مصر تستعيد أيّام الرقص
«الراقصة» تهزّ البلد: برنامج المواهب تحوّل قضية وطنية
«من أجل إحياء فن الرقص الشرقي المعروف بأصالته وعراقته، ولأنّنا نقدّر هذا الفن ونؤمن بأنّه جزء من تراث مصر، قرّرنا عرض العمل». بهذه العبارة، استقبل المشاهدون أول من أمس الحلقة الأولى من برنامج «الراقصة» الذي تشارك في لجنة تحكيمه الراقصة دينا، والسيناريست تامر حبيب، والممثلة فريال يوسف. هذه المرّة، دافعت دينا عن مشروعها رغم الانتقادات التي طاولته منذ عرض إعلانه على قناة «القاهرة والناس» للبحث عن مشاركات مصريات في البرنامج الذي يعنى باختيار مواهب في الرقص الشرقي. الحديث عن إلغاء البرنامج وقتها لم يكن سوى محاولة لتهدئة الرأي العام لإنجاز التصوير الذي انتهى قبل شهر رمضان. هكذا، ستكون كل الحلقات مسجلة، بما فيها الأخيرة التي تفوز فيها مشتركة أوكرانية. جولة عالمية بين مهرجانات الرقص الشرقي أجرتها دينا قبل التصوير، فضلاً عن لقاءات مع راقصات من مختلف الجنسيات لاختيار 27 راقصة للبرنامج. ينقسم الأخير إلى ثلاث مراحل. بعد اختيار 27 مشتركة من قبل الحكام الثلاثة، تبدأ المرحلة الأولى في 9 حلقات حيث تتنافس الراقصات لتفوز في كل حلقة واحدة، وتخسر اثنتان. أما في المرحلة الثانية، فتصعد ثلاث راقصات على المسرح لاختيار إحداهن لحمل لقب «الوصلة الضعيفة».
هكذا، تُستبعد راقصة على مدار 12 حلقة، ما يُدخل 7 متسابقات إلى المرحلة الثالثة التي تغادر فيها راقصة كل حلقة قبل اختيار الفائزة. لم يتوقف الاعتراض على «الراقصة»، حتى وصل إلى «الأزهر» (راجع المقال أدناه)، ما يهدد البرنامج في ظل قوانين الإعلام التي تتيح للحكومة وقف أي قناة استناداً إلى عبارات فضفاضة مثل «القيم والعادات والتقاليد».
«الراقصة»: كل أحد واثنين وثلاثاء ــ 22:00 مساءً على «القاهرة والناس»
أحمد جمال الدين
المؤسسة الدينية غاضبة، والجنرال يذكّر : أنا حامي الأخلاق!
اشتدت الهجمة الإعلامية و«الدينية» على دينا عقب بث أولى حلقات «الراقصة» على قناة «القاهرة والناس» كأول برنامج للرقص الشرقي أول من أمس الاثنين. كانت الهجمة التي تمسحت في أردية أخلاقية ودينية، بدأت مع طرح «البرومو» الخاص للبرنامج. اعتبره مجمع البحوث الإسلامية «حلقة ضمن مسلسل اختراق الإسلام تحت دعاوى التشدق بالحرية»، متهماً البرنامج ومسؤوليه بالطعن في صميم منظومة الإسلام الحضارية، وهي الأخلاق والحياء.
كما اتهمهم بتكريس ثقافة التحلل والاختلاط وإثارة الغرائز والانصراف عن الثوابت! واعتبرت لجنة الفتوى في الأزهر أنّ «كل من يشارك في البرنامج بالفعل أو القول أو الصمت، فهو آثم قلبه» واصفة الرقص بـ «الخلاعة والمجون» التي يجب منع انتشارها في بلاد الإسلام، فيما وصمت هيئة كبار العلماء العمل بـ«المتاجرة بأعراض الفتيات».
في الجهة ذاتها وقف الإعلامي تامر أمين ضد البرنامج، مناشداً إدارة قناة «القاهرة والناس» بـ «أرجوكم واستحلفكم بالله بلاش تذيعوا البرنامج ده لأن إذاعة هذا البرنامج في هذا التوقيت مضر جداً بالواقع السياسي للبلاد وسيعطي فرصة ذهبية للإخوان للشماتة في ثورة 30 يونيو». وكان أمين ذاته قد شنّ هجوماً على الراقصة الأرمنية صوفينار الشهيرة بصافيناز، وصل إلى حد تهديد مذيع قناة «روتانا مصرية» لصافيناز بالطرد خارج مصر.
لجنة الفتوى في الأزهر وصفته بـ «الخلاعة والمجون»
وتزامناً مع عرض أولى حلقات البرنامج، تقدّم المحامي سمير صبري الذي اشتهر بمقاضاة المشاهير والداعية خالد الجندي والشيخ مظهر شاهين ببلاغ للنائب العام ضد مدير قناة «القاهرة والناس» طارق نور لمنع عرض «الراقصة». ووصفت الدعوى البرنامج بـ «العمل الإباحي الذي يمثل خطراً جسيماً على الدولة في هذا الوقت، وسيمنح الفرصة للمتربصين لاستغلاله في مهاجمة الدولة والنظام الحاكم» فيما انكب حقوقي مغمور على جمع تواقيع شعبية في محافظة كفر الشيخ (شمال الدلتا) لإيقاف عرض البرنامج.
على الصفة الأخرى، وصف عضو لجنة التحكيم في البرنامج السيناريست تامر حبيب مهاجمي العمل بـ «محبي الظهور والازدواجيين والمتناقضين والهجوميين والباحثين عن الشهرة»، مضيفاً على صفحته على فايسبوك «اللي حابب يتفرج ويستمتع واللي حابب ينتقد على أساس وبالذوق أهلاً وسهلاً، واللي مش حابب والموضوع برة دايرة اهتمامه، ما يتفرجش، وبرضه أهلاً وسهلاً. أما الحالات المرضية بقى فربنا يتولانا ويتولاهم برحمته». من جهتها، أكدت دينا في لقاء تلفزيوني عدم خشيتها من ردود الفعل المعارضة لفكرة تقديم البرنامج.
الهجمة العنيفة على البرنامج بدعوى الدفاع عن الأخلاق ليست بعيدة من أطروحات السلطة السياسية الجديدة ومناصريها. صرّح الرئيس عبد الفتاح السيسي مراراً أن التقويم الأخلاقي للمجتمع من مهمات الرئيس، قائلاً: «أنا مسؤول عن كل حاجة في الدولة حتى دينها، وأنا مسؤول عن القيم والمبادئ والأخلاق والدين». وكان المتحدث باسم "حزب التجمع" (أقدم الأحزاب اليسارية) نبيل زكي قد صرّح في أيار (مايو) قبل إجراء الانتخابات الرئاسية بأنّ السيسي يمتلك مشروعاً للحث على مكارم الأخلاق. لم يلتفت المتحدث باسم الحزب «اليساري» لأولويات حزبه والقضايا «الطبقية» التي يُفترض أن يناضل من أجلها، مسوغاً للجنرال الجديد أساليب الدعاية الإسلاموية.
الرقص بين «الفيمنيزم» والإستغلال السياسي
في إطار حملة لمناهضة العنف ضدّ المرأة حملت عنوان «مليار ثائر لأجل العدالة 2014»، رقص في شهر شباط (فبراير) الماضي عدد من النساء بشكل مفاجئ في منطقة الكوربة (أحد أحياء مصر الجديدة). وتداول النشطاء مقاطع الفيديو التي أثارت الجدل بين الناس، فيما راق الرقص لعدد من الناشطين والمدافعين عن حقوق المرأة قبل أن يتداول البعض مقطعاً مشابهاً لنساء فلسطينيات في الأراضي المحتلة. من جهة أخرى، شهدت لجان الإقتراع في محافظات مصر حالة من الرقص الشعبي خلال الإستفتاء على الدستور في كانون الثاني (يناير) الماضي وخلال الانتخابات الرئاسية في أيار (مايو)، وهو الأمر الذي دافعتْ عنه وسائل الإعلام المؤيّدة لعبد الفتاح السيسي، معتبرة إياه بـ "التعبير عن الفرحة" تارة، و"تأييد السيسي" طوراً.
مدحت صفوت
بنتك هاترقص في الكباريهات يا رمضان
لم يتفقوا حول أي شيء آخر، فلماذا سيختلف الحال إزاء الرقص الشرقي؟ قد يشير ضمير الغائب هنا إلى المصريين، ربما العرب، ربما بدائرة أوسع «الشرقيين» طالما أنّه رقص «شرقي». لكنه ـ ذلك الرقص ـ لم يرتقِ إلى صخبه و»قيمته» وجدله، إلا مع السينما المصرية. وضعت «أسطوات» مثل تحية كاريوكا، وسامية جمال رقصهن ــ والرقص كله ـ في مكان آخر. كان هذا أوان تتعرّف فيه مصر «الليبرالية» أولاً ثم «الجمهورية» على نفسها بعدسات السينما ثم بشعارات التقدم، فكان أن وُضِع التراث الشعبي كله موضع الفخر تارة، و»الرعاية» الرسمية تارات.
تبنت الدولة الفنون الشعبية وراقصيها، وأقامت قصور الثقافة لأدبائها وفنانيها، ولم تمسّ عالم الرقص الشرقي. لكنه ازدهر مع ازدهار الجميع، ثم انتكس بالنكسة مع الجميع، وكما كفر كثير آنذاك ـ وللأبد- بالتقدم وبالعروبة، ارتد الرقص الشرقي على «رقيّه» وطموحاته، وانحصر في كباريهات السبعينيات بزبائنها الانفتاحيين والنفطيين.
وسرعان ما اختفت راقصة سينما الخمسينيات التي «ترقص بشرفها»، وتحولت العبارة نفسها إلى سخرية في سينما العقود اللاحقة. لم تعد سامية جمال أو نعيمة عاكف تحظى بإعجاب البطل وحبه، بل صارت «بنتك هاترقص في الكباريهات يا رمضان» (العيال كبرت) شعار المرحلة.
وفي الآن نفسه، أوان الصحوة الإٍسلامية، لم يعد جلب أو عدم جلب راقصة للأعراس أمراً يتعلق بالقدرة المادية. صار غياب الراقصة وفرقتها الأمر المحوري في ما أطلق عليه «العرس الإسلامي». ذلك أن الخصائص الأخرى، كالعزل بين الذكور والإناث كانت تقاليد ريفية أساساً، وليست ذات منشأ وهابي أو جهادي خاص. لكن حتى في هذا الريف والمناطق الشعبية، كان حضور «الراقصة» أو «الغازية –العالمة» أمراً محورياً، حتى تخلّص العرس الإسلامي من هذه «الخطيئة». لقد بدت الراقصة عدوة للإسلاميين، إلى حد أنهم لم يشملوها حتى بحملة استتابة وتحجيب الممثلات التي استمرت ما يقارب ثلاثة عقود. لقد بدت الراقصة بقوتها وصلابتها - في عالم الآلاتية والكباريهات الشرس- صعبة المنال، وبدت أسماء مثل فيفي عبده ونجوى فؤاد بعيدة من مصائد الإسلاميين. معظم نماذجهن –وقد صارت قلة- أتت من قاع اجتماعي صعدن منه سلماً صعباً، عكس كثير من ممثلات أنجبتهن الطبقة الوسطى، فسرعان ما استسلمن عائدات إلى قواعد «أخلاقياتها».
لم يستهدف الإسلاميون - بهدايتهم - فيفي عبده ودينا، لكن «الصحوة الدينية» جففت المنابع من أسفل، وأتاحت الفرصة للروسيات والأوكرانيات وسواهن في ملاعب المصريات. ولا عجب، فمن أين «تنشأ» راقصة في مجتمع تحجبت الغالبية الكاسحة من بناته؟ بنات يرقصن بامتياز لكن من دون «احتراف». لقد صار البنطلون نفسه حراماً أو مكروهاً، فما حال بذلة الرقص؟
ولأنها ـ بذلة الرقص ـ تكشف البطن، فقد أرجعت المصادر أصولها إلى الهند. إلا أن الرقص الهندي أخذته بوليوود إلى مجاميعه الاستعراضية سريعة الحركة. أما التثنّي الفردي المتمهّل وهزّ الوسط و»الرعشة» وغيرها من مهارات «العوالم»، فقد انحصرت شهرتها بين تركيا ومصر، واستقرت في الأخيرة على يد كاريوكا وجمال وزينات وغيرهن من النجمات. إلا أنّه ظل رقصاً يسمى «شرقياً»، ولم يسمَّ «الرقص المصري» قطّ أو العربي، على غرار الفيلم المصري أو العربي، أو الأغنية المصرية أو الأدب. وحده الرقص ــ وهو في كل ساحة مصرية وصولاً إلى طوابير الانتخاب- ظل يسمّى «شرقياً» فحسب، كأنما أتى من بعيد وظل كذلك، كأن في الأمر نوعاً من التنصلّ.
تنصّل أورثه الخلاف الذي صار سؤالاً صحافياً مكروراً: هل الرقص الشرقي فن راق، أم مجرد إثارة للغرائز؟ هو سؤال فرضه ظهور «الراقيات» مثل كاريوكا وأخواتها. كن يفخرن أنهن حوّلن الرقص الشرقي إلى فنّ، قبل أن «يرتد على أيدي نجمات الكباريهات». أياً كان، فإن السؤال الأصلي ليس هنا، إنه في كل هذا التشدد والحرمانية والتهرب والتعقيد... في مسألة تمُارس كل يوم، وتمارسها كل الشعوب على طريقتها، إنه بالأساس، في هذا الفصل الأصولي الصارم، بين «الرقي» والغريزة.
محمد خير
دنيا آخر مصريّة في الكار
أياً كان حجم الهجوم الذي لم يتوقف ضدّ «الراقصة»، وأيّاً كانت قدرات «القاهرة والناس» على الصمود حتى نهاية الموسم، فإن حقيقة معلنة منذ سنوات يرسخها البرنامج: جيل الراقصات المصريات قد انتهى. دينا (1965) هي آخر نجمة مصرية للرقص الشرقي مع بوادر اعتزال فيفي عبده ولوسي. ثلاثتهن كن آخر عنقود بدأته تحية كاريوكا قبل 90 عاماً. دينا نفسها أكّدت هذا الواقع حين فشلت منافِساتها من الصمود أمامها. ظلّت ولا تزال رقم 1 في السوق المصرية، والأكثر تواجداً في السينما وأي فيلم يتطلّب ممثلة راقصة.
لكن دوام الحال من المحال. كان لا بدّ من ظهور بديل، وفعلتها صافيناز قبل عام عندما انطلقت دعاية فيلم «القشاش». أطلّت صافيناز لترقص على أغنية «على رمش عيونها» للراحل وديع الصافي، لكن بصوت المطرب الشعبي حمادة الليثي. من يومها، لم تنقطع أخبار الراقصة الأرمنية التي تتكلّم «مصري مكسر»، ما أكّد أنها ليست «موضة عابرة».
الفائزة في البرنامج هي متسابقة أوكرانية
صحيح أنها لم تنجح كممثلة، لكنها تصدّت لمحاولات القضاء عليها. حتى أزمة ترحليها من مصر تخطّتها بالحلّ التقليدي، وتزوّجت مصرياً وضمنت الإقامة، وباتت الأكثر طلباً في الفنادق والأفراح. لا نملك إحصاءات تقول بأنّ دينا تراجعت إلى المركز الثاني، لكن الراقصة التي تخطو نحو عامها الخمسين أعلنت ضمناً العدّ التنازلي للاعتزال. يكفي أنها تقود لجنة تحكيم «الراقصة» ومهمته اختيار نجمة جديدة للرقص الشرقي. الوضع هنا مختلف عن سوق الطرب. دينا ليست كاظم الساهر ولا شيرين كي تختار موهبة بمشاركة تصويت الجمهور. نحن أمام برنامج سيوفر الشهرة لـ 27 راقصة دفعة واحدة. كما ستصبح الفائزة نجمة لهذا الفنّ من دون الحاجة لخوض كل المراحل الصعبة التي مرّت بها راقصات شهيرات كدينا وصافيناز. الآن، النجاح مضمون مع الحملة المكثفة التي دشّنتها «القاهرة والناس» للبرنامج، ودينا هي التي تختار النجمة، وتعطيها خبرتها. لم تعد دينا الوحيدة إذاً، ولن تعود صافيناز بمفردها في السوق نظراً إلى الشهرة التي تنتظر خريجات «الراقصة». ومع تسريب خبر أنّ الفائزة في البرنامج هي أوكرانية، تحقّقت النبوءة التي تعلن أنّ دينا آخر راقصة مصرية. المجتمع المصري يحبّ الرقص، لكنه لم يعد قادراً على إنتاج راقصة بين بناته. ويبدو أن الرقص الشرقي عاد كما بدأ في مصر قبل قرن، معتمداً على غير المصريات ربما انتظاراً لتحية كاريوكا جديدة. انتظار سيطول في زمن تفصل فيه المحروسة بين الرجال والنساء في صالات الرياضة، ويفصل فيه «داعش» رؤوس البشر عن أجسادهم بالسهولة نفسها التي تتحرّك بها عقارب الساعة.
محمد عبد الرحمن
بين تحية كاريوكا وسامية جمال... بحثاً عن "المعيار"
يكتفي الكثير من متابعي الرقص الشرقي في وقتنا هذا بتقييم الراقصة وفق قدراتها على الحركة المرنة والإغراء. ومن خلال هذا المعيار، يقيّمون إحداهن كراقصة جيدة والأخرى سيئة أو دون المستوى.
أخيراً، بدأت فضائيات للرقص الشرقي تعرض عدداً لا نهائي من وصلات الرقص لعدد لا نهائي من الراقصات اللواتي قد لا نجد بينهن راقصة عربية واحدة تعلم معنى كلمات الأغنية التي ترقص على موسيقاها، أو حتى تستطيع تذوق الجملة الموسيقية التي تقوم بالرقص والتمايل معها. وبزيارة سريعة للفنادق والملاهي الشهيرة في مصر، نادراً ما نجد راقصة عربية تعمل في أحدها.
من هنا يبدأ السؤال عن معيار اختيار الراقصة أو تصنيفها، هل المعيار هو ملامح وجهها؟ أم تناسق جسدها أم لياقتها التي تؤهلها للعمل مدة طويلة ووصلات متتالية؟ أم قدرتها على تقديم حركات مثيرة ومغرية؟
الإجابة هنا تكمن في النظر إلى الخلف قليلاً ومراجعة نماذج من الرقص الشرقي لم تتخطاها إحداهن حتى يومنا هذا.
ولدت بدوية محمد كريم السيد في 22 شباط (فبراير) 1919 في محافظة الإسماعيلية، تلك المدينة الهادئة التي تجمع بين الطبيعة الريفية والساحلية. وبغض النظر عن ظروف المجتمع آنذاك خاصة الدائرة التي نشأت فيها، أو الرجعية التي اتسمت بها العائلة وقتها، بدأت في تعليم نفسها فنون الرقص الشرقي بشكل تلقائي لتمارسه في دائرة الصديقات والمناسبات العائلية لها ولجيرانها وصديقاتها حيث كان يتم الفصل بين النساء والرجال في تلك المناسبات.
وحينما شاهدتها الراقصة محاسن محمد عن طريق الصدفة، انبهرت بقدرتها الفطرية على أداء الحركات تلك بكل هذه البساطة والمرونة والخفة، ما أهلها لأن تحوز إعجابها بشكل سريع لتقدمها لبديعة مصابني. لم تتردد الأخيرة في ضمّها إلى فرقتها المسرحية التي انبثقت عن فرقة الريحاني المسرحية. ومن هنا كان منفذ بدوية إلى عالم المسرح والأفلام السينمائية. قدّمتها بديعة مصابني باسم "تحيّة"، ثم أضيف لقب "كاريوكا" إلى اسمها بعدما تعلّمت رقصة الكاريوكا المكسيكية وقدّمتها بالهرمونيا الشرقية ليجد الجماهير أنفسهم أمام ظاهرة فنيّة ومدرسة في الرقص الشرقي تسمى "تحيّة كاريوكا".
مع نشأة الحركة الشيوعية في مصر وجدت تحية نفسها تتقرب بشكل تلقائي نحو المهمّشين والفقراء داخل تلك التنظيمات. فقد كان لها نشاطها السياسي من خلال الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو" التي تأسست عام 1944، ثم تم اعتقالها أكثر من مرة بسبب نشاطها هذا، ولم يثنها الاعتقال عن العودة إلى العمل السياسي مرة بعد الأخرى.
قررت كاريوكا اعتزال الرقص الشرقي كمهنة في خمسينات القرن الماضي والتفرغ للتمثيل وتطوير قدراتها لتصبح أحد أشهر الوجوه السينمائية المصرية بعدها.
كما ولدت زينب خليل محفوظ في مدينة بني سويف في صعيد مصر عام 1924 وجاءت إلى القاهرة سريعاً لتنضم إلى فرقة السيدة بديعة مصابني ومن ثم أطلق عليها اسم "سامية جمال" ليصبح اسمها الفنّي في ما بعد في المسرح والسينما وملاهي الرقص.
بدأت سامية جمال في التعرف على فنون الرقص الغربي وأجادتها بشكل كبير لتمزجها بالرقص الشرقي. جاءت النتيجة برقصات أقرب لامرأة ارستقراطية تريد أن ترقص رقصة شرقية من دون أن تشبه الراقصة الشرقية الشعبية. ومن هنا جاء الشكل شبه المتضاد بين مدرستي تحية وسامية، فكاريوكا كانت تغلب عليها ميولها الفكرية في صنع قالب شرقي كامل للرقص كرقص القرية وصهر أي خبرة استعراضية أخرى داخل هذا القالب، بينما كانت سامية جمال تعمل على المزج الثنائي بين الفنّين على حد سواء لتجميل الرقصة كما تراها. ومن هنا نشأت لدينا مدرستان استعراضيتان استحوذ عليهما الوجه السينمائي الذي كان حلم فتيات هذا الزمن، وهو الفنان رشدي أباظة، الذي تزوج من كلتيهما في أوقات متفرقة.
بالطبع من خلال السيرتين، ليس المعيار في تشابه الفنانتين الخروج من فرقة بديعة مصابني ولا حتى في الزواج من رشدي أباطة. المعيار هنا أنّ الاستعراض والرقص الشرقي شأنه شأن كل شكل من أشكال الفن، معيار تقييمه هو تقديم الجديد، الابتكار، خلق مدرسة، الافادة من التجارب السابقة، ووجود الفكرة والأسلوب اللذين لم يسبق تقديمهما من قبل.
مايكل عادل
ثلاث أيقونات
ظلّ الرقص الشرقي وثيق الارتباط بذاكرة السينما المصرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى مرحلة الأفلام التجارية في الثمانينيات.
لهاليبو
نعيمة عاكف (1929 ـ 1966) الفراشة الاستعراضية، نجمة السيرك التي جعلته فضاءً لها. من السيرك أدركت الرقص الشرقي، فمنحتها تلك المعادلة الخفة والاتزان معاً. كانت تجيد الغناء والرقص والتمثيل. تعلمت قفز الحبال، كان جسدها شديد المرونة، أشبه بوتر خائف في الكمان كما يقول محمود درويش.
ولأنها الأنثى التي لم تقبل بأنصاف الحلول، فقد اكتشفها الراحل حسين فوزي وسمّاها «لهاليبو» (1949). طافت نعيمة في الشوارع وقدمت أكروبات ورقصات مميزة أبهرت علي الكسار وبديعة مصابني. طموح نعيمة كان أشبه برياضة التزحلق على الأمواج، فقد تمكنت من التحدث بثلاث لغاتٍ بطلاقة، وقادت فرقة الفنون الشعبية في أوبريت «يا ليل يا عين» للأديب يحيى حقي. انتهت حياة عاكف كفراشةٍ تهذي في جلد ثعبان. أدركها السرطان وتُوفيت عن 37 سنة.
القديسة توحة
لم تكن الرحلة بهذه البساطة. أرادت أنها تؤسس للجسد في مراحله المختلفة. الجسد هو كونٌ مصغرٌ عليك أن تدرك أبعاده. أرادت تحية كاريوكا (1919 ـ 1999) أن تكون كل رقصة لها بمثابة تظليل لمرحلة جديدة من الفن. لكن هذا التأسيس كان ينبغي له التمرد وعدم الخضوع. لم تأبه كاريوكا لنصائح بديعة مصابني، لم ترَ في كينونتها مجرد راقصة، كانت ترددُ أنا فنانة شاملة. كانت المغامرة الكبرى ربما أن تتحدى السلطانة. كانت كاريوكا تحاول باستمرار أن تنسج دائرتها الخاصة. دائرة لن يتمكن من حبكها سوى نحّات يعرفُ كيف تثقل الكتف وكيف تتزن حركة الأرداف. معادلة أشبه بقواعد «الاستاطيقا» فكل عنصر لا يجب أن يجور على حق خليله. مع عزيز عثمان، حفرت الأرض بدقات أقدامها في لحن مبهج تغلفه خفة الظلّ. يشدو عزيز «تحت الشباك ولمحتك ياجدع خدك تفاح دوقني يا جدع رمشك دباح حوشه عني يا جدع». كاريوكا هي تفاحة الغواية، كل قضمة تكفي لتؤسس لمرحلة جسد جديدة. كانت تحية (لعبة) تؤرخ من دون أن تدري لرقص العوالم. في خلفية الرقصة كانت تصدح ماري منيب: «ما تهزي يا بت»، ليتابع عبد الفتاح القصري «لعبي وسط شوية». الجملتان تضعان ببساطة شرطي الرقصة: الهزّ والوسط. نجيب الريحاني كان يرى في جسد كاريوكا «قارة مجهولة» لا يمكنك أن تدرك بسهولة أبعاده وتفاصيله. جسد يشعُ ما يكفي من النور لإضاءة قارة غير مأهولة. جسد ملكي له بريقه وجلاله الخاص. كان فيلم «لعبة الست» مع الريحاني (1946) أيقونة كاريوكا السينمائية والتجربة التي لا تُمحى من الذاكرة. ثم جاءت المرحلة التي أظهرت فيها كاريوكا سطوة الأنثى واكتمال الجسد في فيلم «شباب امرأة» مع الراحل شكري سرحان. كانت كاريوكا في محاولات مستمرة، ترقص وترفض خنوع الجسد. فالجسد الذي بدأت أزهاره تتساقط أدى رقصاته الأخيرة الأشبه بالجنائزية على أنغام شفيق جلال في «خلي بالك من زوزو».
ملكة التابلوهات
كانت الرقصة الأولى لهما في أغنية «حبيبي الأسمر» من ألحان محمد عبد الوهاب. عندها كانت كاريوكا تقول عن سامية جمال (1924 ـ 1994) «طلتها حلوة بس مش بترقص أوي». جمال هي مساحة أخرى في حلقة الرقص الشرقي في السينما المصرية. المرجانة التي تلمعُ في أعماق البحر. لكن هذه الراقصة التي أرادت السير على الماء، لم ترَ في الحذاء سوى قيد غير معلن لرقصتها الجديدة، تخلصت منه فوراً وانطلقت فوق مكعبات الرخام في كازينو بديعة مصابني، حتى أُطلق عليها لقب الراقصة الحافية. كانت لديها طاقة كامنة تريدُ تحريرها كأنها ترغب في تأسيس رقصة ما بعد حداثية تخرج عن المألوف والمعهود. كان التشابك قائماً بين السياسي والفني. وفي تلك اللحظة عام 1949 منحها الملك فارق لقب راقصة مصر. بدأت سامية جمال من دانتيلا السينما مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في فيلم «ممنوع الحب» (1942). ثم انطلقت شهرتها في سائر الأقطار العربية بعد فيلمها «حبيب العمر» (1947) مع فريد الأطرش. كانت شديدة الثقة برقصها حتى صرّحت مرة «أستطيع الرقص حتى على نشرة الأخبار».
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد