50 يوماً على بدء العدوان على غزة والمقاومة ترسّخ معادلة «الاستنزاف» والتفاوض
تدخل الحرب الإسرائيلية يومها الخمسين هذا النهار، وكأن أيامها التسعة والأربعين الماضية لا تختلف: تدمير جنوني إسرائيلي وصمود فلسطيني مقاوم وأحاديث عن وقف النار. لكن أيام الحرب، كما أيام السلم، تبدو متشابهة في ظاهرها، لكن ما يميزها هو أثرها على التيارات الأعمق بعيداً عن السطح. فالجمهور الفلسطيني في الوطن والشتات استعاد الثقة بإمكانية فتح بوابات المستقبل بعدما كان الجدار عالياً بينهم وبينه. والجمهور الإسرائيلي فقد ثقته بالجيش والحكومة على حد سواء، ولم يعد مرضياً له فقط إثبات حجم الدمار في الجانب الفلسطيني.
في اليوم التاسع والأربعين للحرب ظلت الطائرات الإسرائيلية تغير وتدمر جنونياً على أمل حسم المعركة أو تلطيف مواقف المقاومة في المفاوضات من أجل الحل. وحافظت المقاومة حتى هذا اليوم على وتيرة إطلاق صواريخ لم تختلف عن يومها الأول ولم تغير موقفها من سبل الحل واشتراطاته. وبقي أمام الجميع سؤال عمن أفلح وخاب في تقديراته واستعداداته: حرب استنزاف أم حرب طحن وتقطيع؟
بعد خمسين يوماً من حرب الدولة الأقوى في المنطقة على المنطقة الأشد حصاراً والأضعف مورداً يصعب الخطأ في التقدير: هذه حرب استنزاف.
وواصلت إسرائيل غاراتها الجوية على قطاع غزة، حيث استشهد تسعة فلسطينيين أمس بينهم الصحافي عبدالله مرتجي، بحسب ما أعلن المتحدث باسم وزارة الصحة في القطاع أشرف القدرة. وأعلنت متحدثة باسم جيش الاحتلال أن الطيران الاسرائيلي شن 30 غارة جوية.
وأفاد شهود أن الغارات أدت إلى تدمير مسجدين، أحدهما في حي الزيتون في وسط غزة، والآخر في بيت حانون في شمال القطاع، فضلاً عن تدمير عدد من المنازل في جباليا شمالاً والبريج والنصيرات في وسط القطاع.
في إسرائيل بدأت، رسمياً، عملية ترحيل سكان غلاف غزة في محيط سبعة كيلومترات من الحدود تحت مسمى «إنعاش»، برغم أن الجميع يعرف أنها ليست كذلك.
في إسرائيل بدأت مكانة الجيش والحكومة في التدهور لدى الجمهور الإسرائيلي، خصوصاً وهو يسمع الإهانات التي توجه إلى رئيس أركان الجيش من جانب وزراء، ويسمع إهانة الوزراء لبعضهم البعض ولرئيسهم بنيامين نتنياهو. ونتنياهو، الطامح إلى تخليد نفسه زعيماً لدولة إسرائيل وأطول رؤساء الحكومات عمراً في المنصب، يجد نفسه أمام انهيار هائل على الصعيد الشعبي.
فقد أظهر استطلاع نشرته القناة الثانية أنه خلال شهر تراجع تأييد الجمهور لرئيس الحكومة الإسرائيلية بأكثر من أربعين نقطة. وبحسب الاستطلاع، فإن 38 في المئة من الإسرائيليين فقط يعتبرون أداء نتنياهو في الحرب جيداً. وهذه نسبة ضئيلة تذكر الجميع بما حدث لرئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت في حربه في العام 2006 على لبنان. والأدهى أن هذا التأييد هبط خلال الأربعة أيام الأخيرة من 55 في المئة، بعدما كان نتنياهو قد نال 82 في المئة من التأييد عندما أمر بشن العملية البرية.
وكتب المعلق الأمني البارز أمير أورن أمس، في صحيفة «هآرتس»، أنه بحساب بارد، مقارنة بما كان في السابع من تموز، يوم إعلان الحرب على غزة، يظهر أن إسرائيل خسرت أكثر. أي اتفاق لوقف النار سيعيد الوضع إلى سابق عهده بعد خسارة 68 قتيلاً ومئات الجرحى وآلاف النازحين عن بيوتهم، وهذا في مقابل الخسارة الفلسطينية لا شيء.
لكن «حماس» أفلحت في تشويش حياة الإسرائيليين في عدة مستويات بينها التعليق الجزئي للملاحة الجوية وإلغاء افتتاح دوري كرة القدم وتهديد بتأجيل العام الدراسي. و«حماس» ردعت وزير الدفاع الإسرائيلي، البطل المغوار من سييرت متكال والمظليين، عن زيارة ناحال عوز خشية التعرض لقذائف الهاون. ونتنياهو لا يملك القدرة على الدخول بالحرب إلى شهر أيلول حيث تبدأ الأعياد، والواضح أن آخر أيام الحرب ستكون أول أيام المعركة الانتخابية.
عموماً، وبرغم التلميحات المتزايدة بشأن قرب التوصل إلى اتفاق لوقف النار، إلا أن أي اتفاق فعلي بهذا الشأن لم يتم التوصل إليه. ويبدو أن هناك إصراراً من جانب المقاومة على رفض أي اتفاق لا يضمن فك الحصار عن قطاع غزة، فيما تعمل إسرائيل على رفض أي اتفاق لا يضمن لها في مقابل ذلك تجريد القطاع من السلاح.
وفي ظل الحديث الإسرائيلي المتزايد عن إنهاك فصائل المقاومة، فإن الإطلاقات من غزة تتحدى هذا القول حيث أطلقت الصواريخ أمس على نطاق واسع ما بين بئر السبع واللد وتل أبيب وما بعد تل أبيب. وحتى ساعات المساء الأولى كان الحديث يدور عن إطلاق ما لا يقل عن 120 صاروخاً. وبديهي أن هذه الوتائر تشهد على عدم صحة الأحاديث حول تراجع كمية النيران.
وقد اضطر معلق إسرائيلي للقول إنه حتى إذا صحت التقديرات بأن لدى المقاومة في غزة الآن حوالي ثلاثة آلاف صاروخ، فضلاً عن آلاف قذائف الهاون، فإن ذلك يضمن استمرار الحرب لأكثر من شهر.
وفيما تتحدث مصادر فلسطينية ومصرية عن تقدم نحو وقف إطلاق النار وتعلن أنه سيكون لمدة شهر، يرى معلقون إسرائيليون أن هذا مجرد كلام. إذ لا يعقل لغزة القبول بوقف نار بعد كل هذه التضحيات يعيدهم إلى ما كانوا عليه، كما يصعب على إسرائيل تقبل اتفاق يمنح المقاومة صورة النصر. لذلك يراهن البعض على أن الاحتمال الأكبر هو أن تحث الولايات المتحدة في نهاية الأسبوع الحالي على قرار من مجلس الأمن الدولي يفرض وقف النار.
لكن هناك من يصر على أن المبادرة الأميركية في مجلس الأمن المنسقة مع إسرائيل لن يكتب لها النجاح إلا إذا تكاملت مع المبادرة المصرية.
وقالت مصادر إسرائيلية رسمية إن «الأمور غير واضحة» وان تل أبيب تطلب استفسارات من الحكومة المصرية بشأن الصيغة الأخيرة. وأشار مراسلون إلى أن إسرائيل توافق على وقف نار طويل وترفض أي وقف نار لمدد قصيرة. لذلك فإن الكرة في الملعب المصري الذي في نظر إسرائيل عليه أن يكون أشد حرصا هذه المرة حتى لا تنهار الهدنة كما حدث في الماضي.
ومع ذلك شددت مصادر إسرائيلية على أن نتنياهو يجري طوال الوقت مداولات مع كبار مساعديه حول وقف النار. وأشارت إلى أن نتنياهو وموشي يعلون وبني غانتس أجروا مساء أمس، آخر المداولات بشأن المبادرة المصرية التي وصلت إلى إسرائيل في وثيقة مفصلة.
ويقال إنه إذا وافق الطرفان على الصيغة المصرية الأخيرة فمن المتوقع أن يصل وفدا الطرفين إلى القاهرة فور إبلاغ الموافقة. ويرى المعلقون الإسرائيليون أنه ليس ثمة شيء مؤكد حتى الآن في هذا الصدد، برغم وجود تلميحات مصرية بأن الورقة تستند في مرحلتها الأولى إلى وقف نار على أساس تفاهمات العام 2012.
تجدر الإشارة إلى أنه ترددت معلومات غير مؤكدة عن رفض حركة حماس للصيغة الأخيرة وأنها تطالب بإدخال تعديلات عليها.
وكان مهماً كلام الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز أمس، حول ما يعتبره «خللاً» في أداء المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر في كل ما يتعلق بحرب «الجرف الصامد».
وامتدح بيريز جيل الشباب الذي تجلى كجيل جدي في نظره حيث كان الجنود والقادة العسكريون «غير مذعورين ولا يثرثرون». وفهم البعض أن إشارته هذه هي انتقاد لأعضاء المجلس الوزاري المصغر الذين كانوا يتصرفون بذعر، مطالبين بتنفيذ شعارات، وكانوا طوال الوقت يثرثرون في وسائل الإعلام.
ومن البديهي أنه لا يمكن الحديث عن الحرب من دون الحديث أيضا عن آثارها الاقتصادية. فقد خفض «مصرف إسرائيل» أمس، نسبة الفائدة في المصارف على الودائع إلى ربع الواحد في المئة، وهي أدنى نسبة في تاريخ إسرائيل.
وبرر المصرف هذه الخطوة بتباطؤ الاقتصاد الذي تفاقم بوضوح نتيجة حرب «الجرف الصامد». وتعتقد أوساط إسرائيلية مختلفة أن تكاليف الحرب وعواقبها قد تمنع حدوث نمو اقتصادي في إسرائيل في الأعوام المقبلة.
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد