سوسيولوجيا الهيمنة الدينية في العالم العربي
أمران لم يفارقا المخيّلة الإسلامية منذ انقطاع الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا وحتى الآن، هما الدين والسلطة. منذ حادثة السقيفة، سار كلاهما بجوار الآخر، يتقاطعان أحياناً، وينفصلان أحياناً أخرى. بيد أن تراتبية العلاقة بينهما اتخذت شكلاً مختلفاً مع تواتر السنون، وتعاقب الخبرات، فانتقل التقاطع والانفصال إلى حالٍ من الدمج والذوبان في مركب واحد، نزل بالعلاقة من مستواها النخبوي إلى الفضاء المجتمعي بمختلف طوائفه.
ومن المفارقة أن الإسلام، كديانة عالمية، لم يكن يستهدف بناء دولة، بحدودها القانونية والجغرافية، بقدر ما كان يستهدف بناء مجتمعٍ مدنيٍ «كوني» يتجاوز كل الحدود الإنسانية من جنس وعرق وقبيلة وطائفة، يمنح الكون سبب الوجود.
ولم تكن الدولة، بحسب برهان غليون في كتابه «نقد السياسة» سوى أداة لنشر الدين وتعميم العدل وتطبيق الشريعة، أي لم تكن جزءاً من الإيمان، فالجماعة هي من صنع الدين، والدولة دولة الجماعة بقدر ما هي متفقة مع الدين من حيث القيم والأحكام.
بيد أن الأمر تحول لاحقاً كي يصبح الدين أداة في خدمة الدولة، وتابعاً لها، فخُلقت دولة القهر مقابل دولة الأخلاق، وظهرت معضلة «تبرير» الحاكم الجائر والسلطان القاهر في إطار الشريعة، ومنذئذ «انزوى» الدين لمصلحة الدولة، ونزل من عليائه «الفكرية» كي يصبح مجالاً للعامة، وسياجاً لهم من جور السلطة.
بكلمات أخرى كان الدين، في عصر النبوة، محوراً للنشاط الإنساني، وذلك في مقابل انزواء الدولة (السلطة) كأداة لتمكين الدين من تحقيق رسالته العالمية. وتطور الأمر مع دول الخلافة اللاحقة إلى أن تم إحلال الدولة محل الدين، وباتت هي مركز النشاط السياسي، وصبح الدين تحت إشراف الدولة. وهو ما نثر بذور الصراع الفكري، الذي تطور لاحقاً، كي يعبر عن «المأزق» الحضاري، الذي ستدور في فلكه بعدئذ، مشاريع النهضة العربية.
وقد عرف الإسلام، شأن جميع الديانات الأخرى التي خلّصت البشرية من أسطورة «الملك الإله»، ورفعت القدسية عن البشر كي تودعها لدى إله واحد يقر الجميع بسموه وقدرته غير المحدودة على تسيير الكون. وكان للأمر أن يظل على حاله، أي أن يصبح الدين «إطاراً سوسيولوجيا» يلازم الفرد والمجتمع في كل حركاته وهمساته، ويوجه العقل الجمعي، ليس فقط للتفكير «الميتافيزيقي» في معاني العالم الآخر ومعايير الحساب، وإنما بالأساس لتحقيق المراد من الرسالة الدينية.
بيد أن الأمر قد تحول «نوعياً» مع محاولات الدمج القسري التي أجريت بين الدين والدولة، ومحاولات إخضاع الأول لهذه الأخيرة، في تحول الدين إلى نوعٍ من «الهيمنة» السوسيولوجية، التي باتت في الحال العربية أقرب إلى وعاءٍ خاوٍ، يجري ملأه وشحنه في كل مرحلة، حسبما تقتضيه رغبات الملوك، وتبرره تأويلات رجال الدين.
وتعبر سوسيولوجيا الهيمنة الدينية عن انتظام الجماعة الدينية في بناء محدد ووفق نظام عقيدي منتظم، يوجه طاقاتها باتجاه خدمة القيم والمبادئ التي جاء لأجلها هذا الدين. ذلك أن الأديان جميعها ليست مجرد نُظم من المعتقدات، ولكنها بالأساس «أنساق لتنظيم الحياة»، بحسب ماكس فيبر في «سوسيولوجيا الدين».
الآن يحيا العقل العربي، في مستوييه النخبوي والشعبوي، على سوسيولوجيا الهيمنة الدينية، يتماهى فيها طواعية، وينسحب إليها كما لو كانت «إكسير الحياة» وباعث معاني وجودها. وفي حين اضطر فيبر إلى صياغة هذا المفهوم كي يصف به تلك «التجمعات الهيروقراطية Herrschaftsverbande»، التي تمارس نوعاً من الهيمنة على أعداد من البشر، وذلك عبر مبدأين مهمين هما: الصلة الاجتماعية التي يولدها الدين كظاهرة اجتماعية، والسلطة التي يتيحها كقواعد ملزمة، فإن الخبرة العربية، على الأقل منذ الدخول في الحقبة العثمانية (1512 – 1924) وحتى الآن، تعتاش على هذه الحال من الهيمنة الدينية «اللاعقلانية».
لذا لم يكن غريباً أن يجري استحضار رمز الخلافة، بصفته نبع الهيمنة الدينية ومحركها، في جميع محاولات تأسيس الدولة الإسلامية التي تلت مرحلة الخلافة الراشدة، والتي شهدت انبلاج الصراع الضاري على السلطة الزمنية، وغطاءها الديني. وهي الحال نفسها التي دفعت السلطان سليم الأول مؤسس الدولة العثمانية، لحمل الخليفة العباسي «المتوكل» معه إلى الآستانة عام 1517، كي ينقل بوجوده مركز الخلافة العباسية إلى وريثتها الجديدة «العثمانية».
وقد شكلت سوسيولوجيا الهيمنة الدينية، ولا تزال، سداً منيعاً أمام جميع محاولات الخلاص العقلاني، التي أجريت تحت مسميات مختلفة بدءاً من مشاريع النهضة على أيدي الآباء المؤسسين الطهطاوي والتونسي ومحمد عبده، مروراً بكلاسيكيات الفكر الليبرالي على أيدي طه حسين وأحمد لطفي السيد، وانتهاء بالإسلاميين التجديديين.
وقد لعبت الدولة العربية الحديثة، من خلال تعسفها واستبدادها، دوراً مهماً في «تجذير» سوسيولوجيا الهيمنة الدينية، وبفضلها تحولت هذه الأخيرة إلى ثقافة «شعبية» وأنماط سلوكية، نسجت أثواباً كثيرة من القدسية جرى إلباسها للعديد من الأفكار والاجتهادات «الفردية»، التي باتت بمثابة «مرجعية» يجري «الهروب» إليها أوقات المحن والأزمات، وما أكثرها الآن. وجرى غرسها في بنية المجتمع العربي، إلى درجة يصعـب محـوها من ذاكرة الأمة من دون أن يتم تقليب وعيها في شكل عنيف.
ولم تكن مصادفة أن تحظى «النكبات» المادية والمعنوية، بأعلى درجات الهيمنة الدينية. ومنذ بداية القرن العشرين وإلى الآن مر العالم العربي بمراحل وأشكال لهذه الهيمنة. بدأت مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، ويمكن أن نطلق على هيمنتها لفظ «الإحيائية»، مستفيدة في ذلك من سوسيولوجيا الهيمنة الدينية التي خلفتها حادثة إلغاء الخلافة العثمانية في آذار (مارس) 1924. واستمرت هذه الهيمنة على حالها حتى حرب 1948 التي شارك فيها الإخوان بسلاحهم وعتادهم. إلى أن جاءت بعدها مرحلة «الهيمنة الصوفية» التي فك عقالها عبدالناصر، وساهم في تقوية رجالها الأزهريين، فضلاً عن «مأسسة» العمل الديني، أو انتقال الهيمنة من الهامش (الإخوان) إلى المركز (الدولة).
ثم دخلنا في عصر «الهيمنة السلفية»، التي جاءت كرد فعل لحال الانفصام المعنوي والفكري الذي خلفته نكسة 1967، وتشظت خلالها تيارات الفكر السلفي العنيف بدرجة غير متوقعة. ثم انتقلت الهيمنة إلى الإخوان مجدداً ولكن في زي مختلف، هو «البديل الإسلامي» والذي هيمن طيلة الثمانينات والتسعينات، كرد فعل على وطأة الخبرة القاسية لتيارات العنف الجهادي. أما الآن فنعيش في عصر «الهيمنة الفردية» التي تمنح القيادة لأفراد وليس لجماعات أو مؤسسات، وفيه يختلط الخيال بالواقع، فيصبح أسامة بن لادن رمزاً لكرامة الأمة، ويحتل أيمن الظواهري قمة الهرم «السوسيولوجي» الديني، ويبدو حسن نصرالله «بطل الأمة» ومحررها.
أليس غريباً أن تنطلق جُل مشاريع النهضة العربية من خلفية دينية، على الأقل لدى الأفغاني ومحمد عبده، وهما اللذان رغبا في إنهاء الهيمنة الدينية للفكر الخرافي «الاتكالي» الذي ذبح الأمة على مدار أربعة قرون؟ أليس غريباً أن تسقط معظم الأيديولوجيات القومية بمختلف مشاربها العلمانية والماركسية والليبرالية، التي سادت طيلة النصف الأول من القرن العشرين، وتبقى «الأيديولوجيا» الدينية لا يمسها لغوب؟ أم هي مصادفة أن تسقط خطابات التنوير والتحديث، ويخوّن أنصارها، وأن تعلو خطابات السلفية «الانغلاقية» والتقليد، وترتفع هامة أصحابها؟ وأليس غريباً أن يحظى كل ما هو «متأسلم» بالحفاوة والتبجيل (قارن موقف الإعلام العربي من الظاهرة الإسلامية وموقفه من غيرها)، وأن ينزوي كل ما هو «حداثي» وتجديدي؟ إنها الوصفة السحرية لسوسيولوجيا الهيمنة الدينية، التي عطلت، ولا تزال، فرص الخروج من معضلة العيش في ثنائية الدين والدولة، تلك التي حلحلها الإسلام في بواكيره الأولى.
خليل العناني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد