقت واشنطن على نشر قوة صغيرة في بولندا, وبدورها وارسو وافقت على نشر القوات الأمريكية في بولندا ولكن بشرط أن يكون حجمها كبيراً.. ومن جهة أخرى تقول التسريبات بأن دول الاتحاد الأوروبي طلبت من واشنطن الالتزام بعدم نشر أي قوة كبيرة الحجم في بولندا, وذلك تفادياً لما يمكن أن يترتب على ذلك من تعقيدات ومخاطر تهدد الأمن الأوروبي.
- أوكرانيا: جاءت زيارة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لأوكرانيا على خلفية التحولات الجديدة التي شهدتها الساحة السياسية الأوكرانية, فقد أدت نتائج الانتخابات الأوكرانية الأخيرة إلى خروج رموز الثورة البرتقالية الموالين لأمريكا من السلطة, وصعود نظام جديد أكثر رغبة في الالتزام بتوازن السياسية الخارجية الأوكرانية بما يحقق توازن المصالح على خط كييف-واشنطن, وخط كييف-موسكو.
جاء رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين وعقد صفقة مذهلة مع الأوكرانيين, لم تتضمن قيام روسيا بتزويد أوكرانيا بما يغطي حاجتها من إمدادات النفط والغاز وحسب, وإنما قدم عرضاً بدمج شركة الغاز الأوكرانية مع شركة الغاز الروسية, ضمن بنود شراكة روسية-أوكرانية تباشرالاستثمار في أنشطة إمدادات النفط والغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية للدول الأوروبية..وبالمقابل, فقد جاءت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري من أجل موازنة العرض الروسي،مقدمة لأوكرانيا عرضاً بالتزام أمريكا بضم أوكرانيا إلى حلف الناتو..وتشير التقارير إلى أن عرض الوزيرة الأمريكية قد جاء متأخراً, وذلك لأن البرلمان الأوكراني, وقبل بضعة أيام من حضور الوزيرة الأمريكية كان قد أجاز تشريعاً قانونياً يلزم الحكومة الأوكرانية بعدم الانضمام إلى أي تكتل أو تحالف دولي أو إقليمي يترتب عليه تحويل أوكرانيا إلى دولة منحازة, أو يلحق الأضرار بمبدأ عدم انحياز أوكرانيا في الساحة الدولية والإقليمية.
-أذربيجان: سعت الوزيرة كلينتون في العاصمة الأذربيجانية باكو إلى عقد لقاء مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ووزير الخارجية الأذربيجاني, وركزت من خلال هذا اللقاء على تخفيض توترات باكو-واشنطن بسبب ضغوط واشنطن السابقة على أذربيجان بضرورة إجراء الإصلاحات السياسية بما يتيح اكمال عملية التحول الديمقراطي, وفقاً لنموذج نشر الديمقراطية الذي ظلت الإدارات الأمريكية تهتم بتعميمه في الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي, وأيضاً في الدول التي كانت سابقاً ضمن منطقة أوروبا الشرقية المرتبطة بالاتحاد السوفيتي السابق.
أشارت التقارير الإعلامية والتسريبات, إلى أن لقاءات الوزيرة كلينتون في باكو الأذربيجانية كانت بمثابة تقديم قدر من الاسترضاءات الأمريكية للسلطات الأذربيجانية, والسبب هو مخاوف واشنطن المتزايدة إزاء أن تتحول اذربيجان باتجاه نفس الطريق الذي بدأت تسير فيه تركيا وعلى وجه الخصوص مايتعلق باحتمالات تزايد التقارب الأذربيجاني-الروسي, والأذربيجاني-الإيراني, وإضافة لذلك تقول التسريبات والتقارير بإن واشنطن تعقد أهمية كبيرة على المزايا التي يمكن لمحور واشنطن-تل أبيب الحصول عليها في أذربيجان المجاورة لمنطقة شمال إيران الفائقة الأهمية, إضافة إلى المزايا التي يمكن أن تساعد في تفعيل ملف تشديد العقوبات الأمريكية ضد إيران, وبالطبع لم تنسى الوزيرة الأمريكية من التأكيد للمسؤولين الأذربيجانيين بأن واشنطن سوف تسعى خلال الفترة القادمة باتجاه إيجاد حل لأزمة احتلال القوات الأرمنية لمنطقة ناغورنو-كرباخ, وبقية المحافظات الأذربيجانية السبعة المجاورة له.
-أرمينيا : عقدت الوزيره كلينتون في يريفان الأرمنية لقاء مع الرئيس سركيسيان, وتطرقت في اللقاء إلى العديد من الملفات والقضايا وعلى وجه الخصوص, ملف أزمة إقليم ناغورنو-كرباخ, ووجود القوات الأرمينية في الأراضي الأذربيجانية الأخرى, وماكان لافتاً للنظر أن الوزيرة كلينتون قد سارعت لجهة القيام بالآتي:
-عقد لقاء مع زعماء منظمات المجتمع المدني الأرمنية المعارضة لنظام الرئيس سركيسيان, وطمأنتهم بأنها قد حصلت على التزام الرئيس سركيسيان بإصلاح قضايا حقوق الإنسان ورفع القيود المفروضة على حرية الصحافة وحرية البث التلفزيوني.
-التعبير عن مدى اهتمام أمريكا بالمليون ونصف أرمني الذين تم قتلهم في المذابح العثمانية, ضمن ماعُرف بملف المذبحة الأرمنية.
-إطلاق التصريحات التي تطالب تركيا بضرورة تطبيع العلاقات مع أرمينيا دون أي قيد أو شرط بانسحاب القوات الأرمنية من الأراضي الأذربيجانية.
هذا, وتقول بعض التحليلات, بأن أداء الوزيرة كلينتون الدبلوماسي في أرمينيا قد حمل بعض المؤشرات التي تفيد لجهة تعاطف واشنطن مع خصوم ومعارضي الرئيس الأرمني سركيسيان الحليف الرئيسي لموسكو في منطقة القوقاز الجنوبي.
-جورجيا: شكلت جورجيا المحطة الرئيسية في جولة الوزيرة هيلاري كلينتون, وفي العاصمة الجورجية تبليسي وجدت هيلاري كلينتون الفرص الواسعة لجهة إطلاق التصريحات التي سعت من خلالها إلى إطلاق الرسائل وبث الإشارات الساخنة لبعض الأطراف القوقازية وبالنسبة لروسيا, فقد طالبت الوزيرة كلينتون روسيا بضرورة سحب القواعد العسكرية الروسية من إقليم أوسيتيا الجنوبية, وإقليم ابخازيا الشركسية اللذان أعلنا الانفصال من جورجيا, وإضافة لذلك طالبت الوزيرة كلينتون موسكو بضرورة إلغاء اعترافها باستقلال أوسيتيا الجنوبية وإبخازيا الشركسية, وذلك احتراما للسيادة الجورجية..أما بالنسبة لتركيا, فقد سعت الوزيرة كلينتون إلى التأكيد بأن الكرة قد أصبحت في ملعب أنقرة, لجهة القيام بتحسين وتطبيع العلاقات مع إرمينيا, وعدم فرض أي شروط تركية على إرمينيا سواء تلك المتعلقة بملف المذبحة الأرمنية, أو تلك المتعلقة بملف سحب القوات الأرمنية من أذربيجان, وإضافة لذلك فقد سعت الوزيرة كلينتون من العاصمة تبليسي إلى التأكيد على مدى قوة ومتانة الروابط والعلاقات الأمريكية-الجورجية في ظل وجود واستمرار نظام الرئيس الجورجي (حامل الجنسية الأمريكية) ميخائيل ساخاشفيلي.
انتهت جولة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون, وفي هذا الخصوص فقد أشارت تعليقات الخبراء إلى تميز هذه الجولة بالعديد من الملامح اللافتة للنظر, ومن أبرزها أن كل الدول التي قامت الوزيرة كلينتون بزيارتها هي إما من دول شرق أوروبا السابقة, أو من الدول التي كانت ضمن الجمهوريات السوفيتية السابقة.
-ماذا يحمل جدول أعمال السياسة الأمريكية الخارجية الجديد:
تشير معطيات خبرة أداء السياسية الخارجية في منطقة القوقاز والبحر الأسود وشرق أوروبا إلى أن قوة الدبلوماسية الأمريكية قد شهدت خلال العامين الماضيين قدراً كبيراً من التراجع, الأمر الذي أدى إلى تزايد مخاوف الخبراء الأمريكيين إزاء احتمالات أن تتقدم الدبلوماسية الروسية لملء الفراغ الدبلوماسي الأمريكي في هذه المناطق ذات الأهمية الحيوية لمشروع الهيمنة الأمريكية على العالم, ومشروع تطويق روسيا, ومشروع تشديد العقوبات والضغوط ضد إيران.
أكدت المعلومات, بأن مخاوف الخبراء الأمريكيين المتزايدة قد استندت إلى المعطيات الآتية:
-سعي جورجيا المتزايد باتحاه تعزيز علاقاتها مع تركيا وإيران, وذلك بسبب سخط الرأي العام الجورجي والنخبة السياسية الجورجية بما يتهم واشنطن بأنها قد ترددت وأهملت في دعم حليفتها جورجيا بالشكل المطلوب في حربها مع روسيا في مواجهات عام 2008م, والتي انتهت ليس بهزيمة القوات الجورجية وحسب, وإنما بإعلان إقليم أوسيتيا الجنوبية, وإقليم ابخازيا الشركسية بالانفصال والاستقلال عن جورجيا.
-سعي تركيا المتزايد باتجاه تعزيز علاقاتها مع روسيا وإيران و سوريا, وذلك ضمن مؤشر بالغ الخطورة بالنسبة لمستقبل الاستراتيجية الأمريكية في مناطق الشرق الأوسط والشرق الأدنى, والقوقاز وآسيا الوسطى ومنطقة البحر الأسود.
من المتوقع أن تسعى الإدارة الأمريكية للحصول على المزايا الجيوبولتكية الآتية:
-استعادة النفوذ الأمريكي على تركيا, وذلك عن طريق حرق الأوراق الجيوبوليتيكية التي تتمسك بها أنقرة, ومن أبرزها:ورقة الصراع القوقازي الجنوبي بين أذربيجان وإرمينيا, وبكلمات أخرى..إذا كانت تركيا تحتفظ بعلاقاتها القوية مع أذربيجان من خلال التزام تركيا القاطع برفض أي تطبيع للعلاقات مع أرمينيا إلا إذا انسحبت القوات الأرمينية من الأراضي الأذريجانية, فإن دخول واشنطن على خط أرمينيا-أذرييجان سوف يساعد في دفع أذربيجان إلى التخلي عن تركيا..بما يهدد إمدادات النفط الأذربيجانية العابرة لتركيا،إضافة إلى ردع تركيا بإمكانية أن تسعى أذربيجان إلى تحويل إمداداتها النفطية إلى الأراضي الجورجية ومن ثم تحت مياه البحر الأسود إلى أوروبا..وفي نفس الوقت فإن مطالبة هيلاري كلينتون لتركيا بتطبيع علاقاتها دون قيد أو شرط مع إرمينيا, هي مطالبة قصدت الإضرار بملف العلاقات التركية- الأذربيجانية, وذلك لأن قيام تركيا بتطبيع علاقاتها مع أرمينيا دون قيد أو شرط سوف يؤدي إلى غضب أذربيجان ودفع باكو إلى الانتقام من أنقرة.
-قيام جورجيا بتطوير علاقاتها مع تركيا وإيران, سوف يلحق المزيد من الأضرار بالاستراتيجية الأمريكية, ومخططات محور واشنطن-تل أبيب الساعية إلى تحويل جورجيا لكي تقوم بدور (إسرائيل القوقاز), إضافة إلى احتمالات أن تسعى إيران إلى تقديم الدعم لجورجيا, بما يساعد جورجيا لجهة الاستغناء عن القواعد الأمريكية العسكرية والإسرائيلية..وهي المزايا التي تحاول واشنطن استغلالها واستثمارها في ردع تركياعلى أساس اعتبارات أن على أنقرة أن تدرك جيداً بأن أمريكا قادرة على الاستغناء عن المزايا العسكرية التركية واستبدالها بالمزايا العسكرية الجورجية..
من المؤكد أن للدبلوماسية الأمريكية جولات أخرى, في مناطق شرق أوروبا والبحر الأسود والقوقاز, وذلك طالما أن هذه المنطقة تعتبر ذات أهمية حيوية فائقة لمشروع الهيمنة الأمريكية ولمشروع النفوذ الإسرائيلي في المنطقة, وتحديداً مايتعلق بنظرية أمن الحدود الشمالية الإسرائيلية القائلة بأن أمن شمال إسرائيل لايخضع للاعتبارات الجغرافية التي تنحصر في الحدود مع سوريا ولبنان, و إنما في الاعتبارات الحيوية الجيو-سياسية التي تمتد من خط الحدود الإسرائيلية مع سوريا ولبنان وحتى جمهورية كازاخستان الموجودة في أقصى شمال منطقة آسيا الوسطى.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد