الفلم المسيء للرّسول والرّد المناسب
أثار الفلم الذي أنجزه شخص مغمور بالولايات المتّحدة الأمريكيّة ضجّة عارمة وردود فعل عنيفة ومتشنّجة في مجموعة من الأقطار العربيّة والإسلاميّة، بلغت ذروتها باغتيال السّفير الأمريكي بليبيا هو وثلاثة موظفين آخرين كانوا معه وقت الهجوم على السفارة. وبمجرّد رؤية مقاطع من هذا العمل موضوع الضجّة، ندرك أنّه يفتقد لمقوّمات الإبداع السينمائي بكلّ مكوناته المتعارف عليها، فهو مجرّد لقطات متتالية رديئة تمثيلا وتصويرا وإخراجا. والانطباع الذي تتركه لدى مشاهدتها هو كونها مجرّد دعاية عنصرية رخيصة ومبتذلة، قصد الإساءة فيها واضح ومتعمّد، وغاية الاستفزاز جليّة دون مواربة، وهوما يجعل نعت هذا العمل بالفلم فيه كثير من التّجاوز والتجنّي في حقّ الإبداع السينمائي الحقيقي وفي حقّ المبدعين السينمائيين العظام.
كان من الممكن أن لا يكون ردّ الفعل إزاءه بهذا الحجم وهذا العنف والهيجان، إذ هو لا يستحق إلّا التّجاهل والسخريّة والازدراء لتفويت الفرصة على الواقفين وراءه من تحقيق أغراضهم المتوخّاة من وراء عملهم الرّديء هذا.
ونعتقد أن أحسن ردّ على هذا العمل هو مقاضاة أصحابه من طرف المؤسّسات الدينيّة والمنظّمات الحقوقيّة بتهمة التّحريض على الكراهيّة والعنصريّة، باعتبارهما منافيتان للمواثيق الدّوليّة لحقوق الإنسان ومجرمة في القوانين الجنائيّة لمعظم الدّول الغربيّة. غير أنّ أطرافا أصوليّة متطرّفة كان لها اختيار آخر، هو استغلال هذا الحدث للقيام بردود فعل غير محسوبة العواقب، وكانت النّتيجة أنّ العالم بدل أن يلتفت إلى الإساءة المقصودة من " الفيلم" جعله ردّ الفعل الأهوج للمتطرفين لا يرى إلا صورة السّفير الأمريكي الملطّخ بالدّماء وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهي صورة مؤثرّة حقّا لشخص بريء لا ذنب له سوى أن مواطنا ببلاده أخرج مثل هذا الفيلم الرديء.
لقد حسب هؤلاء المتطرّفون بهجومهم على السّفارة أنّهم يدافعون عن الرّسول وعن الإسلام، وهم في الواقع لا يزيدون الأمر إلا تشويها وإساءة، لأنفسهم وللإسلام وعموم المسلمين. ولعلّهم سعوا من وراء فعلهم إلى استنبات النموذج الأفغاني في الأراضي الليبيّة بما يحقّق شهوتهم في قتال مستمر يمكنهم من استحضار فريضة الجهاد بما هي الفريضة الإسلاميّة الأولى في نظرهم المؤدّية إلى الاستشهاد وضمان جنات النّعيم. ولذلك فتعميم الأفغنة على جميع الرّقعة العربيّة والإسلاميّة هو غايتهم ومبتغاهم. والحقّ أنّ الدّفاع عن الإسلام لا يكون بالقتل والتّدمير، وإنّما ببناء صورة إيجابيّة ومحترمة عن الإنسان المسلم من خلال سلوكه وتواصله مع الآخر، ومن خلال النّماذج المشرقة للحضارة العربية الإسلاميّة عبر فتراتها ومراحلها المختلفة، وفي ضوء منجزاتها الفكريّة والفنيّة والمعماريّة التي لا تزال الكثير من المآثر شاهدة عليها.
الدّفاع عن الإسلام يتحقّق من خلال سعينا الحثيث إلى اللحاق بركب الحضارة المعاصرة وتجاوز تأخّرنا التّاريخي والانخراط في منظومة الحداثة والتقدّم. الدّفاع عن الإسلام يكون بترجمة التّعريف الذي نعطيه له باعتباره دينا للرّحمة، من خلال تقدير الفرد الإنساني باعتباره قيمة في حدّ ذاته، بحيث مع هذا التقدير لن بكون مألوفا لدينا رؤية طوابير من المتسوّلين والمعدمين، كما هو الحال في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة دون أن يكون لنا كمسلين من ردّ فعل سوى التصدق عليهم، ممّا يجعلنا في الواقع نطبع مع واقع إقصائهم وتهميشهم بل ونرسّخه من خلال ما يسمى الإحسان إليهم بفعل الصّدقة، ذلك أنّ الرّحمة الحقيقيّة تقتضي أن نسعى إلى ترسيخ نمط اقتصادي اجتماعي يتمتّع جميع أفراده بالحدّ الأدنى من العيش الكريم الذي يحفظ للفرد كرامته واعتباره، مجتمع لا يكون فيه محسنون، لأنّه لن يكون فيه معدمون ينتظرون من أحد أن يعطف عليهم ويحتقرهم بدرهم أو درهمين. عندما نصون كرامة الإنسان في مجتمعاتنا، إذاك ندافع بحقّ عن الإسلام وعن الرّسول، ونرسخ صورة عنهما كمرجع أسمى للقيم الكونيّة المعاصرة المتمركزة حول سعادة الفرد الإنساني ورفاهيّته وازدهاره.
عندما نرتقي بالإسلام من مجرّد شكليّات ومظاهر إلى عمق إنساني قوامه أخلاقيات الحقّ والواجب، وتقدير العمل والإنتاج والإبداع، لن نحتاج حينئذ إلى أن ندافع عن أنفسنا، لأنّ القيم الكونيّة التي نؤمن بها ونرسّخها في واقعنا، هي التي تتكفّل بالدّفاع عنا تلقائيا، لأنّنا سنرتقي إلى مستوى النّموذج الجاذب والمبهر لكلّ المجموعات البشريّة التي تتقاسم معنا كوكب الأرض. الدّفاع عن الإسلام والرّسول يقتضي منّا التوفّر على مشروع للنّهضة والتقدّم، والقدرة على تحقيق هذا المشروع في أمد زمني معقول، وإلا لن يكون في وسعنا دحض كلّ من يقرن الإسلام بالتخلّف، لأنّ المجموعات البشريّة الأخرى لا تلتفت إلى واقعنا في الماضي بل إلى واقعنا في الحاضر، فهو المعيار والمقياس الذي تقيس به ما ندعيه عن أنفسنا وعن تاريخنا.
الدّفاع عن الإسلام والرّسول يكون بسعينا الحثيث إلى امتلاك ناصية العلم والتّكنولوجيا والإبداع فيهما حتّى نترجم فعليّا مقولة الإسلام دين العلم" والحديث الرائج القائل اطلبوا العلم ولو في الصين، وحتّى يكون لنا نحن أيضا إنتاج في هذا المجال، وبراءات للاختراع لمجموعة من العلامات التجاريّة التي تفصح عن مكانة الأمم المبدعة لها.
الدّفاع عن الإسلام والرّسول، يكون بما سنضيفه نحن أيضا في مجال الطبّ والهندسة الوراثية ومكافحة الأمراض المزمنة والقاتلة، لنحفف عن الإنسانية آلامها ومعاناتها. بهذا كله يكون دفاعنا عن الإسلام والرسول، ليس بالعنف والدّعوة إلى القمع.
وفي هذا الصدّد، ليس من الصواب أن يطالب بعضنا سنّ تشريعات تحرم الإساءة إلى الأديان، لأنّ ذلك من شأنه أن يضيق مجال حرية الرأي والتعبير، خصوصا في مناخ تهيمن فيه الأصولية، التي ستستغل الفرصة لتصفي حسابها مع خصومها السياسيين، والمفكريين الذين لا يشاطرونها المرتكزات التي تنطلق منها في التعاطي مع الواقع في بعده السياسي والاجتماعي.
كما أن تشريعا مماثلا قد يمس حريّة البحث العلمي في الميدان الديني، فإذا كانت الحقيقة المتعلقة بكلّ دين قد اكتملت في منظور المؤمنين به، فإن حقيقته بالنسبة إلى البحث العلمي التاريخي لا زالت مفتوحة على اكتشاف مزيد من الحقائق حوله، خاصة في ظل تطور علم الآثار والبحث الأركيولوجي والمساهمات النوعيّة الممكنة للأنتروبولوجيا وعلم الأديان المقارن في هذا الميدان، وكل دلك قد يؤدي إلى اكتشافات جديدة، بل وربما إلى قلب كل الحقائق السّابقة.
عبد الإله إصباح
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد