دولة الحقوق ومجتمع المؤسسات رؤية مقاصدية
مرّت الدولة الإسلامية بأطوار مختلفة منذ تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم دولته الفتية في المدينة، فتنظيمات الجيش وتوزيع الأعمال والمهمات الرسمية والمعاهدات والمكاتبات وتطوير آليات الشورى، إجراءات لم تعهدها الجزيرة العربية بأنظمتها القبلية، فكانت التراتيب النبوية قائمة على اختيار الأصلح من أصحاب القوة والأمانة بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي والعرقي، أو قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش ولم تمض على إسلامه أشهر، وعَهِد عليه الصلاة والسلام الإمرة لبعض أصحابه من غير المقربين، مثل استخلافه ابن أم مكتوم على المدينة ثلاث عشرة مرة في غزواته، وولّى عتّاب بن أُسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف. فمقاصد الحكم في تلك المرحلة كانت قائمة على تحقيق العدل ونشر تعاليم الدين وحماية الدعوة من المهددات الداخلية والخارجية.
وفي دولة الخلافة الراشدة حدثت تطورات تنظيمية في أعمال الدولة، وكان عمر بن الخطاب مؤسس هذه المرحلة من الإصلاحات، بإحداث نظام الدواوين المقتبس من الفرس، وكانت لغة هذه الدواوين مثل ديوان الخراج والجند وغيرها تُكتب بلغة أهل الإقليم من دون تعريب، فأهل العراق يكتبون بالفارسية، وأهل مصر يكتبون بالقبطية واليونانية، وأهل الشام يكتبون بالرومية، ولم تعرّب الدواوين إلا في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك عام 86 هـ. فالاقتباس الحضاري الكامل والجزئي في شؤون الإدارة والحكم، لم يكن أمراً مرفوضاً في عصر كبار الصحابة؛ ما دام يحقق مقاصد الحفظ للمال وضبط المصالح من الضياع والفساد، وهذه المقاصد هي التي جعلت عمر يجتهد في إبقاء الأراضي التي فتحت عنوة بأيدي أصحابها وتصبح أراضي خراجية تنمّي نفقات الدولة التي بدأت في التوسع والانتشار، كما أن هناك مقصداً واضحاً في تلك المرحلة من الحكم الرشيد يقوم على العمران المدني وبناء الأمصار ونشر الدين وتوسيع بلاد المسلمين.
المرحلة الأخرى من التطور في أنظمة الحكم الرشيد، ما أدخله العباسيون من نظام الوزارة في إدارة الدولة ويأتي الإمام الماوردي والقاضي أبو يعلى في (الأحكام السلطانية) والطرطوشي في (سراج الملوك) على رأس من كتبوا في النظام السياسي الإسلامي في تلك المرحلة، فعنوا بنظام الوزارة، وخصصوا لها فصولاً مستقلةً، وقد قَسَّموا الوزارة إلى قسمين: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ؛ فأما وزارة التفويض فهي أن يستوزر الخليفة من يُفَوِّض إليه تدبير الأمور برأيه، ولا شكَّ في أن مثل هذا المنصب دليل على مرونة مؤسسة الحكم والخلافة، التي لم تتخذ موقف الإدارة المركزية في كل شاردة وواردة، وإنما كان هذا المنصب تلبية لحاجة المسلمين، وتيسيراً لشؤونهم وأحوالهم، وأما وزارة التنفيذ فهي أقلُّ شأناً من وزارة التفويض؛ لأن النظر فيها مقصور على رأي الخليفة وتدبيره، ويكون عمل هذا الوزير أن يُؤَدِّيَ عن الخليفة ما أَمَرَ، ويُنَفِّذُ عنه ما ذَكَرَ، ويُمْضِي ما حَكَمَ، ومعظم الوزراء في تلك المرحلة من الحكم على شاكلة هؤلاء، يُعَـيِّنهم الخلفاء؛ لتنفيذ ما يأمرون به في الأمور المالية أو العسكرية أو الاجتماعية. وتبرز أهم مقاصد هذه المرحلة من الحكم في ضبط الدولة ومؤسستها من الضعف بسبب الاتساع من خلال سياسة التخويل والتوكيل للوزراء تحت سلطة الخليفة ورقابته، كما أن الدولة في تلك المرحلة حرصت على هويتها الدينية والسياسية التي تميزها بعد الاحتكاك العسكري مع الروم لقرون، وكذا الاحتكاك الفلسفي مع الفكر الإغريقي الذي ولّد عدداً من الفرق الكلامية كان لبعضها سطوة التفرد بالسلطة كالمعتزلة والشيعة، أو سطوة التمرد على الدولة كالإسماعيلية والقرامطة وغيرهم.
أما المرحلة الأخرى فهي مرحلة دولة العصبية والتغلب التي برزت في شكل كبير في المغرب العربي والأندلس، عندما تحولت الدول الكبرى إلى دويلات صغيرة، تظَهر وتَغلِب ثم تتقهقر وتظهر بعدها دولة أخرى، وفيلسوف هذه المرحلة من الحكم هو ابن خلدون في «مقدمته» لكتابه في التاريخ، ويأتي بعده في تنظير هذه المرحلة من الحكم الفقيه المالكي ابن رشد في كتابه «الضروري في السياسة». ونبقى مع ابن خلدون الذي أبدع في تنظير هذه المرحلة التي لا تزال هي واقع الدولة المعاصرة حتى اليوم، والفروق بينها وبين ما كان في عصر ابن خلدون راجع إلى تنوع العصبيات وتطورها الزماني بحسب التحولات السياسية والتحالفات الكبرى للمعسكرات الغربية أو الشرقية، ويقصد ابن خلدون بالعصبية التي هي محور هذه المرحلة من الحكم؛ أنها الالتحام الذي يكون بين الأقارب أو القبائل والعشائر والذي يدفع للمناصرة والمطالبة بالمُلك والمغالبة في سبيله ويدخل فيه الحلف والولاء، وغير ذلك من صنوف التكتّل والتحالف القبلي شاملاً أي نوع من الولاء المفضي للمغالبة في سبيل تلك الغاية. أما الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه «فكر ابن خلدون. العصبية والدولة» فقد عرّف مقصود ابن خلدون بالعصبية بأنها «رابطة اجتماعية نفسية تربط أفراد جماعة معينة قائمة على القرابة المادية أو المعنوية ربطاً مستمراً يشتد عندما يكون هناك خطر يهددهم»، أو هي «قوة جماعية تمنح القدرة على المواجهة سواءً كانت المواجهة مطالبة أم دفاعاً».
وينطبق هذا الوصف على أكبر من مجرد قبيلة كانت تتحرك برابطة الدم. فقد ينطبق على الحزب السياسي، إذا اجتمعت في أتباعه هذه الصفة، وينطبق على الجيش إذا تحول إلى حزب سياسي. فوجود رابطة تجمع مجموعة من الناس وتدفعهم إلى التكتل والتضامن والإحساس بالخطر المشترك والتحرك في مواجهة الآخرين هو المقصود بالعصبية. وبناءً على أهمية هذه المرحلة من الحكم سأتناولها بالتعليق وفق مقاصد هذه المرحلة وتنزيلاتها على واقعنا المعاصر:
أولاً: برأي ابن خلدون أن العصبية إذا اقترنت بالدين لا يقف أمامها شيء «فالصبغة الدينية تذهب التنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية (العرقية) وتُفرد الوجهة إلى الحق». كما يرى أنه لا بد للعصبية الدينية من عصبية أخرى، أو جهة تدافع عنها وتحمي وجودها وهي الشوكة والقدرة والسلطان التي قصدها ابن تيمية بقوله: «فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً». فوجود المقصد الشرعي القائم على العدل وإثبات الحقوق مع سلطان القوة والجيش، يمنح الشرعية للمتغلب وقد تُنزع عنه تلك الشرعية بفقده لتلك الشروط، مهما بالغت شوكته ما دام قد تنكَّر لشرط الحق والعدل في ديمومة تلك الشرعية.
ثانياً: إن عصبية الدولة قديماً وحديثاً، قد تضمحل وتتلاشى قوتها ومكانتها وهيبتها، بسببين ذكرهما ابن خلدون، أحدهما الخضوع والانقياد للغير لا سيما إذا كان عدواً متربصاً، وفي هذا يقول: «المذلة والانقياد كاسران لثورة العصبية وشدتها، فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا المذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المطالبة والمقاومة». والسبب الآخر هو انغماس أفراد العصبة في النعيم والترف والتماهي في الشهوات، مما يجعل سكرتهم تخفي واجبات الحفاظ على الدولة، وتكسر حدّة الخشونة والصلابة في القائمين على الحكم ومتطلباته الثقيلة، وقد لفت القرآن انتباهنا إلى دور الترف والنعيم في هلاك الأمم. كما في قوله تعالى: «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً».
ثالثاً: إن عمر الدول كما قال ابن خلدون يشبه إلى حدٍ كبير عمر الإنسان، وتطور الدولة ونموها لا يختلف عن نمو الإنسان الطبيعي بدءاً من مرحلة الضعف ثم إلى القوة ثم إلى الضعف والشيبة، والخطر الماحق للدول المعاصرة أن تصل إلى مرحلة الهرم والضعف بسبب بطء الإصلاح، والأنفة من التغيير، والخوف من التجديد، والغَيبة عن التحولات وحاجات العصر، مع التمسك الشديد بمفاصل السلطة ظناً أنه الفعل الصحيح للحفاظ على زمام الدولة وضبطها، كما هي طبائع سنّ الهرم والشيخوخة التي تصيب الإنسان في أواخر عمره. وهذه الحالة قطعاً سائرة في كل الدول والممالك التي تسير وفق نظام الأفراد وحكم الأشخاص الخاضع لطبائعهم ودورة أعمارهم، وليس القائم على نظام المؤسسات الذي يستطيع البقاء والاستمرار، لأنه لا يرتبط بعمر المستولي على الشأن كله؛ بل المستمر وفق تطور المجتمع وحاجات أفراده وكفاءة كل جيل بما يحقق المصلحة لمجتمعه.
رابعاً: العصبية ليست مرتبطة بأنموذج واحد لا يتغير، فقد تحصل الشوكة والقدرة لمن ملك قوة التأثير الواقعي في حشد الجماهير وقدرتهم لمناهضة الباطل أو الظلم الواقع عليهم، فإذا كان قديماً يحصل بمن يقدر على امتلاك السلاح والعسكر، فإن العصر الحديث اثبت أن صوت الشارع وقوة تنظيمه أقدر على إحداث التغيير بسرعة هائلة لا تحسمها المعارك والحروب، وأضحت وسائل التواصل الإلكتروني وأجهزة الاتصال الحديثة أقوى سلاح في التغيير أو التثبيت لأي نظام سلطوي.
خامساً: إن ما حصل في الآونة الأخيرة في بعض الأقطار العربية من سقوط لأنظمتها العتيقة، هو سقوط أيضاً لكثير من الأفكار والمفاهيم التي خيمت على الناس لعهود طويلة، تجرعت فيها المجتمعات بسببها ألواناً من القهر والذلة واستعلاء الباطل وهدر الحقوق، تحت ذريعة الخوف من الفتنة التي اُختُزِلت في الحفاظ على كيان الباطل ومصلحة الظالم من دون اعتبار لفتنة الاضطهاد الديني والتهميشي الحقوقي للإنسان، مع تناسٍ واضح لمقاصد الشرع من الاحتساب على الظالم والأخذ على يديه رحمة بالخلق ونصرة للحق، والتغيير اليوم إذا لم يحمل مفاسد وأضراراً ولم يُسبب هتكاً لضرورات الشرع مع رؤية واضحة للإصلاح المنشود؛ كان تغييراً رشيداً جارياً على مقاصد الدين وسياسة الدنيا به، وبوصلة النظر في تحقيق هذه المصالح والبُعد عن المفاسد الواقعة أو المتوقعة ليس لآحاد البشر وأصحاب الأهواء والمتعجلين من أهل الطيش والغرور؛ بل هو مقام شديد ومنزل عظيم لا يتصدر له إلا من زكت نفسه ونَضُجَ عقله وكَمُلَ علمه، وتكاثر مؤيدوه وقلّ معارضوه، وحينها ستظهر معالم الحق وشواهد الصدق على هذا المنحى من التغيير، ولن تكون العاقبة إلا للمتقين، ولن يصلح الله عمل المفسدين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
مسفر بن علي القحطاني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد