تركيا و«الاستدارة» السورية: الطبع يغلب التطبع! شريط احتلال من الإسكندرون إلى تلعفر
لم تنفع كثيراً، ولا حتى قليلاً، «المشاعر الجياشة» لكل من موسكو وطهران تنديداً بالمحاولة الانقلابية «منذ ساعاتها الأولى» في تغيير الطبع التركي، في تأكيد على ان «الطبع يغلب التطبع». لم يكن انقلاباً تركياً على ما أظهرته انقرة، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، من انفتاح على روسيا وإيران في المسألة السورية. اردوغان يرى الآن الفرصة سانحةً للتعويض عن الهزائم وتراجع المشروع بعدما وطأت قدم أول محتل تركي أرض سوريا في 24 آب الماضي.
تركيا داخل سوريا غير تركيا خارج سوريا. هذه ليست مجرد خطوة موقتة او ظرفية او تكتيكية. هذا معطى جديد وخطير. وهو جزء من خطة واسعة وكبيرة تشمل سوريا والعراق معاً، وتؤشر إلى أن سوريا دخلت مرحلة جديدة لا أحد يمكن ان يتوقع طبيعتها ونهاياتها. لكن المؤكد ان تركيا خدعت وغدرت ولدغت «المؤمنتين»، روسيا وإيران، مرتين وثلاثا وأربعا منذ بدء الأزمة السورية، رغم ان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. لكن المسألة، بتقديرنا، ليست مسألة خداع وغدر ولدغ بقدر ما هي خطأ في المنطلقات الفكرية لتحديد طبيعة التهديدات والمخاطر والأعداء، حيث يكون «العدو المؤمن» أحياناً، وربما غالباً، أكثر خطورة من «العدو العلماني والعسكري» وفي الحالة التركية بالذات.
لم تكن علاقة تركيا بسوريا والمنطقة قبل وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة جيدة، بل كانت تركيا جزءاً من التحالف الغربي مع اسرائيل ضد المنطقة. لكن العلاقة كانت من دولة إلى دولة. عندما نشأت مشكلة عبد الله اوجلان مع سوريا هددت تركيا بدخول سوريا لكنها لم تعمل على شبك علاقات مع الداخل السوري ولم تعمل على شقّ الجيش السوري، ولم تسلح مجموعات حتى تركمانية، ولم تتحدث عن تحكم أقلية علوية بالسلطة ولم تنشئ معارضات سورية في اسطنبول ولم ترفع شعار إسقاط نظام حافظ الأسد ولا ولا...
اما في عهد حزب «العدالة والتنمية» فقد تغير الحال. وعندما نشبت اولى علامات الأزمة السورية، كانت الأصابع التركية «المؤمنة» تمتد إلى الداخل السوري ولم تترك وسيلة إلا استخدمتها لإسقاط نظام بشار الأسد. دخلت تركيا إلى كل مدينة وحي ومنزل. ووضع احمد داود أوغلو امامه، ووفقاً لما قال هو بنفسه، خريطة لسوريا تظهر التوزيع المذهبي والعرقي والديني لكل قرية وحي وزقاق. هذه هي سياسة «المؤمنين» في انقرة الذين ألحقوا كل الضرر بسوريا وبالمنطقة وحرّكوا الغرائز المذهبية والعرقية وأعملوا السكين فتكاً ونحراً وتدميراً بسوريا وكل المنطقة وبصورة الإسلام عبر الدعم المطلق لـ «داعش»، بل حتى التطبيع مع إسرائيل في 26 حزيران الماضي اعتبرته صحيفة «يني شفق» الموالية لاردوغان خطوةً متقدمة لضرب النفوذ الإيراني في شرق المتوسط. بعد ذلك يأتي من يخرج من المقلب «الممانع» ويمد طوق النجاة، وهو ليس الأول، لاردوغان «المؤمن» على حساب خصومه العلمانيين.
عملية جرابلس التي بدأتها تركيا في اليوم نفسه لذكرى معركة مرج دابق لن تدعها انقرة تنتهي إلا وقد خلقت إسكندروناً ثانية وثالثة في الشمال السوري بدءاً من شمال حلب وصولا إلى تل أبيض؛ أو بمعنى آخر، توسيع اسكندرون العام 1939 لتشمل كل المناطق الواقعة إلى الشرق منها داخل سوريا، وصولاً في مرحلة اولى إلى نهر الفرات، ليكتمل الكانتون التركي الجديد بالوصول إلى الرقة و... الموصل.
لم يتأخر صاحب هذه الرؤية، رجب طيب اردوغان عن التعبير عنها بوضوح وصراحة، من دون ان يترك مجالاً للتأويل والتفسير المختلف. وفي ذلك كان اردوغان يلعب اللعبة التي غرقت فيها روسيا وإيران وبعض السوريين: تولي رئيس الحكومة بن علي يلديريم دور طبيب البنج المخدر للآخرين بتصريحات ومواقف «إيجابية»، فيما يتحضر الجرّاح اردوغان لعملية جراحية تنتهي بمفاجأة لأهل المريض باقتطاع عضو او أكثر من جسمه.
تركيا منذ بداية الأزمة السورية عام 2011 كانت تتطلع إلى خط يمتد من اللاذقية وحلب وصولاً إلى الموصل والسليمانية. هذا هو الخط الذي أعلنه صراحة قبل أن يعزل من منصبه احمد داود اوغلو. لم يعزل داود اوغلو لتحقيق تغييرات في سياسة تركيا الخارجية. منذ اللحظة الأولى قلنا إن الأمر مرتبط بأجندة داخلية لاردوغان. ما تحققه تركيا اليوم في سوريا من أهداف عسكرية وميدانية وجغرافية وديموغرافية هو ترجمة لما كان مرسوماً في عهد داود اوغلو. وما تحقق من تطبيع مع روسيا وإسرائيل بدأ في عهد الأخير، ولم يكن متبقياً سوى بعض الرتوش.
كان اردوغان يريد من عودة التطبيع مع روسيا انتعاشة في الاقتصاد الذي ترنح تحت وطأة العقوبات الروسية والتفجيرات في الداخل. أما روسيا، فكانت ملحاحةً بدورها لأنها تريد مكاسب اقتصادية عبر إنشاء المفاعل النووي في مرسين ومد خط «السيل التركي» عبر تركيا إلى أوروبا. أما الرهان على غير ذلك من قضايا، وفي مقدمها سوريا، فنوافل لا محل لها من الإعراب.
دخلت تركيا إلى جرابلس وسط غبار التصريحات الإيجابية على لسان رئيس حكومتها بن علي يلديريم ونائب رئيس حكومتها نعمان قورتولموش، ووسط غبار «التفهم» للخطوة التركية من جانب روسيا وإيران.
لقد ذهبت السكرة وجاءت الفكرة. تمكن اردوغان من تجاوز الخلاف مع اميركا بسبب المحاولة الانقلابية. نعمان قورتولموش قال إنه لا يعتقد ان واشنطن هي وراء المحاولة الانقلابية بل هناك شخص واحد وراءها هو فتح الله غولن. انقرة تبرئ واشنطن من الانقلاب فتحصل في المقابل على جائزة ترضية هي الدخول العسكري إلى سوريا. خطوة كانت تريدها تركيا منذ البداية بشرطها، وكانت اميركا تريدها، بشرطها أيضاً، فتلاقى الطرفان ليصبح الطرف الثالث، محور الممانعة، خارج لعبة «التفهم».
في العقل السياسي التركي ان الكلمة الأخيرة هي لاردوغان. لا بأس لرئيس الحكومة او وزير الخارجية ان يتسلوا. لكن كل تصريحات اردوغان عن سوريا منذ ما قبل انقلاب 15 تموز وما بعده وما بعد عملية جرابلس كانت لا تزيح قيد انملة عن الموقف العدائي لسوريا ورئيسها بشار الأسد. في 24 آب وبحضور نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، قال اردوغان إن سوريا ديموقراطية لا يمكن تحقيقها في ظل بقاء الأسد في السلطة. وفي اليوم التالي، قال اردوغان إن مسألة اللقاء بين النظام السوري وتركيا ليست موضع نقاش أبداً.
وبلغت الحقيقة الاردوغانية ذروة تجليها بسؤاله أمس الاول (الخميس) في كلمة له امام المحافظين الـ81 لتركيا: «هل سنأخذ إذناً لدخول سوريا من قاتل قتل 600 ألف إنسان؟». قال: «قالوا لنا إنه وفقاً للقانون الدولي ليس ممكناً لك ان تدخل من دون دعوة حكومة ذلك البلد. لكن لحظة من فضلكم. أعذرونا. نحن في الأساس نلبي دعوة من شعب ذلك البلد. وفي الأساس حاكم ذلك البلد ظالم. وهل سنأخذ إذناً من ذلك القاتل الذي قتل 600 ألف إنسان؟»، مضيفاً: «لا يمكن ان يحدث أي شيء في سوريا من دون موافقة تركيا».
في طريق عودته إلى تركيا من الصين، كان اردوغان يترجم مواقفه المتشددة خطوات عملية على الأرض، موسعاً دائرة التطلعات الميدانية. يقول اردوغان إن المنطقة الممتدة من الإسكندرون وصولاً إلى نهر الفرات يجب أن تكون منطقة آمنة للسوريين. وتركيا مستعدة لبناء مساكن هناك. وهو ما يذكر باقتراحه بناء مدينة للاجئين داخل سوريا على الحدود التركية تتولى تركيا تشييدها. وأيضاً اقترح ان تبنى مساكن للاجئين السوريين في تركيا على الجانب التركي من الحدود، وان يعطى هؤلاء سندات ملكية للبيوت والشقق التي ستعطى لهم. وبهذا المشروع تصبح الأرض على جانبي الحدود «وطناً» جديداً لفئة من السوريين تحميهم وتمولهم وترعاهم تركيا في تمديد لحدود تركيا إلى حيث أمكنها ذلك. «وطن» ليس سوى مستعمرة تركية جديدة في الداخل السوري يربض على قلب حلب.
ووضع اردوغان نفسه محامياً لحقوق العرب في سوريا، داعياً إلى عودة العرب الى مدينة منبج حيث يشكلون 90 ـ 95 في المئة من سكانها، فيما على بعد كيلومترات قليلة لا يزال الاسكندرون السليب يئن من نزع الهوية العربية لسكانه الأصليين.
لكن تصريحات اردوغان حملت أيضاً ما يكفي للاعتقاد ان تركيا ليس فقط لن تغادر ذلك الشريط الممتد من حلب إلى الحدود التركية ومن الإسكندرون إلى نهر الفرات، بل إن كلام اردوغان حول استعداد تركيا لمشاركة أميركا في تحرير الرقة يحمل إشارة بالغة الخطورة على مستقبل الخريطة الميدانية لسوريا لا سيما في شمالها. كذلك الإشارة إلى ضرورة إعادة العرب إلى تل أبيض وارتباط ذلك بمعركة الرقة ما يحمل معاني إضافية.
خط اللاذقية السليمانية الذي يمر بحلب، يمر أيضاً بالموصل. لم يكن عبثاً ان تضع صحيفة «يني شفق» الموالية لاردوغان عنواناً لحوار اردوغان مع الصحافيين الأتراك مرتبطاً بإشارة اردوغان إلى الموصل قائلة: «إشارة الموصل». فاردوغان قال إن بلاده مستعدة للمشاركة في تحرير الموصل التي حضرت لها كمقدمة بإقامة معسكر بعشيقة للقوات التركية إلى الشرق من الموصل وسط تخاذل بغداد التي لم تعكس عزيمة وطنية جدية في الدفاع عن السيادة العراقية.
إشارة اردوغان إلى الموصل لا تنفصل عن معركة عودة تركيا إلى أطماعها التاريخية من جهة وإلى العمل على قطع الصلة البرية او الكوريدور البري بين جبال قنديل وشمال سوريا الذي يمرّ في جبال سنجار حيث لـ «حزب العمال الكردستاني» تواجد متزايد بعدما كان العامل الرئيسي في تحرير جزء من جبال سنجار الأزيدية. من الواضح ان تركيا تعمل على شريط احتلال تركي مباشر او غير مباشر يمتد من حدود الاسكندرون وصولاً إلى الموصل مروراً بالرقة وتل ابيض وسنجار التي لا تريدها «جبل قنديل ثانياً» لـ «الكردستاني».
وفي ارتباطٍ بهذه المسألة، أي المسألة الكردية، نفتح قوسين قائلين إن من المكاسب التركية التي برزت مؤخراً هو دقّ إسفين في العلاقة بين «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي في سوريا وبين الدولة السورية، في حين أن الحزب الكردي كما الجيش السوري يحاربان تهديداً مشتركاً واحداً هو السياسة التركية في المنطقة. «حزب الاتحاد الديموقراطي» لا يمثل كل الأكراد السوريين وهو لا يدّعي ذلك. لكنه اليوم يشكل عصبهم الأساسي في الدفاع عن المناطق الكردية وغير الكردية حيث أمكن له التواجد. و«حزب الاتحاد الديموقراطي» هو شقيق لـ «حزب العمال الكردستاني». ليس في ذلك ما يخجل منه الحزبان. و «الكردستاني» عنوانٌ للنضال من اجل حقوق مغتصبة للأكراد في تركيا منذ مئة عام. وارتبط الحزب بعلاقات تحالفية مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. قادة «الكردستاني» اليوم يحفظون الوفاء لهذه العلاقة على مرّ تلك السنوات. ولا يمكن القبول ان يوصف «حزب العمال الكردستاني» في بعض المواقف السياسية السورية بأنه «إرهابي» بعد حادثة الحسكة.
الدعم الأميركي لقوات الحماية الكردية من اجل مصالح أميركية كبرى في المنطقة لا يلغي ان هناك مطالب وحقوقاً لأكراد سوريا الذين يناضلون كما ضد تركيا كذلك ضد حلفاء تركيا في الوسط الكردي أي تيار مسعود البرزاني. والمخاطب في هذه المطالب هو الدولة السورية والنظام السوري وليس واشنطن ولا أي طرف آخر.
لذا المطلوب ان يجلس الطرف الكردي بكل ألوانه، والطرف السوري الرسمي، باعتباره الجهة المخاطبة لكل السوريين، معاً. فلا مطلب الفدرالية واقعي ولا إنكار الحقوق الكردية ولا اتهامهم بأنهم يسعون إلى إنشاء إسرائيل ثانية مقبول. وعندما يقول رضا ألتون، مسؤول العلاقات الخارجية في «حزب العمال الكردستاني»، إن التعبير عن الهوية بحرية وليس الاستقلال هو مطلب الأكراد في كل مكان، فإن التوصل إلى صيغ حلول تضع الطرفين، وهما سوريان في النهاية، في خندق واحد ضد الأعداء المشتركين، سيكون سهلاً جداً ويكون من مصلحة وحدة سوريا واستقرارها وقوتها، بل يكون خطوة نموذجية لإحراج تركيا نفسها في مواجهة أكرادها هي.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد