سوريا في مقر بعثتها في نيويورك: الحرب أيضاً هنا
يرن جرس الهاتف... يرد السفير شاكرا دعوة الى حفل استقبال في الأمم المتحدة لمناسبة عيد وطني لإحدى الدول. ما هي إلا ثوان حتى يدخل ديبلوماسي ليأخذ ملفا كان قد اطلع عليه السفير قبل الانصراف إلى جلسات إحدى اللجان في الأمم المتحدة.. ضجيج عمل صامت يلف مكاتب الديبلوماسية السورية المؤلفة من ثمانية ديبلوماسيين وسفير هو بشار الجعفري شاغل وسائل الإعلام منذ بداية الأزمة السورية. لم يختلف جو البعثة اليوم عن السنوات الماضية قبل بداية الأزمة في سوريا.
تغطية الجلسات والمشاركة في أنشطة المنظمة الدولية أمور ثابتة لم تعدل فيها مجريات الأحداث في سوريا. على فنجان قهوة عربية كان اللقاء مع السفير وأفراد البعثة الذين راحوا يتناثرون الواحد تلو الأخر فن حضور وتغطية جلسات المنظمة الدولية بهدوء ونشاط.
غريب أمر هذه الديبلوماسية التي لا تفارقها الابتسامة الديبلوماسية التي ترسم لك مخرجا قريبا للأزمة و«كأن الدنيا بألف خير».
وعند سؤالك عن سبب هذا الارتياح والثقة والأعصاب المشدودة، يرد الديبلوماسيون أن هناك أسبابا عدة، أولها وضوح في الرؤية التي تحجب كل تشويش، وثانيها أيمانهم الذاتي بضرورة حماية الوطن بالمعنى الكبير للكلمة ومواجهة التحديات الطارئة، وهي أمور في صلب مهنتهم خصوصا في المنظمة الدولية مسرح المواجهات الديبلوماسية وحاضنة موازين القوى وقدر الدول النامية أن تواجه مشاريع وبرامج الكبار ولو اضطرت إلى خوض حروب ديبلوماسية.
يعتز الجعفري بقراءته الخرائط السياسية دائما بوضوح، ويضع الأزمة السورية ضمن لعبة «الجيوبوليتيك» التي ترسم لمنطقة الشرق الوسط، وهو يعتز أيضا بمناصرة عدد كبير من الدول، ذات النفوذ، للدولة السورية، فيلفت إلى أن عدد الدول المؤيدة التي تصوت لمشاريع القرارات التي تقدمها سوريا حول الجولان سنويا زاد بعد الأزمة، وأن لسوريا دول أصدقاء يؤمنون بها كدولة قوية ويحاربون معها أي برنامج يرمي إلى التفتيت.
ضغوط من هنا وهناك
تروي الديبلوماسية السورية بأسف حكاية المماطلة الحاصلة من قبل المنظمة الدولية في أداء المهام المناطة بها، فعدد الرسائل التي بعث بها الجعفري باسم حكومته إلى كافة أقسام الأمم المتحدة، من الأمين العام مرورا برئيس الجمعية العامة وصولا إلى مكاتب الشؤون الإنسانية والسياسية وغيرها، وصل إلى 300 رسالة لم يوزع منها إلا القليل على وسائل الإعلام، وتعزي سبب المماطلة في توزيع غالبيتها إلى عرقلة إدارية وبيروقراطية.
أشكال أخرى من الضغوط تعانيها الديبلوماسية السورية، حسب قولها، في جلسات الجمعية العامة السنة الماضية، حيث كان يترأسها السفير القطري السابق ناصر عبد العزيز الناصر الذي غض الطرف عن طلب السفير السوري على الهواء، وبحضور الأمين العام، الوقوف دقيقة صمت على أرواح كافة الشهداء السوريين، وكيف أن الإرسال قطع فجأة في الأمم المتحدة لحظة بدء الجعفري إلقاء خطابه في الجمعية العامة.
ويتساءل السفير السوري عن مصير التسجيل لجلسة الاستماع لكوفي أنان، حيث ظهر الدفاع الدولي عن سوريا من قبل روسيا والصين بارزا. ويضيف الجعفري أنه وللمرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة، منذ تأسيسها، يلغى أو يخفى من الأرشيف تصوير إحدى جلسات المناقشة، متحدثا عن الأيادي الخفية التي تعمل في الأمور التقنية وتتدخل في السياسات الدولية مثل تكليف مترجمين مبتدئين لتغطية بعض جلسات مجلس الأمن الحساسة حول سوريا، الأمر الذي يفقد المناظرات الكلامية أهمية الألفاظ والتعابير بحيث لا تصل الرسالة بشكل كامل.
أما عن جلسات التصويت فحدث ولا حرج عن الضغوط الدولية التي تمارس على الدول الصغيرة من أجل حملها على التصويت على القرارات ضد سوريا يضيف الجعفري. وقد أكد أنه تلقى اعتذارات من سفراء دول أسروا له بالضغوط الدولية وكانوا مرغمين على التصويت على قرار ضد سوريا غير مقتنعين بالأمر.
تشعر أيضا الديبلوماسية السورية بالغبن والأسف من عملية إقفال الحسابات المصرفية للبعثة في أميركا بعد تعامل دام 50 عاما، الأمر الذي يعتبر انتهاكا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدولية ولاتفاقية الدولة المضيفة، حيث رفضت كل المصارف الأميركية استقبال حسابات البعثة. ويعلق أحد الديبلوماسيين بقوله أن هذا الاستفزاز أمر معيب في مدينة «وول ستريت»، لكنه يضيف «الأمور بألف خير، وليس لدينا أي مشكلة».
ولم تخف ابتسامات الديبلوماسيين الكثير من القلق على أهلهم ومواطنيهم في سوريا. فالأهل وان كانوا بخير فالأزمة لم تمر من دون «منغصات» حسب تعبيرهم، ولم يخلُ الأمر من استفزازات طالت أهلهم هناك، من دون تحديد مدى نوع أو ماهية التعدي، وهم يقولون إن الشعب السوري بأكمله يدفع ثمن هذه المؤامرة.
ولم ينكر السفير السوري العروض المالية المباشرة وغير المباشرة والرسائل التي بعثت من عدة جهات عربية وغير عربية لحملهم على التنحي والانشقاق عن الدولة، مضيفا «نحن لسنا سلعة، نحن نعمل من اجل الوطن والشعب. لدينا مبادئ ندافع عنها، لأننا لا نؤمن إلا بسوريا المؤلفة من ثلاث ركائز: الوطن الشعب والحكومة». ويضيف ديبلوماسي آخر انه يعمل لدولته بالعقل وليس بالعاطفة.
وينتقد الديبلوماسيون السوريون زملاءهم الأميركيين والفرنسيين وغيرهم، بقولهم «لماذا لم ينشقوا عن بعثاتهم عندما سقط مئات آلاف الضحايا في فيتنام والعراق وليبيا وفلسطين وأفريقيا جراء سياسة بلدانهم في هذه الدول».
لم تقتصر الضغوطات السياسية على أفراد البعثة داخل عملهم بل تعدتها إلى خارج المكاتب. ففي غير مرة لوحق السفير في شوارع نيويورك، عندما كان متوجها لعمله في البعثة، من قبل أشخاص بألفاظ نابية لا تليق بسفير دولة. وتناقلت الصفحات الالكترونية مشاهد حية لهجوم لفظي لمجموعات من الشبان السوريين المعارضين، على مدخل منزل الجعفري، حين استعان بالشرطة الأميركية لحماية عائلته التي لم تسلم من شتائم وحكايات كاذبة حول ابنته الجامعية. كما اضطر الجعفري إلى تغيير رقم هاتفه وبريده الالكتروني بعد مضايقات طالته لكنه لم ينقطع عن تلبية دعوات الجالية السورية حسب تصريح له، ويؤكد أن كثرا من المواطنين السوريين ممن كانوا يقفون في «المنطقة الرمادية» سياسيا أصبحوا اليوم أكثر واقعية ومعرفة حول ما يحاك لسوريا من مؤامرات تقسيمية.
علاقة البعثة بالمجموعة العربية
تدور الاجتماعات العربية في الأمم المتحدة ويبقى كرسي المندوب السوري عاريا من دون صاحبه. لم تنقطع العلاقات الديبلوماسية على الصعيد الشخصي بين الزملاء الديبلوماسيين، لكن ثمة «عتبا سوريا على الأعراب الذين ذهبوا بعيدا في عداوتهم ضد دمشق منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة، وبدل أن تكون الجامعة العربية حاضنة لمشاكل الأمة العربية راحت تتشرذم بفعل تأثير البترودولار الخليجي، فضعفت المجموعة المهمة فيها كالعراق ومصر والجزائر وليبيا وسوريا، وهي تعتبر دولا محورية، وسلمت مفاتيح القرار لدول الخليج التي راحت تفرض قراراتها على الجامعة العربية» والكلام للديبلوماسية السورية التي وصفت في يوم من الأيام وعلى لسان الجعفري في احد بياناته الجامعة العربية بـ«المفرقة الخليجية».
أكثر من نصف الطريق
ترى الديبلوماسية السورية الأمور اليوم بعين أكثر وضوحا، وهي نجحت في تبيان حقيقة الصراع الجاري على الأرض، حسب تعبيرها، فهي تعرض باستمرار للأمم المتحدة أسماء المجموعات الإرهابية، وهي من مختلف الجنسيات، والتي تدخل يوميا عبر البوابة التركية إلى سوريا مستهدفة ضرب البلاد وتدمير البنية التحتية للدولة.
وتقول أوساط هذه الديبلوماسية «أنها مرتاحة لسماعها المسؤولين الأمميين وهم يرددون الآن حقيقة ما يجري في سوريا من أعمال إرهابية وتدخلات فجة في شؤونها الداخلية»، وخصوصا وسائل الإعلام التركية والغربية التي أضحت تردد في نشراتها كلاما عن عناصر إرهابية أتت «لتجاهد» في سوريا.
بين الأمل والعمل تعمل الديبلوماسية السورية بنفس طويل الأمد وثقة «ابن الدولة» التي لا تنهار مهما كبرت المؤامرة. وهي تقول بثقة «قطعنا أكثر من نصف الطريق، واقتربنا أكثر من الحل السلمي».
سمر نادر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد