حسابات العقل والجنون مع نووي كوريا الشمالية
تذكِّر فرحة المذيعة الكورية الشمالية الهستيرية صراخا وإيماءات وهي تزف للشعب بشرى إجراء تجربة تفجير نووية ناجحة بالبكاء الهستيري الذي رافق تشييع كيم ال سونغ، والذي لم ندر هل كان تمثيلا أم استغلالا للمناسبة للبكاء والتنفيس رثاء للذات أو تقمصاً للتمثيل إلى درجة الهستيريا، أو حساب الأمر ما دام المرء مضطراً أن يمثل كل حياته البالغة من دون مخرج أو أمل في الأفق فمن الأفضل أن يصدق الدور... إلى آخر هذه الحسابات في حضيض النفس البشرية اللانهائية الإمكانيات.
على كل حال، لم يكن في الإعلان ولا حتى داع لاحتفالية كبرياء عالم ثالثي في وجه الغرب، ولا حتى من النوع البائس الذي دفع البعض للاحتفاء بملكية باكستان للقنبلة النووية. شيء ما غريب وغير مألوف في البؤس المرعب الذي تبثه كوريا الشمالية الى العالم، بما فيه حتى الفقراء المتعطشين لإنجاز ما أمام أميركا، ولكن التعطش للإنجاز لا يمحو النفور من كوريا الشمالية.
فقط جنون مثل جنون بوش الذي يرسل برسائل «أنا مجنون، احذروا مني!» لينقلها الأوروبيون إلى احمدي نجاد، فقط جنون كهذا يمكن صاحبه من وضع أنظمة مثل كوريا الشمالية في سلة واحدة مع العراق وإيران وتسميتها جميعا محور الشر... ولا علاقة بين هذه الأنظمة، ولا مقارنة. لا في مستوى القمع ولا في التنوع الاقتصادي والاجتماعي الموروث والذي سمح النظام ببقائه... إنه الفرق بين الدولة السلطانية والدولة الشمولية، بين وجود سجون وتحويل البلاد إلى سجن، بين دولة دينية ودولة تحول انعدام الدين إلى دين بطقوس... فقط بوش وهوليوود يضعون الإسلام و «القاعدة» و «حماس» و «حزب الله» في سلة واحدة، كما توضع إيران وكوريا وعراق صدام حسين في محور شر واحد. (في حينه لم تذكر سورية في هذا المحور).
الـ «يوشي» هي «فلسفة» الاكتفاء والاعتماد على الذات من إنتاج وإخراج كيم إل سونغ الذي نصب نفسه فيلسوفا وزعيما ملهما وأبا للأمة والها. وقد ساقها نجله الغريب الشكل، والأطوار كيم يونغ إيل، إلى نتيجتها القصوى منذ أن كان رئيسا لدائرة الدعاية والتثقيف في الحزب الشيوعي الحاكم. وهي الغطاء الإيديولوجي لحالة الفقر والإفقار، وكارثة ومهزلة تحويل بلد كبير وشعب عظيم يقطنه، بعد فصله عن شعبه وأمته وحتى أقربائه، بحدود لا ينفذ منها فأر إلى معسكر اعتقال أو إلى قنٍ موصول بالكهرباء لتبيض دجاجاته المستنزفة على وقع مارش رسمي، بالزي الرسمي الموحد وتصاريح للانتقال من مدينة إلى أخرى وخطف أطفال لأغراض مختلفة من التدريب العسكري وحتى التدريب للمنجزات الرياضية، وتحديد نسل بالقوة وتأجير مواطنين للعمل عبيدا بدل النقود إلى دول دائنة مثل روسيا وعمل بالسخرة في البلد ذاته وجوع قتل 10 في المئة من السكان، حوالي 2 ونصف مليون، في أربع سنوات. لقد انجزت كوريا المكانة الثالثة في التاريخ الحديث من حيث عدد ضحايا الجوع ليس بسبب قحط أو محل أو جراد أو كوارث طبيعية، بل بسبب تجارب في التخطيط الاقتصادي تجري على الفلاحين وعلى الزراعة بعد روسيا ستالين وصين ماو. نعرف عنه القليل، ولكن ما نعرف يكفي لتصنيفه ووضعه في مكان ما في الوسط بين كمبوديا بول بوت وروسيا ستالين في اسوأ أيامهما.
ليس رئيس كوريا الشمالية الحالي رئيسا بالمعنى المتعارف عليه، وهو لا يحمل اللقب أصلا، فلقبه هو القائد العزيز، بل يعامل في الواقع كإله أو نصف إله. ووصل الأمر بجنون الدعاية الرسمية المكرسة لعبادته إلى درجة تزوير تاريخ ومكان ولادته من سيبيريا، منفى والده كيم ال سونغ عام 1941 ايام الاحتلال الياباني، إلى قمة أعلى جبل في كوريا الشمالية عام 1942. وتقول الرواية الرسمية انه في يوم ولادته ظهر نجم جديد لم يكن معروفا حتى تلك اللحظة السعيدة، وأن قوس قزح مزدوج مضاعف الألوان ظهر في السماء. وفقط ملوك المجوس لم يأتوا للزيارة!
وقد بذلت جهداً لأدخل موقعاً رسمياً كورياً شمالياً الكترونياً فوجدت التعريف التالي لجبل بكتو وهو الجبل الذي تدعي الرواية الرسمية أن كيم يونغ إل ولد على أعلى قممه مثل إله، فالجبل مقدس أصلا عند الكوريين ويرمز للشباب الدائم والجبروت والخلود. ولكن في التعريف الرسمي بالجبل تجد ما يلي: «أعلى قمة في كوريا، قمته تغطيها الثلوج طيلة العام ويعتبر أكثر الجبال قداسة لدى الأمة الكورية بسبب ارتباطه بالنشاط الثوري للرئيس كيم ال سونغ، ولأنه تشرف (لاحظ! الجبل تشرف!) بولادة القائد كيم يونغ إل على قمته». الجبل تشرف بكذبة ولادته على قمته. وفقط الرئيس الخالد الراحل يلقب بالرئيس، وقد أخذ اللقب معه إلى القبر مثل فرعون، وهو حكر عليه، أما نجله، الديكتاتور الحالي، فيلقب بالقائد العزيز.
تطبيق حرفي مشوه للماركسية اللينينية كما استوردت مشوهة من الصين وروسيا على استبداد آسيوي، وعسكرتارية تحول الشعب الى كتائب عمل وخدمة عسكرية في احد اكبر الجيوش في العالم وأفقرها، وتحول المساواة إلى مشابهة في روتين وإيقاع حياة مفروض من فوق ومعروف سلفا يكاد يفقد الناس معنى الحياة، وزي رسمي يشمل صورة الزعيم على الصدر، وتعميم المركزية الديموقراطية لتشمل الشعب كله. حالة توتاليتارية جنونية، وبدلا من العلمانية التي تفسح كل المجال الخاص للتدين على تنوعه، حالة إلحادية متطرفة تستبدل الدين بعبادة الزعيم، والطقوس بطقوس الحزب ورموزه والوطنية بالولاء للزعيم. والديانات السياسية الدنيوية كما هو معروف بديانات سريعة الزوال تترك خلفها مجتمعات في حالة خواء داخلي، وفي حالة أزمة مرجعيات أخلاقية بعد هدم النظام لبنى تقليدية مثل العائلة، فتتحول من كبرياء الديانات الدنيوية وغرور المفاخرة بقوة الدولة العظمى إلى تصدير الزنى كما حصل لروسيا كسلعة أساسية ومصدر دخل.
تتراوح التقارير والتشخيصات الواردة حول الزعيم بين وصفه بالانحراف والجنون والمجون والانحراف الجنسي وحب المتع الحياتية في قصور مقفلة عن شعبه الجائع وغير معروفة إلا لمن يحيط به من حرس وزانيات وغانيات وممرضات، (وتصل التقارير من حراس فارين، ولأنها تصل عبر مخابرات كوريا الجنوبية فإننا نميل الى اختصار الكثير منها)... الى اعتباره اسير نظام ورثه ولا يستطيع أن يغيره لأنه سينهار ويذهب الوريث معه. وحالة البلد يضاف إليها التشخيص الثاني كافية بالتأكيد. ولكن مفاجأة بعض الرؤساء الذين التقوه بما في ذلك تقديمه لبعض الزعماء من قبل رئيس كوريا الجنوبية كرجل يستطيع إجراء محادثة منطقية لا يدل على هزال الحالة وضمورها وخوائها فحسب، بل يشير أيضا ًإلى هزال الديبلوماسية التي تكتفي بوجود زعيم يمكن الحديث معه بغض النظر عن كيفية تعامله مع شعبه ومع الملايين الذين يجبرون على اعتباره إلها. يفرح رئيس أو وزير خارجية في الخارج أن بالامكان اجراء حديث منطقي معه، وأنه يفقه أنواع النبيذ ويحب الكونياك، مما يجعله إنسانيا آدميا في الصالونات الديبلوماسية، أي أنه ليس مجنوناً بالكامل... فكم بالحري اذا قال بعض الأفكار عن فيلم أو فيلمين، وهو يعتبر من هواة جمعها، او عن الموسيقى الكلاسيكية... سيكفي هذا ليعبر ديبلوماسي عن دهشته أنه ليس سيئا الى الدرجة التي تخيلناها، وانه لطيف ومثقف وغيره... فننتقل من صورة المجنون المنحرف إلى المفاجأة الإيجابية. تخيل ان يكون حب الكونياك الفرنسي صفة بارزة أو ملفتة في رئيس على أمة من 22 مليوناً لا تعرف أية بضاعة مستوردة أصلاً... وان يكون حبه للموسيقى ملفتا في حين يروى لشعبه أنه ألف ستة اعمال أوبرا في عامين.
كل ديكتاتورية، كل سلطنة، كل نظام شمولي استخدم آلية سلطة وسيطرة ورقابة تميز بها، إضافة الى وسائل منتشرة أخرى ليس لأحد امتياز اختراع عليها. ولكن مصدر كاركاتيرية النظام في كوريا الشمالية ومأساة شعبه في الوقت ذاته، يكمن في أنه استخدم كل الآليات سوية على بلد صغير بفراغ داخلي رهيب وآلة دعاية تقفل البلاد تماما وتصورها لشعبها المنعزل عن إخوة وأقارب في الجنوب كرمز للتقدم، وجوع حقيقي يستنجد بوكالات الأمم المتحدة، و200 ألف معتقل سياسي حسب تقديرات منظمات حقوق الإنسان، ومعدل دخل الفرد اقل من الضفة الغربية تحت الاحتلال، وحالة ابتزاز للعالم والمحيط بقوة السلاح بما فيه السلاح النووي والكيماوي، وان على العالم ان يقبل كوريا كما هي، وان يمدها المال والغذاء من دون تمنين لأن التمنين والفضيحة يمسان بفلسفة الاعتماد الذاتي، وان يكون مصدر الدخل الرئيسي لعملة ما زالت صعبة هو بيع السلاح. البلد سجن كبير لشعبه. لقد قتل ودمر نفوس أو أجساد أكثر من 22 مليون إنسان، وهذا اكبر من الضرر الذي يمكن ان تحدثه قنابله النووية التي تخيف العالم الآن. كان خطره الأساسي وما زال على شعبه.
بين حساب جنون كيم يونغ إل وحسابات أخرى متعلقة بما يمكن أن يعتبر تخطيطاً استراتيجياً حكيماً من كوريا الجنوبية لتفكيك النظام بفتحه للخارج وبالانفتاح عليه، ولأنها قد تكون أول المتضررين من حرب تنفلت فيها كوريا الشمالية، تتعامل كوريا الجنوبية مع جارتها بقفازات من حرير، وتدعو الغرب للتعامل معها على هذا الأساس ويبدو الأمر كأنه مسايرة لمجنون كي لا يفلت.
وكوريا الشمالية تتعامل علناً مع السلاح النووي للابتزاز ليس فقط لتكريس وضع قائم ولمنع التدخل في شؤونها الداخلية، بل لإجبار الدول الغنية المحيطة على المساهمة في هذا الاستقرار عبر تقديم المساعدات.
هنا تدخل تساؤلات وجودية غير متعلقة بكوريا وحدها بل بمعنى السياسة عموما وتعامل الدول أحيانا كأنها أفراد مستقلون على الساحة العالمية بغض النظر عن حياة الأفراد الحقيقيين الذين يعيشون فيها ويتعرضون للدعاية وغسل الدماغ والسجن والتنافس السياسي والانشغال بالجوع الحقيقي من جهة أو بالجوع للحاجات الاستهلاكية من جهة أخرى مع الفرق بينهما، وغيرها من وسائل إلغاء إنسانية الإنسان. ولكنني لن أتوقف عندها فهي مرعبة، بل عند تساؤل من نوع آخر متعلق بالسلامة العقلية عند الدولة التي تملك السلاح النووي.
هنالك أمر محير يتم تجاهله دائما، حتى بات مثل الشبح يتجول بيننا ويتظاهر الجميع انه غير موجود. لقد استخدم السلاح النووي مرة واحدة في التاريخ. ولم تكن هنالك حاجة دفاعية ولا حتى حالة يأس أو جزع تبرر استخدامه. ولم تستخدمه دولة مارقة، ولم يأمر بإلقائه زعيم مجنون. لقد قامت باستخدامه دولة ديموقراطية، الدولة الديموقراطية بال التعريف بنظر البعض. استخدمته وهي في حالة هجوم، بل على حافة انتصار، وعلى رأسها رمز الرؤساء العاقلين الأميركيين الذي لم يبزه احد شعبية حتى اليوم.
ولقد استخدمته أميركا ضد مدينتين يابانيتين آمنتين في نهاية حرب نتيجتها باتت معروفة لصالح أميركا. ولكنها أرادت إما أن تنتقم لـ «بيرل هاربر» أو أن تعجل بالنصر أو أن تبعث برسالة الى المعسكر المنتصر الآخر ألا وهو السوفيات. والنتائج جنونية كما هو معروف. الجنون يكمن هنا في العقل ذاته. فكل الأسباب التي دعت لاستخدام السلاح النووي، ما عدا مرارة الثأر والانتقام، محسوبة بالعقل. وهو استخدام للعقل يقصره على أداة حساب، للربح والخسارة مثلا، وليس كأداة فهم وتذهن شاملة للدنيا، أي ليس كعقلانية.
ما يغيب عن مخيلتنا المرسومة إلى حد بعيد مثل حاجاتنا الاستهلاكية بآثار غسل دماغ أميركي هوليوودي وإعلامي أن القنبلة النووية استخدمت ضد المدنيين وان الذي سبب هذه الكارثة الجنونية هو دولة ديموقراطية عقلانية، وأنه لم تكن هنالك حاجة لاستخدامها، وباختصار كان في استخدامها المحسوب نوع من الجنون.
ولم تستخدم القنبلة النووية منذ ذلك الوقت ليس بسبب سيادة العقل في التاريخ الحديث، ولا بسبب الديموقراطية، ولا لأن الديموقراطيات أكثر عقلانية في ولوج الحروب خلافا للديكتاتوريات كما يشاع خرافة، بل لأن احتكار امتلاكها قد كسر، وبسبب توازن الرعب الذي نشأ عن كسر الاحتكار. لقد استخدمت القنبلة النووية عندما كانت دولة واحدة تملكها. وعندما حصل توازن لم تستخدم. والخطر في امتلاك دولة واحدة لها أكبر من أن تمتلكها دولتان متخاصمتان. هذا ما نعرفه من الصيرورة التاريخية حتى الآن. واعتقد أن هذا المعادلة تسري على المنطقة العربية، فملكية إسرائيل وحدها للسلاح النووي تجعله أخطر من حصول توازن. وطبعا الأفضل ألا يمتلكه أحد، إذ يكمن العقل في نزع السلاح النووي.
عزمي بشارة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد