'من قتل ناجي العلي':وثائقي يجددالجدل ولا يتورع عن اتهام ياسر عرفات
عرضت قناة 'الجزيرة' ضمن سلسلة (الجريمة السياسية) فيلماً وثائقياً في جزءين عن رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي، الذي اغتيل في أحد شوارع لندن بمسدس كاتم الصوت عام 1987، وهو الذي طالما جهر بالصوت الحاد، وجاهر بالرأي المختلف والفكر الحر، الذي يشي بروح المبدع الحر المتمرد على الوصاية والرعاية والخطوط الحمراء.
موت موعود!
الفيلم أعد مادة بحثه وكتب تعليقه ونفذ رسوم الشخصيات الفنان أحمد نصر الدين، وكتبت له السيناريو وأخرجته ساندرا أبرص، متخذة الشكل الكلاسيكي لفيلم ينطلق من لحظة الاغتيال، كي يكتب شهادة الميلاد... ويطرح الكثير من الفرضيات حول الجهة التي وقفت وراء اغتياله، كي يصل إلى حقيقة افتراضية لا ينفيها نفياً قاطعاً ولا يؤكدها تأكيداً مطمئناً.
(اللي بدو يكتب عن فلسطين... واللي بدو يرسم عن فلسطين... لازم يعرف حاله ميت. أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي) لم تكن هذه الكلمات البسيطة والواضحة، سوى تعليق من التعليقات التي كان يكتبها ناجي العلي على رسومه، التي افتتح بها الفيلم إطلالته الأولى على هذا الموت الموعود أو المؤجل، وعلى مسيرة بدأت من لحظة الاغتيال في أحد شوارع لندن في صيف عام 1987، هذه اللحظة التي سعت'مخرجة الفيلم إلى إعادة تجسيدها عبر مشاهد تمثيلية، استخدمت فيها شخصية قريبة الشبه من شخصية ناجي العلي. لم تنجح مخرجة الفيلم في أن تجعل من لحظة سقوط ناجي العلي على الرصيف مضرجاً بدمائه نقطة التوهج، رغم أنها أحيطت بجو من الترقب المشحون بنذر الخطر، لكن حالة الهلع والذعر التي سيطرت على الشارع بثت الحرارة في الحدث المصور بأناقة فائضة، وصنعت ذروة تراجيدية قادرة على تلمس نبض الحالة الإنسانية لرجل غريب، في مدينة غريبة، يسقط على مرأى من الناس، فلا يجد حوله إلا بضعة من المارة، الذين يهرعون مذهولين، وتتحول أصواتهم إلى صدى وطنين لاهث في رأس رجل يقف على تخوم الحياة والموت... كي يستعيد في لاوعيه، صورة الطفل الذي كان في قرية الشجرة في فلسطين.
حل فني بدا موفقاً إلى حد كبير، وإن لم يأت بجديد... لكنه شكّل انتقالا تعبيرياً بين لحظتي الموت والولادة، الغربة والوطن،'الطفولة والكهولة الضائعة في لحظة اغتيال وضعت حداً لعمر صاخب، أنهكه الصدق، وخانته القدرة على التأقلم مع الصمت والتضليل وشهادات الزور!
طفولة مستعادة!
يستعير صناع الفيلم كلمات ناجي العلي نفسها، كي يروي سيرته بالتقاطع مع سيرة الوطن المغتصب، وقضيته التي صارت جزءاً من ملامح ناجي الشخصية ومن نبض إبداعه الحار عبر آلاف الرسومات التي أودعها سجل فلسطين التراجيدي، وعلى صورة الطفل الحافي القدمين الذي كان يقول ناجي:
(اسمي ناجي العلي، ولدت وين انولد المسيح عليه السلام، بين طبرية في الناصرة في قرية الشجرة بالجليل الشمالي. أخرجوني من هناك بعد عشر سنوات في عام 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان... أذكر هذه السنوات العشر، أكثر مما أذكره من بقية عمري. لسه العشب والحجر والظل والنور أشياء ثابتة، كأنها محفورة في عيوني حفراً... لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك).
ومن مخيم عين الحلوة بدأ المشوار... وكان لافتاً أن أصدقاء ناجي الذين تحدثوا عنه، كانوا شريحة من الناس البسطاء، يشبهون الرجال الشرفاء المتعبين الذين رسمهم باعتبارهم ضمير القضية... تحدث هؤلاء عن طفولته الفقيرة، وعن التشرد القاسي في لبنان، الذي قال أحد المتحدثين إن الفلسطينيين فيه، ومنذ وطأت أقدامهم لم تكن لهم أية حقوق... لكن ناجي لم يلتفت إلى قسوة الأشقاء... فالمخيم ليس وطناً بديلاً، وليس حلاً دائماً... الوطن والحل والحلم هو فلسطين، والعدو هو إسرائيل ومن يفرط بالحقوق من أبناء القضية أو من اؤتمن عليها... لهذا وجه ناجي العلي سهامه الجارحة والغاضبة والمشحونة بالألم والسخط إلى من فرطوا وتحولوا إلى سماسرة في أي مفصل من مفاصل الصراع صغيراً كان أم كبيراً... رسم بصدق، وعبّر بجرأة، وانتقد بحدة... وفتحت له الصحف صدر صفحاتها، وصارت رسوماته حديث الشارع والساسة، وأهجية الغضب في الزمن العاصف... زمن لم يحتمل فيه الكثيرون وجود ناجي العلي... فكان عليه أن يسافر إلى الكويت حيث عاش هناك لسنوات ورسم في صحيفة 'القبس' حتى صار معلماً من معالمها... ثم خرج مطروداً من الكويت بعد ضغوط سياسية، وجهت أصابع الاتهام فيها إلى الزعيم الراحل ياسر عرفات.
بعيداً عن الكويت!
خرج ناجي العلي من الكويت إلى لندن كي يلقى حتفه هناك بكاتم صوت... ترى لو لم يخرج من الكويت«««'هل كان سيتعرض للاغتيال؟!
سؤال يطرحه أحد ضيوف الفيلم، لتبدأ عملية البحث عن الجواب المباشر وغير المباشر: من قتل ناجي العلي؟!
ثمة أسماء كثيرة طرحت في سياق البحث الجنائي وتحقيق السلطات البريطانية عن عملاء للموساد... لكن المهم لم يكن اسم المنفذ فقط، بل الجهة التي تقف وراء الاغتيال. من المحزن حقاً، أن تنحصر الآراء أو التكهنات بين اتهام الموساد، أو اتهام ياسر عرفات أو دوائر في'منظمة التحرير... يقول خالد ابن ناجي العلي إنه لا يبرئ أبا عمار من تهمة اغتيال والده، لكنه يضيف في موضع آخر: (يشرفنا أكثر أن يكون الموساد هو من اغتاله) فكرة ينفيها أحد الباحثين حين يشير إلى الكاريكاتير الساخر الذي رسمه ناجي العلي عن رشيدة مهران الصحافية المصرية المتواضعة التي ألفت كتاباً عن ياسر عرفات، ثم أضحت بين يوم وليلة مستشارة له، والآمرة الناهية في اتحاد الكتاب والأدباء'الفلسطينيين، فرسم عنها ناجي العلي كاريكاتيراً هجائياً مراً كان كفيلا بإصدار قرار اغتياله، لكن الكاتب طلال سلمان، الذي عمل ناجي في صحيفته 'السفير' يرد محذراً: (جريمة اغتيال ناجي العلي رصاصة في قلب فلسطين... يجب ألا نتهم أحداً بسهولة وبلا أدلة)!
أجل لقد كان اغتيال ناجي العلي رصاصة في قلب فلسطين... فقد كان ناجي بحق عبئاً على المتاجرين بفلسطين والعابثين بمصير فلسطين، والذين بحسن أو سوء نية، كانوا يقطعون طريق العودة إلى فلسطين، ولهذا لم يتساهلوا معه حياً ولا ميتاً... فقد رفضوا أن يدفن في مخيم عين الحلوة، كما أوصى إن تعذر دفنه في قريته (الشجرة) فدفن في المقابر الإسلامية في بروكود (دفن أمانة) واستبد بهم الحقد على ذكراه، ففجروا التمثال الذي نحته أحد الفنانين له ووضع في مدخل عين الحلوة بعد ثلاثة أيام فقط من تنصيبه، وضاع الكثير من رسومات ناجي العلي، فمن أصل 40 ألف لوحة كاريكاتور رسمها، كما يشير الشاعر خالد أبو خالد... لم ينشر سوى ثمانية آلاف... وفقدت الرسوم الباقية التي ضمنها ناجي العلي مرارته الساخرة وهجاءه الغاضب، وتعبيراته الأخاذة في الاختزال وإصابة قلب الهدف.
استعار صناع الفيلم في كتابة التعليق الكثير من كلمات ناجي كي يختزلوا ببلاغة، الصورة الأقرب لما يمكن أن يكون عليه... وكانت المقابلة التلفزيونية في تلفزيون الكويت، من الحسنات القليلة لوجوده في هذا الثغر الخليجي الذي ضاق به ضيفاً مبدعاً، ولاجئاً حراً، وكان أجمل ما قاله ناجي:
(لست مهرجاً... ولست شاعر قبيلة. إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث أن تعود، ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا... أنا متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها. أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم 'تحت' الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب، وأطنان التضليلات... وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يقضون لياليهم في لبنان يشحذون السلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح، ولمن يقرؤون كتاب الوطن في المخيمات).
لقد رسم ناجي نفسه بكلمات بسيطة وصادقة تشبه في بساطتها وعمقها رسوماته، وشخوصه التي حركها على مسرح الكاريكاتير السياسي الذي ابتدعه فكان حنظلة (أيقونة روحه) وكانت فاطمة (فلسطين في طهرها ونقائها) وكانت الوجوه المكدودة المتعبة'هي نقيض أصحاب الكروش المتخمة... وكان ناجي في النهاية هو الشاهد والشهيد الذي انتصر بموته وبالحديث عن ذكراه عمن تورطوا بعار اغتياله.
لقد سعى فيلم (اغتيال ناجي العلي) إلى تقديم صورة متعددة الأبعاد عن ناجي وعصره وقضيته... عن أصدقائه وعن أعدائه... فهؤلاء كانوا جزءاً من مسيرته، وجزءاً من حضوره ومن غيابه ومن مادة فنه الهجائي الساخر... وكان واضحاً أن المرتكز الفني الأساسي في صياغة هذا كله، إعادة تجسيد مشهدين أساسيين في حياة ناجي: الطريق الذي سلكه إلى الرسم... والطريق الذي سلكه إلى الموت... فصورة ناجي المشحون بقلق الإبداع وهو يرسم خطوط لوحاته، ويظلل تفاصيلها كانت تتكرر بأشكال مختلفة، متقاطعة مع مشهد الاغتيال ثم مع غيبوبته الطويلة وهو يرقد في المستشفى على تخوم الموت. وربما ساعد ذلك على صياغة رؤية إخراجية مدعومة بصورة أنيقة لا تخلو من تعبير موح، لكن هذه الأناقة'بدت باردة وذات إيقاع مونتاجي يفتقد حرارة القطع، بل لعلها جاءت في تيار معاكس لما بدا عليه ناجي من نزق وانفعال صادق، وهو يتحدث في المقابلة التلفزيونية... إلا أن هذا لا ينفي حرفية المخرجة ساندرا الأبرص، في تطويع موضوعها ضمن الشكل المألوف للفيلم الوثائقي، الذي يجتهد في أداء المهمة، ويخلص لقواعدها.
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد