انتقادات تركية بالجملة لسياسة أنقرة السورية
بالكاد تجد من بين الأتراك الذين التقيناهم خلال مؤتمر»منتدى اسطنبول» الذي عقد على مدى يومين من يدافع عن سياسة تركيا تجاه سوريا، أو حتى الإقليمية. القلة التي دافعت مرتبطة عضويا بمؤسسات حزب العدالة والتنمية.
الامتعاض كان اكبر مما توقعناه والسؤال الذي يرتفع على ألسنة الجميع هو لماذا كانت تركيا تجاه سوريا ملكية أكثر من الملك؟ ولماذا ترتفع حدة تصريحات مسؤوليها، ومؤخرا ما خاطب به رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان نواب حزبه، مع كل يوم يمر؟ وعندما تنظر إلى المشهد على الأرض تجد أن تركيا تفقد أوراقها وتأثيرها لا لشيء، إلا لأنها ارتضت القيام بدور غير مفهوم وغير مبرر، ويتعارض بالكامل مع كل الشعارات التي طرحتها في سياسات تصفير المشكلات التي تحولت، بتعبير رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة حسين باغجي إلى «صِرف مشكلات»، أي إلى مشكلات في كل مكان. تواجه تركيا المشكلات تحف بها أسئلة تبدأ ولا تنتهي ومع ذلك ليس من يصغي في الدوائر الحاكمة للانتقادات والتحذيرات التي يوجهها «الأقربون» قبل»الأبعدين».
هناك ما يشبه الإجماع في الداخل التركي على أن مشكلة أنقرة الأساسية اليوم أنها تقوم بأدوار أكبر من قدرتها على القيام بها، من دون أن تقوم بحسابات لكل مرحلة. وتكاد ترى أن ما تؤشر إليه يأخذ مكانه للتنفيذ، في حين أنها تفقد تدريجيا أوراقا تنتقل إلى منافسيها.
محور الديموقراطية الذي أعلن عنه وزير الخارجية أحمد داود اوغلو مع مصر يكاد يعني انتقال زمام المبادرة من أنقرة إلى القاهرة، سواء في ملف المصالحة الفلسطينية أو صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل. واليوم في المبادرة التي تقوم بها جامعة الدول العربية، ومقرها القاهرة، والحوار المفترض بين النظام في سوريا والمعارضة والذي سيكون على الأرجح في القاهرة، فأين تركيا من كل هذا المشهد؟ أليست غائبة وتستدرك نفسها بالجلوس كشاهد فقط بعدما كانت الرائدة في المبادرة؟ ألم تكن قادرة هي دون غيرها في وقت مبكر من اندلاع الاحتجاجات في سوريا على أن تطرح مبادرة واقعية بحكم علاقاتها الجيدة مع الرئيس بشار الأسد والمعارضة في الوقت نفسه؟ أم أنها عادت تعيش في الماضي، وفي أحداث حماه وفي أن بشار هو ابن أبيه؟
وهل ينجح مثل هذا الخطاب «السلفي» بالمعنى السياسي، وغير السياسي، في تحقيق أهداف تركيا التي تطلع على الآخرين بأنه نموذج الدولة السائرة إلى الحداثة والتنمية؟ أم أنها استدرجت إلى ملعب الآخرين فتحولت إلى لاعب يتحرك كما يوجهه مدرب الفريق أو كابتن الفريق الذي هو غالبا الولايات المتحدة؟ هل أخطأت تركيا في الحسابات والرهانات أم أنها وقعت في فخ، وبدلا من أن تضاعف قوتها الإقليمية إذ بها تبدو منعزلة في سياساتها السورية تحديدا، بحيث أن قطر، تلك الإمارة الصغيرة، كانت قادرة على فعل ما لم تستطع تركيا القيام به؟.
وزير الخارجية التركي السابق والأول في عهد حزب العدالة والتنمية في نهاية العام 2002 ومطلع العام 2003 ياشار ياقيش يؤكد أن تركيا لم تفهم جيدا تعقيدات الوضع السوري الداخلي والإقليمي، فذهبت بعيدا في مواقفها بحيث لم تحفظ خط الرجعة. أخطأت في الفهم وفي أسلوب التعامل وفي إملاءات سياسات المهل، وأيضا في أنها أرادت مصادرة أدوار القوى والدول الأخرى مثل مصر والسعودية وسوريا، بحيث تبقى اللاعب الوحيد في الميدان فكان أن خرجت منه بخفي حنين.
وفي العودة إلى كلام الباحث حسين باغجي فإنه يرى أن المشكلة هي في عدم إدراك الفرق بين التنظير والممارسة، حيث أن «الأكاديمي» في شخصية وزير الخارجية أحمد داود اوغلو كانت تتيح له مروحة كبيرة من الافتراضات والتهويمات والسيناريوهات ولا أحد يحاسب. وعندما تحوّل إلى السياسة كانت الأمور مختلفة، وكان لابد أن يواجه الواقع بكل تناقضاته وصراعاته.
ويعطي باغجي، الباحث المرموق، تفسيرا خطيرا للمواقف التركية الأخيرة بالقول إنها ليست ناتجة عن أخطاء بل لأن تركيا غيّرت موقعها فتغير موقفها. إذ مع ضعف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بسبب الأزمة المالية وغيرها، كان خيارهما توكيل تركيا بما لا يقدران هما عليه، وهو ما قبلته أنقرة فصارت جزءا من السياسات الغربية في المنطقة. وبالطبع تركيا فعلت ذلك لحسابات تعتقد أنها تفيدها أكثر. فيقول إن القبول التركي كان مرتبطا بهدفين الأول تخفيف الانتقادات الأوروبية لتركيا وهو ما يساهم في تعزيز فرص انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، والثاني هو كسب واشنطن في معركة تركيا ضد حزب العمال الكردستاني، ولا يرتبط هذا التحول بالربيع العربي.
ويقول باغجي إن الغرب يستخدم تركيا أداة في سياساته في الاتجاه الذي يريده. ويشبّه تركيا بطابة التنس حيث اللاعب الأميركي يمسك بالمضرب و«يطجطج» الطابة على المضرب في تصعيد تدريجي إلى أعلى، ومن ثم يقذف بقوة بالطابة إلى الهدف الذي يريده. وسوريا كانت أحد الأهداف الأساسية في إطار استخدام الغرب للطابة التركية.
ولا تبتعد الكاتبة المشاكسة نوراي ميرت عن نظرة باغيش إلى الأمور، فتقول إن حزب العدالة والتنمية لا يريد أن يفرط بإنجازه الأكبر أمام المواطن التركي، وهو النمو الاقتصادي، الذي في أساسه العلاقات الاقتصادية مع أوروبا والغرب، لذلك فهو ينسجم في سياساته مع الغرب وأوروبا، وقد ترجم ذلك في سياسات متماهية بالكامل مع الغرب في ليبيا وسوريا. ولكن نوراي تحذر من تصاعد نبرة الخطاب القومي المحافظ المتشدد لحزب العدالة والتنمية، ما يتعارض مع سياسات تصفير المشكلات وإقامة علاقات حسنة مع الجوار.
وتقول نوراي إن واشنطن تريد صداما تركيا مع سوريا وإيران، وهي تضغط على أنقرة لإثارة ردود فعل إيرانية مثل نشر الدرع الصاروخي. وترى الباحثة أن الإيرانيين كانوا أعقل من الأتراك عندما رفضوا أن يتورطوا في دعم حزب العمال الكردستاني لأنهم لا يريدون تخريب العلاقات مع تركيا وفق ما يريده الأميركيون.
وترى الباحثة أن تصعيد «الكردستاني» لعملياته جاء لاستغلال التوترات الإقليمية لتحصيل مكاسب للأكراد في الداخل التركي، وليس بالضرورة جراء تحريض خارجي، خصوصا أن مخاطر مثل هذا الدعم على الدول المحيطة بتركيا ولا سيما سوريا كبيرة.
ولا تجد ميرت أية واقعية في الرهان على الورقة العلوية لإضعاف تركيا من الداخل، لأن الهم العلوي التركي الأساسي ليس سوريا أو غيرها بل كيفية الحفاظ على النظام العلماني الذي هو ضمانتهم. وتورد الباحثة رقما لافتا، وهو أن غالبية الجعفريين (الاسم الذي يطلق في تركيا على الشيعة الاثني عشرية) لم يصوّتوا لحزب العدالة والتنمية، رغم أن رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان قد شارك للمرة الأولى السنة الماضية في مراسم العاشر من محرّم في اسطنبول. بل صوّتوا لحزب الشعب الجمهوري العلماني وحزب الحركة القومية المتشدد.
ويرى الكاتب المعروف محمد علي بيراند انه تبين لتركيا بعد أسابيع على بدء الأحداث في سوريا أن الأسد كان جوزة قاسية وصلبة أكثر مما كانت تعتقد تركيا. ويقول إن سياسات التخويف التركية من الوضع في سوريا والصدام المذهبي وموجات الهجرة لم يكن لها أساس ولا يمكن فهمها. وأشار إلى أن سوريا ليست لقمة سائغة سهلة على البلع. ويقول إن أنقرة إما أنها قد أخطأت في سياستها السورية أو أنها لم تعد قادرة على القيام بخطوة تراجعية فوجدت نفسها في المأزق.
وينفي بولنت أراس، مدير مركز الدراسات الإستراتيجية (سام) التابع لوزارة الخارجية والذي يدور في فلك حزب العدالة والتنمية، أن يكون في نيّة تركيا القيام بأي عمل عسكري ضد سوريا بمفردها. ويقول إن ذلك مرتبط بصدور قرار إما عن الأمم المتحدة أو عن حلف شمال الأطلسي وهو ما لا يُرى في المستقبل المنظور. وقال إن الحديث عن تدريب تركيا لمجموعات من الجيش السوري وتسهيل الحماية لهم لا أساس له وما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» بهذا الصدد يدخل في باب «خبريّات» سائقي الشاحنات العابرة للحدود!.
اوزديم صانبيرك، العضو التركي في لجنة «بالمر» التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة للتحقيق في العدوان على «أسطول الحرية» كشف بعض التفاصيل والملابسات المتعلقة بالتقرير، وهو أن إسرائيل هي التي سربت التقرير إلى «نيويورك تايمز» وهو لم يوقع من تركيا لأنه لم يكن في الأصل نهائيا، بل مجرد مسودة كانت تخضع للتعديل والإضافة وما إلى ذلك.
ورغم أن التقرير لم يطلب من إسرائيل الاعتذار من تركيا ويعتبر الحصار على غزة مشروعا يقلل صانبيرك من أهمية ذلك لأنه غير موقّع، كما انه لا قوة قانونية دولية له، إذ انه تقرير «لجنة خاصة» شكلها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ولم يدرج التقرير في وثائق الأمم المتحدة أي كأنه غير موجود. ويقول انه ليس التقرير النهائي فهناك أكثر من صيغة كانت تبحث.
ومع ذلك يرى صانبيرك أن التقرير حتى في الصيغة التي سربت إلى «نيويورك تايمز» يضمن إدانة لسلوك الجنود الإسرائيليين وطريقة استخدامهم المفرط للقوة، لكن تركيا لم تستفد من هذه التفصيلات لرفع دعاوى والتشهير بإسرائيل.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد