المشكلة هي «دينو ـ فوبيا» لا «إسلامو ـ فوبيا»

22-10-2010

المشكلة هي «دينو ـ فوبيا» لا «إسلامو ـ فوبيا»

واحدة من أهم وأكثر المسائل إشكالاً اليوم في دوائر البحث العلمي والثقافي والمجتمعي لا بل والسياسي في العالم بشكل عام، وفي أوروبا الغربية وأميركا بشكل خاص، هي مسألة العلاقة مع الإسلام ومع الحضور الإسلامي في المجتمعات الغربية. منذ أواسط التسعينيات تقريباً، بدأ مصطلح «إلإسلاموفوبيا،» أو ما يمكن ترجمته بالعربية «الرهاب من الإسلام»، يغزو الدوائر البحثية والإعلامية ويتحوّل بحد ذاته إلى ظاهرة باتت تُخصَّص لدراستها وتحليلها وسبر أغوارها ميزانيات هائلة وتؤسَّس لأجلها مناصب علمية جديدة في الجامعات في الغرب والعالم غير- الإسلامي.
ولكن، هل يصحُّ تسمية ما نراه من موقف غربي تجاه الإسلام والمسلمين بـ«الرهاب من الإسلام» (إسلاموفوبيا)؟ وهل ما يبديه الغرب من مواقف وردود أفعال حيال مسلميه، سواء المهاجرون أم الذين ولدوا فيه ولم ينتموا إلى أي بلد مسلم خارجه، هو في العمق رهاب من الإسلام تحديداً وحصراً؟
جوابي على هذا السؤال هو أنَّ موقف الغرب من ظاهرة الإسلام ليس في الواقع «رهاباً من الإسلام» في المضمون أو الخلفية الذهنية. المسألة في العمق هي رهاب أوروبي حصراً، وأميركي بدرجة أقل، من ظاهرة «التدين» عموماً وعودة الكثير من الناس في الغرب ـ الذي أعلن نفسه مجتمعاً علمانياً لا دينياً في الأربعة قرون الماضية، خاصة في عصر الحداثة ـ إلى الاهتمام بالدين والنحو نحو التدُّين بمعناه العام. هذا الاهتمام هو بقناعتي لب مسألة العلاقة المتوترة بالإسلام في الغرب: هناك نوع من الرهاب العام والتوتر القلِق من الدين والتدين، سواء أخذت ظاهرة التدين ـ القائمة من قبر دفنتها فيه الحداثة قروناً ـ هوية مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوسية أو سينتولوجية أو روحانية عامة أو ماورائية سحرية، أو حتى، بطبيعة الحال، إسلامية. يعيش الغرب ما يمكن أن أسميه «دينو ـ فوبيا» (religio-phobia) وليس «إسلاموفوبيا». ومن يعيش في الغرب ويتأمل إرهاصات الحراك المدني ومتغيراته ومواقفه من الفكر اللاهوتي المسيحي في المجتمعات الأوروبية يدرك أن هناك في الواقع «مسيحو-فوبيا» بقدر ما هناك «إسلاموفوبيا» وأنَّ كلتيهما تعبير عن عدم وصول المجتمعات الأوروبية بعد إلى اكتناه طبيعة العلاقة الجديدة المطلوبة التي يجب أن تتعامل بها مع عودة الاهتمام بالتدين إلى الساحة الثـقافية العامة (public square)؛ هذا الاهتمام الذي لم يبدأ، بالمناسبة، مع هجرة المسلمين للغرب، بل نشأ من قلب الفضاء المعرفي الفلسفي والثقافي الغربي عينه منذ منتصف القرن الماضي.
عودة التدين
أما ما هو السبب الذي يجعل «الدينو-فوبيا» ظاهرة حية وفاعلة في المجتمعات الأوروبية؟ فالإجابة على هذا السؤال تأخذنا أبعد بكثير من مسألة علاقة الغرب بالإسلام نحو دراسة مرحلة إعادة التفسير والتحليل التي تقوم بها مراكز الفكر والبحث الغربية لطبيعة المجتمع وتقييمها النقدي للسياق الحياتي العام في الغرب. المتابع للدراسات الفلسفية التي يقوم بها مفكرون من طرفي المحيط الأطلسي لا يمكنه أن يتجاهل أدبيات مفصلية لمفكرين مثل تشارلس تايلر في كندا ويورغن هبرماس في ألمانيا. فكلاهما أثبت في مؤلفاته الأخيرة بأنَّ ظاهرة الدين والتدين لم تختـفيا ابداً في الواقع من الساحة المدنية والثقافية في الغرب، ولا حتى حين كان فكر التنوير يعيش ذروة هيمنته في عصر الحداثة، بالرغم من النقد والدحض الشديدين اللذين تعرضا لهما. كل ما جرى أنَّ الخطاب الديني لم يغادر الساحة، بل اكتفى بالتخلي عن موقع الوسط والجلوس على الأطراف مع الخطابات الأخرى ليلعب دوراً في الحراك الفكري والحياتي من هناك، وإن لم يتجلَّ هذا الدور بوضوح وينال الاعتراف بوجوده في أغلب الأحيان. يخلص هبرماس وتايلر على حد سواء إلى القول بأنَّ عدم مغادرة التدين للساحة الثقافية العامة واعترافنا بهذه الحقيقة يجعلاننا ندرك لماذا يعود الإنسان في عصر ما بعد-الحداثة الحالي إلى التلفت نحو الفكر الديني. لا بل إنَّ هبرماس وتايلر يدعوان المجتمع المدني والعلماني الغربي لإقرار هذا الحضور للتدين والعمل على إعادة النظر بدوره.
إذا كان هذا الإدراك والاهتمام المعرفيان يشغلان الفكر الأكاديمي والثقافي الغربيين اليوم وبعد تلك القرون الطويلة من النفي للتدين، فإنَّ الشارع العام الغربي مازال، على العكس، يتخبط في عقلية حداثوية مازالت تتنازعها مواقف قديمة تخاف الدين وتـنبذه ولا تؤمن بجدواه في الواقع المعاش ومازالت تجد لها تأثيراً على فكر وحياة ومواقف الفرد العادي في الشارع الأوروبي والأميركي. لم يصل الكثير من المواطنين الغربيين، الذين وُلِدوا وتربوا وتعلَّموا وعاشوا لعقود طويلة وجيلاً بعد جيل في مجتمعات تحشر التدين في زاوية الخاص والفردي والسري والجواني، إلى توازن وموضوعية مفكريهم وعلمائهم في فهم علاقة الدين بالثقافة. بل والأهم من هذا أن هؤلاء الأفراد لم يصلوا بعد لمرحلة من الاستعداد والمرونة للتعامل مع موجة تدين جديدة لم يعرفوها عن قرب من قبل، بدأت تحيط بهم وتطالعهم بوجهها في حياتهم اليومية من أفراد وجماعات مستحدثة في المجتمع الغربي جاءت من خارجه وتراكمت فيه عبر العقود وبات وجودها ملحوظاً وفاعلاً، وهي جماعات لم تعبر يوماً رحلة الغربة عن الدين أو نبذ التدين ولم تتخلَ عن اعتباره حقيقة ماهيوية جمعية لا تتعلق فقط بحياة الفرد الخاصة بل ترسم أيضاً ملامح الساحة الثـقافية والمجتمعية والسلوكية للمجموع (ينطبق هذا مثلاً على المسيحي كما المسلم القادمين من الشرق الأدنى أو من أفريقيا مثلاً).
في سياق تلك الخلفية القاعدية والتحول البنيوي في علاقة الفكر الغربي العلماني بظاهرة التدين وعبوره من حداثوية لادينية نحو مابعد-حداثوية أوسع أطيافاً وتمظهرات فكرية وثقافية وأكثر تشديداً على «المتعدد» و«النسبي»، يمكن برأيي أن نسبر بشكل أكثر دقة أي نوع من الرهاب يعيشه الغرب، وأن نلاحظ أن ما يعيشه الغربيون حيال تديُّن التجمعات الإسلامية الغربية بشكل خاص ما هو إلا وجه من أوجه متعددة لرهاب عام من عودة ظاهرة التدين إلى التأثير على الساحة العامة وفوبيا وجودية سببــها عدم استعــداد المجتمعات العلمانية والمدنية الغــربية الكافي بعد للتعامل مع الدين بطــريقة جديدة لا تستحضر دوره السلــطوي والقمــعي والظلامي في عصر ماقبل الحداثة، بل تخــلق دوراً جديداً له يحترم حرية الفــكر البــشري ونقــدية العقل العلمي وتعــددية وديموقراطيــة النظام الدولتي الأبعد ما يكــون عن الثيوقراطي والغيبي.
الخوف من الإسلام
يخاف الغرب من الإسلام لا لأنه «إسلام»، بل لأنه مظهر تديني لم يتعامل معه من قبل ولا يعرف ما إذا كان يستطيع أن يجد له فضاءً تفاعلياً إيجابياً مع الإرث العلمي والعقلي والعلماني الذي يقوم عليه الغرب أم لا. يخاف الغرب من الإسلام مثلما يخاف من عودة المسيحية إلى لعب دور في الساحة العامة، لأنَّه يخاف أن تكون تلك المسيحية نسخة مكررة عن تديّن وسلطة دينية رفضهما وحارب تأثيرهما السلبي والظلامي على حياته واختبر أن انتصاره على هذا التأثير دفعه للأمام. وكما أنَّ المجتمع الغربي يحمل شكوكاً جدية بأن يكون اهتمام الناس المتجدد بإرثها المسيحي استعادة لإرث مسيحي سلبي ونكوصي، يشك بالقدر نفسه وانطلاقاً من الذهنية نفسها من إرث ديني جديد دخل عليه، مثل الإرث الإسلامي، لخوفه من أن يلعب هذا الإرث الجديد الدور النكوصي والسلبي نفسه. وكما أنَّ الغرب يتخوف من معانــي ودلالات دعوة شيوخ وفقهاء مسلــمين إلى السماح للمواطــنين المسلمين الغربيين بممارسة الشريعة الإسلامية لقوننة حياتهم وبتأســيس مجلس شورى لرعاية شــؤون الأمة الإســلامية في الغرب، يتخوف أيضاً من دعــوة البابا بندكتوس السادس عشر الغرب إلى العودة إلى أصوله المسيحية وإلى التمسك بقيم ومبادئ وتعاليم الكنيسة.
كلا الرهابين من إسلام مستجدّ ومن مسيحية مستعادة وجهان لعملة واحدة هي الدينو-فوبيا والرهاب من عودة التدين إلى مركز القرار في الحياة العامة. الفرق بين الرهــابين هو في الدرجة والظروف وليس في الجوهــر أو الجذر المعرفي. الفرق هو في كيفية تعبــير كل من المسيحيين والمسلمين في الغــرب عن اهتمامهم بالتدين وعن ممارســتهم له، بالإضافة إلى الفرق في درجة معرفة الغرب لإرث كل من الدينين ومحتوى خطابه. فالمســيحية جزء مألوف من التراث التاريخي الغربي منذ قرون عديدة.
أما الإسلام فلطالما نظر له الغرب على أنه «آخر من-خارج» ومعرفته عنه لطالما كانت هامشية أو تخيُّليِّة أو مسبقة الصنع. كما أنَّ العامل الأكثر أهمية على مستوى التفاعل اليومي والمجتمعي مع المسلمين في الغرب هو اكتشاف الغرب أنَّ مفهوم «الإسلام دين وأمة» يعرِّف في أحد أبعاده ماهية الحياة والسلوك والمظــهر والانتماء والهوية، وليس فقط منهجية التفــكير ومنظومة القيم وشبكة المعاني، التي يجــب أن يتحلّى بها المسلم والمسلمة ليكونا «مسلــمين حقاً». أي أنَّ التدين في وجهه الإسلامي أكثر التــصاقاً باليومي والمعاش والممارس في الساحة المجتمعية العامة. وفي مجتمع غربي لطالما ظل فيه التدين في القرنين الماضيين بوجــهه المسيحي المنبوذ حبيس المزاج الفردي والســياق الخاص والهامش الاختياري النظري والفكري، لا شك في أنَّ شكوك الأفراد بالتدين في وجهه الإسلامي ستكون أكثر وضوحاً ومباشرة واستئثاراً بالاهتمام.
إن إدراك المسلمــين في الغــرب والعالم الإسلامي عموماً لطبيعة الموقــف الغربي من الإسلام وبأن الفوبيا التي نلحــظها في العالم الغربي اليوم ما هي إلا «دينو ـ فوبــيا» ورهاب من عودة الدين إلى الساحة العامة، سيساعد بقناعتي على دفع المسلم والمسيحي واليهودي واللاديني والعلماني والملحد وسواهم في المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء للجلوس على طاولة واحدة والتفكير معاً بالمتغيرات الفكرية والمعرفية التي أدركها الإنسان مابعد ـ الحداثوي والتعامل معها كأنها متغيرات تعنينا جميعاً وعلى القدر نفسه من التأثير والنتائج.

نجيب جورج عوض

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...