سوريا: اليوم الغوطة وغداً ريف حمص
يستعد السوريون لإعلان تحرير كامل الغوطة الشرقية في الأيام المقبلة. مشهد مكرّر لمأساة، سَبَّبَها مشروع فشِل في إسقاط الدولة السورية، لكنّه نجح في اقتتال السوريين وتدمير البلاد. الغوطة باتت من الماضي، والدولة السورية تضع نصب عينيها إعادة الحياة إلى أوتوستراد حمص ــ حلب، وإعادة وصل ما انقطع بين شمال البلاد وجنوبها. الرستن، تلبيسة والحولة في ريف حمص الشمالي، على موعدٍ مع عمليّة عسكرية مقبلة، ما لم يسلّم مسلحوها أنفسهم، أو يرحلوا إلى إدلب.
تأخذ الدموع خطّاً من الغبار الأدهم فوق خدّ الطفل، لتستقرّ حبّة ماء حالك في أسفل ذقنه وصوت بكائه يرتفع تدريجاً. ينهره جدّه ليسكت، فيملأ صراخه فضاء الحافلة الحمراء. يزداد الكهل انزعاجاً، فيحاول كمّ فم الولد وترك أنفه مفتوحاً. يسكت الصغير، ثمّ يبدأ الكبير بالبكاء. إنّه الاختناق. ذروة انكشاف النّفس أمام عجزها. يُرخي الجدُّ حفيده على متن الحافلة ليزحف إلى أمه، ابنته. ثم تتحوّل نوبة الأنين إلى ضحك، وهو يمسح دموعه بكوفيّةٍ صَبَغ بياضها الفحم. يُشَبِّه الهَرِم رحلته وعائلته إلى إدلب في قافلة الخارجين من حرستا في الغوطة الشرقية لدمشق، كمن ابتاع تذكرة قطار للخروج من الجحيم... إلى الجحيم.
جندي سوري، يرابط منذ سنوات على محور حرستا ـ الموارد المائية شرق العاصمة السورية دمشق. كُتبت للثلاثيني النجاة عشرات المرّات هنا من موتٍ محتوم، برصاصة قنص أو قذيفة هاون، أو حتى خنجر متسلّل من «جبهة النصرة» أو «فيلق الرحمن»، يحز عنقه وهو يحاول عبور خطّ الدفاع عن العاصمة دمشق. لم يكن الشاب يعرف أنه سيبقى جندياً إلى أجلٍ غير مسمّى وتمدّد خدمته العسكرية. كان يريد أن يستثمر أرضه ويوسّع زراعة أبيه بالفستق الحلبي والكمّون في سهل الغاب شمال محافظة حماه، أن يقبّل جبين أمه كل صباح، لا أن يغيب عنها لسنوات، ثمّ يأتيها ليودّع معها أخاه الشّهيد من جبهة أخرى قبل أن يقفل عائداً إلى جبهته، تاركاً خلفه قرية مهدّدة بالسبي.
يشعل الجندي سيجارتين، ثم يجلس قرب المسلّح على الدرجة السفلية لتنتهي الحرب بسيجارة
يدسّ الجندي رأسه داخل باب الحافلة الخلفي، والكهل قاعدٌ مكتّف على أدراجها، يؤرقه المصير ويعييه انتظار اكتمال القافلة. يخاطب «غريمه»: «ليش رايح يا عم؟ خليك هون، إعمل مصالحة وسِوِّي وضعك مع الدولة وبترجع على بيتك». الدمع كحّل عيني الخمسيني بالسّواد، والتعب قضم من عيني الجندي سواداً أعظم. «معك سيجارة؟» يسألُ الكهل. يشعل الجندي سيجارتين، ثم يجلس قربه على الدرجة السفلية. تنتهي الحرب، بسيجارة!
كَثُرَ التعصّب وقَلَّ الدين
كلّ رمزٍ في الصُّوَرِ تراجيديّ حتى العظم. سوريّون يخرجون من بيوتهم إلى المجهول، وسوريّون آخرون حائرون. أيحتفلون بخروج مسلّحين أمطروا دمشق بالقذائف والصواريخ، وكانوا يوماً ما أداةً لإسقاطها؟ أم يتألّمون على جلجلة جزء من شعبهم، دَفَعَ ودَفَّعَهُم ثمن جهلٍ وظلامٍ تاريخي؟فرضت الغوطة نفسها على الحرب السورية. منذ 2012، تحوّلت ضفاف بردى الجنوبية، إلى ورقة رابحة من أدوات الحرب على سوريا، في خاصرة دمشق. في البدء، كانت الغوطة صِمام أمان العاصمة الغذائي والتجاري. مستودع كبير للبضائع، في دوما وحرستا وعربين وجسرين وزملكا واليرموك. ومشغل ضخم من حرف الخشب والحديد وصناعة الكهربائيات والخزف الدمشقي الفاخر. أما الغذاء، فحقولٌ لا تأكلها إلا الحرب من البقول والخضر، وغابات من أغراس الفاكهة.
الغوطة عقدة اتصال جغرافية، تماماً كما حمص. من الغوطة تنسل الطرق إلى البادية، إلى الحدود الأردنية والعراقية في الشرق، وإلى الجنوب، ريف السويداء الشرقي وريف درعا الشّمالي. وتتلّوى الطرقات شمالاً، إلى أرياف حمص وحماه، وإلى الغرب، القلمون الشرقي والغربي والحدود اللبنانية ــ السورية. غابة من البلدات والمدن متراصة الأبنية، فيها ما يزيد على ثلاثة ملايين نسمة. من سطح بيت في حرستا إلى بيت في العتيبة، الطريق ليست مستحيلة.
الريف الدمشقي، كَثُرَ فيه الربح المالي والرزق التجاري وقلّ فيه العلم والمعرفة. في عربين، ثلاثمئة ألف مواطن سوري، وشعبة بكالوريا واحدة. مع انفلاش دعوة الوهابيّة بعيد احتلال العراق في 2003، كَثُر التطرّف والتعصّب وقلّ الدين. ازداد نشاط عبد الله علّوش والد زهران علّوش قائد «جيش الإسلام» سابقاً، وساعده المدعو أبو هاشم الوزير لنشر «الدعوى» بالأموال السعودية، في العتيبة وحرّان العواميد أوّلاً.شعبة بكالوريا واحدة إذاً في عربين، لكن مع عشرين مسجداً. في دوما 103 مساجد. وهكذا دواليك. اختبأ «الإخوان» في الغوطة أيضاً، منذ معركة حماه في الثمانينيات، ثمّ عادوا إلى الضوء على شكل «جيوش» من المسلحين.
كان الأمير بندر بن سلطان عارفاً بما زرع «مشايخه» في الغوطة. انتظر الحصاد في 2012: تَسقط درعا بيد «الموك»، ثمّ تُسْقِط الغوطة العاصمة، في يد «الموك» أيضاً. صمدت درعا ثم استعاد الجيش داريا، معلناً بداية نهاية المشروع. لكن ابن سلطان انزاح قبلها، وبقيت دمشق.
مرآة مقلوبةطول الانتظار أمام «البانوراما» على مدخل حرستا، عدّل في مزاج الخارجين من زملكا وعربين وحرستا عبر هذا المعبر. تمسّك الخارجون بعدائيتهم مع الجنود السوريين والروس في الساعات الأولى. لاحقاً، بدأ السوريون يكتشفون بعضهم، كأنهم يقفون للمرّة الأولى أمام مرآة... مقلوبة. عند الظهر، كانت الشمس كفيلة بإذابة أي جليد. انغمس الجنود والخارجون بالأحاديث. عتاب وتبادل اتهامات بالمسؤولية عن الحرب، ثم حنينٌ إلى «الأول»، قبل الانفجار الكبير.ينظر المسلّح الملتحي إلى الجندي. يتأمله ويده على زناد بندقيّته التي سُمح له بأخذها معه إلى إدلب، والجندي السوري لا يأبه، متابعاً محاولات إقناعه لمسلّح حليق الذقن بالبقاء و«تسوية وضعه». يلاحظ الجندي الروسي أصابع مسلّح «فيلق الرحمن»، ثم بإشارة، يوعز إليه ليزيح خنصره عن الزناد ويرفع أَمَانَ البندقية. المسلّحون مقتنعون بأن الجيش لن يسامحهم، سيُنقلون إلى المعتقلات أو تجري تصفيتهم. يفرد الجندي سلسلة المصالحات، من حماه إلى القلمون إلى خان الشيح وبيت جنّ. يبقى المسلّحون على موقفهم، حتى إن أحدهم يهدّد ويتوعّد بالعودة من إدلب إلى «فسطاط المسلمين» ومتابعة «الجهاد».
في الحافلة نفسها، رجلٌ هَرِمٌ آخر، يسخر من المسلّح: «يا ابني ضحكوا علينا كلّنا... رايحين نموت بإدلب». الكهل كان جندياً في الجيش السوري خدم في لبنان، ودخل إلى بيروت بعد معركة الحزب الاشتراكي وحركة أمل مع قوات الردع للفصل بين المتحاربين. كان يستاء من اللبنانيين، متعجّباً كيف يدمّرون بلدهم، مقتنعاً بأن السوريين لا يفعلوها. ثم يا للمفارقة! رآها بأم العين، وشارك فيها! بعد ساعة، ينزل الملتحون من الحافلة ليلقوا بثقلهم على حجارة في الفيء القليل، ويتبادلون المزاح مع الجنود السوريين ويضحكون على حالهم. قبل يومين، كانوا يتبادلون رصاص القنص، والآن يقف الجنود السوريون ليحرسوا مسلّحين يصلّون جماعة، خلف إمامٍ علّق في رقبته «كلاشينكوف»، مثل الجندي الروسي الذي يراقب المشهد من بعيد.
ثمّة اختلافات في الخلاصات بين جيلين من الخارجين. الكهلة، يردّدون أن الأمر كان مؤامرة على سوريا، على النظام وعلى الشعب، وأن الرحيل إلى إدلب سببه الخوف من انتقام الجيش. أمّا الشّبان المسلحون، فينقسمون قسمين: الأول، حملة السّلاح لا العقيدة، مستعدّون للعودة والاندماج، لكنّهم راحلون خشية عواقب البقاء وعدم الرّكون إلى طمأنات الجيش ووعود الرئيس بشّار الأسد. بينما يصرّ القسم الثاني على أن هذه جولة من الحرب، لكنّ الحرب مستمرّة لإعلاء «راية التوحيد».
أميركا تخسر الغوطة
لا يشكّ القادة العسكريون والأمنيون السوريون، في أن تحرير الغوطة هو انتزاع ورقة كبيرة من يد واشنطن. الصّراخ وتلفيق ملفّ الكيميائي، جزء من العويل على خسارة ورقة سياسية وأمنية أساسية ضد دمشق. بعد فشل مشروع إسقاط العاصمة، تحوّلت الغوطة إلى مشروع مستقبلي لفرض إدارة ذاتية على الدولة السورية، ضمن مشروع الإدارات الذاتية، من درعا إلى حمص إلى الشرق السوري والشمال.
قبل نحو شهر ونصف شهر، استغل الروس والسوريون اللحظة السياسية للتصعيد الأميركي ضد روسيا، والقصف الذي تعرّضت له قوات روسية غير نظامية في دير الزور، إلى اتخاذ قرار الحسم باستعادة كامل الغوطة الشرقية. شارك الطيران الروسي بفاعلية في ضرب «بنك أهداف» المسلّحين في الغوطة، فيما بقيت القوات الشعبية المدعومة من إيران وقوات حزب الله خارج المعركة. ومع ذلك، كان الأميركيون مستعدين لفعل أي شيء لإيقاف الهجوم، لو لم يهدّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالردّ. كانت رسالة وزارة الدفاع الروسية عبر خطوط الاتصال مع الأميركيين واضحة: القطع البحرية الأميركية في المتوسّط والخليج التي ستقصف دمشق، ستكون هدفاً للصواريخ الروسية، فتراجع الأميركيون.
ظرفٌ تكامل مع قدرة الجيش السوري على تجميع قوّات بأعداد كبيرة لتنفيذ التفاف مهم بمهاجمة الغوطة من عدة جبهات: محور حوش الضواهرة ــ الريحان، محور النشابية ومحور حرستا، مع تفعيل المشاغلة من جهة الغرب. وبالتوازي، حرّكت الدولة السورية أوراق قوتّها في الغوطة، وبدأ المرتبطون بها بتأليب الأهالي على المسلّحين، مستفيدين من ممارسات المسلّحين وجَورهم المتراكم على مدى السنوات الماضية. وهكذا كان، إعلان الأسد تحرير الغوطة الشرقية، بات مسألة وقت لا أكثر.
ماذا بعد الغوطة الشرقية؟
يكثر الكلام عن إعداد الجيش السوري لعملية عسكرية في الجنوب السوري. العملية آتية لا محالة، لكنّ أمام الدولة السورية الآن أولويتين: تطهير مخيّم اليرموك وجزء من حيّ القدم الملاصق لدمشق من إرهابيي «داعش»، وتنفيذ سيناريو الغوطة وحلب الشرقية في ريف حمص، وتحديداً في بلدات تلبيسة والرستن والحولة. المطلوب سريعاً استعادة أوتوستراد حمص ـ حلب، تمهيداً للمرحلة المقبلة.
«جيش الإسلام» إلى أين؟
«فيلق الرحمن» اسمٌ ليس على مسمّى. فلا هو فيلق، ويقل عدد مسلّحيه عن سبعة آلاف. وهو لا يملك شيئاً من صفات الرحمن. لا رحمة ولا من يرحمون. القسوة ليست على الجنود السوريين وأهالي دمشق الأبرياء فحسب، بل حتى على أهالي الغوطة. اسم النقيب المنشقّ عبد الناصر شمير أو أبو النصر، قائد «الفيلق» على كل لسان هنا. الجنود لديهم ثأر معه، وأهالي المختطفين المنتظرين قرب «البانوراما» أخبار الإفراج عن أبنائهم يطالبون برأسه أيضاً، والخارجون يروون كيف كان يسرق ولفيفه مساعدات الهلال الأحمر والأمم المتحدة، ثم يبيعهم إياها بأسعار خيالية. ألف وخمسمئة ليرة ثمن كاسة سكّر، أو كاسة زيت. 16 ألف ليرة ثمن كيلو أرزّ. سيجارة بألف ليرة... بعدها، اقتنع الأهالي بأن التدخين حرام... عليهم، لا على مسلّحي «الفيلق». مثله مثل «جيش الإسلام»، الذي حوّل دوما إلى إمارة إسلامية، مع سجون من القرون الوسطى، تضمّ نحو 3500 مختطف من عدرا العماليّة، غالبيتهم من النساء والأطفال، ومن الضباط والجنود السوريين، اشتراهم «آل علّوش» من الفصائل المسلحة الأخرى، كـ«الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام» و«لواء فجر الأمة».
يتوقّع المعنيون هنا، أن تقفل نهاية هذا الأسبوع على خروج نحو 30000 شخص، بينهم نحو عشرة آلاف مسلّح (2000 من جبهة النصرة و6500 من الفيلق) من زملكا وعربين وعين ترما وحرستا وجوبر، ويستكمل دخول الجيش إلى هذه البقع. أمّا دوما، فالمفاوضات مع الروس متوقّفة على أمرين: الأموال الضخمة من العملة الصعبة التي يطالب المسلحون بإخراجها معهم، والبقعة المتاحة لخروج «جيش الإسلام» إليها. وهذا «الجيش» ليس جيشاً للإسلام مطلقاً، بل للسعودية، التي لا تزال تموله حتى اللحظة، كما لا تزال قطر حتى أمس، تموّل «فيلق الرحمن» و«جبهة النصرة» في الغوطة. وبحسب مصادر سورية معنيّة رفيعة المستوى، فإن طلب محمد علّوش انتقال مسلّحيه إلى الجنوب السوري مرفوض سوريّاً، والوجهة الوحيدة المتاهة إلى الشمال، إدلب أو جرابلس. نقطة ثانية يجري بحثها، إمكانية الانتقال إلى القلمون الشرقي، أو إلى ريف دير الزور، للانضمام إلى القوات «العربية» التي تدرّبها الولايات المتّحدة الأميركية لتثبيت احتلالها للشرق السوري. خيار القلمون الشرقي وارد بحالٍ واحدة، أن يشنّ الجيش السوري حملة عسكرية لتطهير القلمون، في اليوم التالي لانتقال «جيش الإسلام» إليه، الجيش لن يترك ثلاثة مطارات عسكرية رئيسية في البلاد تحت تهديد إرهابيين مرتبطين بالسعودية. أما الخيار الأخير، فهو تفكيك «جيش الإسلام» في دوما وتسليم مسلّحيه أنفسهم للجيش.
فراس الشوفي - الأخبار
إضافة تعليق جديد