المقدس والسلطة: جدل السياسي والثقافي في الاسلام
إذا انتهى التاريخ الذي كان فيه الفيلسوف شاعراً وزعيماً سياسياً، فإنه ليفسح المجال للهراطقة الزنادقة تارة باسم الدين واخرى باسم القبيلة او العشيرة ليعتلوا سدة الحكم. فعلي مبروك الكاتب والباحث المصري في كتابه (المقدس والسلطة جدل السياسي والثقافي في الإسلام) يذهب الى البحث عن أسباب غياب كل ما هو إنساني وديموقراطي في بنية الثقافة العربية، محاولاً نزع القدسية عن العائلة العشيرة/ الدولة. وكأنه يريد (موت السلطة) التي تحتمي باللاهوت كي تعزز استمراريتها، وتدشِّن تاريخا من الانقلابات والخيانات والهزائم، فتقطع الحبل السري الذي فيه الإنساني/ الاخلاقي ما بينها وبين الناس الرعية الذين يتم تجزيئهم وتفتيتهم بسبب انها سلطة ترى نفسها فوق البشر. سلطة مستبدة تفعل كل شيء لتبقى، فإذا خسرت الدولة استعانت بالقبيلة، وإذا خسرت القبيلة استعانت بالدولة لتأديب القبيلة. ما يعني ان التخفي القبلي وراء العقائدي إنما ينطوي على ضرب من التخفي لتقديس هذه السلطة/ النظام وراء تقديس السلطان.
وبالرغم من ان حقيقة الامر لم تجاوز هكذا حدود، فإن تقديس النظام راح يتخفى وراء تقديس السلطان، وهذا يؤكد على دوام (التقديس) الذي ينتج نفسه في السياسة الى التقديس الذي يؤسس نفسه في الثقافة. ومن هذا فإنه إذا كان التقديس في السياسة قد راح يتحقق عبر استراتيجية يتعانق فيها التماهي والتخفي لكل من القبلي والعقيدي، فإن تأسيسه في الثقافة قد راح يتحقق عبر استراتيجية يتجاوب فيها النقلي مع العقلي. وإذا كان الامر كذلك فإنما ليتجاوز مجرد التجاوب بين النقلي والعقلي الى التبعية في العمق لأحدهما، وهذا يحيل الى ان مركزية النقل في هذه الثقافة التي تكاد تكون قد تبلورت كلياً ضمن سياق النقلي الخالص، فلا بد ان تكون هي نقطة البدء في تأسيس التقديس، الذي يبدو ان النقل كآلية معرفية اولا، وكمضمون معرفي ثانيا قد لعب دوراً بالغ الجوهرية في ترسيخه وتثبيته، ولعل هذه المركزية للنقل تتأتى مما يمكن ملاحظته من ان علم الحديث يكاد ان يكون بمثابة (الأب) لجملة العلوم التي ابتدأت الثقافة سيرورة انبنائها وتشكلها من الاشتغال بها أساساً، حيث كان الحديث هو المادة الواسعة التي تشمل جميع المعارف الدينية وغيرها تقريباً. فهو يشمل التشريع والتفسير والتاريخ وكلها بمثابة التشكلات والانتظامات الاولى في الثقافة وكانت كلها ممتزجة بعضها ببعض تمام الامتزاج. فراوي الحديث يروي حديثا فيه تفسير لآية من القرآن، وحديثاً فيه حكم فقهي وحديثاً فيه غزوة من غزوات النبي (ص) او الصحابة، وهكذا فمنزلة الحديث بالنسبة للعلوم الدينية ولم يكن من علوم غيرها آنذاك كمنزلة الفلسفة للعلوم العقلية. والقصد من هذا انه مثل ما كانت الفلسفة هي أم العلوم في الثقافة اليونانية، فإن الحديث قد كان بمثابة الأب للعلوم في الثقافة الإسلامية، وبما يعنيه ذلك من ان مركزية العقل في احدى الثقافتين إنما تحيل الى مركزية النقل في الاخرى. والحق انه لا مجال للإدعاء بأن هذا التمركز النقلي قد كان في ابتداء تشكلها فقط، لأنه يبقى الأكثر حسماً في مسار تشكلها اللاحق كله اي كان لا بد من الطابع النقلي لآلية الاشتغال في لحظة الابتداء والتشكل ان ينسرب الى الثقافة ويترسخ في نظامها الأعمق. وإذا كان ثمة من راح يرد هذا التمركز النقلي للثقافة الى عالم البداوة كاشفاً عن حضور القبيلة في الثقافة حيث: (الملة في اولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى احوال البداوة، وإنما احكام الشريعة كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا فأخذوها من الكتاب والسّنة بما تلقوه من صاحب الشرع والصحابة) والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا التعليم والتدوين ولا دعتهم إليه حاجة الى آخر عصر التابعين، وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله: القراء فهم قراء لكتاب الله والسّنة المأثورة التي هي في غالب موارده تفسير له وشرح، فإنه يبدو ان الامر يتجاوز الى ما هو أعمق اي الى ان آلية النقل إنما تحمل ملامح عالم القبيلة على نحو ملفت، حيث يمثل النقل كآلية معرفية انعكاساً كلياً لطريقة في العيش تتميز بها القبيلة، ولا تعرف فيها إلا مجرد الاستيلاء والسطو على ما في ايدي الآخرين.
والحق ان ما يلوح من وراء ذلك من ان مركزية ما يخص عالم القبيلة وينتمي إليه في بناء التقديس انما يتجاوز السياسة الى الثقافة، مما يؤكد على ان تجربة التقديس بناء من السياسة وتأسيساً في الثقافة، لا يمكن ان تنفصل عن انماط الحياة والتفكير فترتد الى اشكال الوجود الإنساني الاسبق والاقدم. وبالطبع فإن اعادة انتاج التقديس انما تحيل الى هذه الانماط، وخصوصا تلك التي تتعلق بالتفكير، قد ارتفعت الى مستوى النظام العميق المتخفي في بناء الثقافة والذي يعاد انتاجه رغم غياب شرطه او قرينه في نمط العيش الملازم له. وإذ ظل النقل يعتمد آلية التداول الشفاهي حتى تضخمت المعارف وتشعبت على نحو صار معه التحول الى التدوين الكتابي لازماً، فإن انشغال ثقافة ما، منذ البدء، بصيرورة هذا التحول من الشفاهي الى الكتابي قد كان لا بد ان يجعل من سلطة القابضين على الرأسمال الشفاهي للجماعة من الحفاظ والرواة والنقلة هي السلطة العليا آنذاك. ومن هنا يلاحظ ان لقب (الحافظ) قد اعتبر داخل الثقافة من ألقاب السيادة والهيمنة، حتى لقد راح الكثيرون يتطلعون الى امتيازه والفوز بشرف التقلب به التماساً لاسباب السلطة والسطوة ولو حتى الرمزية ويبدو وهذا لسوء الحظ ان هذه السلطة لم تتزحزح أبداً وحتى الآن. إذ الحق انه إذا كان العقل قد راح يبحث لنفسه فيما بعد لحظة التشكل والانبناء الاولى عن مكان يمارس منه سلطته داخل الثقافة الاسلامية، فإنه يبدو ان هذه الممارسة للعقل قد ظلت أبداً مقيّدة بسلطة تحدها وتعوقها من الخارج، بل ان سلطة النقل راحت تتعزز وتتدعم مع انفتاح الثقافة على العقل وعلومه، وذلك من حيث ظل النقل هو آلية اشتغالها ضمن هذا السياق. بل إن آليتها في ترسيخ هيمنة النقل من خلال تكريس سلطة الاصل الذي لا يمكن الانحراف عنه، بل لا بد من تكراره دائما، فقد راحت تعيد انتاج نفسها حال اشتغالها بالعقل وعلومه. علي مبروك في (السلطة والمقدس) يريد ان يؤكد ان الصراع بين الفلسفة والدين الغلبة فيه للفلسفة، وان الدولة مهما احاطت حالها بهالة من القداسة فإنها عقبة في طريق التاريخ لأنها سلطة اداة سياسية غايتها قهر العقل.
? صادر عن مركز الإنماء الحضاري حلب .2005
انور محمد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد