فرنسا لا تتخلّى عن «الكعكة»: «أمن قومي» وحلم بنفوذ مستقبلي
لم تتأخّر فرنسا في إعلان نيّتها «مواصلة الالتزام العسكري في سوريا»، من دون أن يُشكّل قرار الولايات المتحدة سحب قوّاتها حافزاً لسلوك فرنسيّ مشابه. وعلى العكس من ذلك، يبدو مرجّحاً سعي باريس إلى البحث عن نفوذ أكبر «شرق الفرات» في المراحل المقبلة. وفي مؤشر لافت، أفادت مصادر سوريّة كرديّة أمس بأنّ «الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيلتقي وفداً قياديّاً من مجلس سوريا الديموقراطيّة» اليوم الجمعة.
وقبل الكشف عن القرار الأميركي المفاجئ، كانت فرنسا قد زادت بالفعل حجم انخراطها العسكري في سوريا، لا لجهة العديد والعتاد، بل لجهة كثافة النشاط الحربي. ولعبت طائرات «رافال» دوراً أساسيّاً في تقديم الغطاء الجوي لـ«قوّات سوريا الديموقراطيّة» في معارك «هجين» التي تُعدّ «الجيب الأخير والأوضح» لتنظيم «داعش»، على حدّ تعبير قائد القاعدة العسكريّة الفرنسيّة في الأردن. وقبل أيام قليلة كانت شبكة «France Info» الفرنسية الرسميّة تنقل عن قائد القاعدة تأكيده أنّ «داعش لا يزال موجوداً في مكان آخر تحت الأرض». وشكّلت القاعدة التي يُشار إليها باسم «H5» مُنطلقاً للمشاركة الفرنسيّة الجويّة تحت راية «التحالف الدولي» منذ العام 2014. وحتى نهاية العام 2017 كانت الطائرات الفرنسيّة قد نفّذت قرابة 4500 طلعة جويّة فوق كلّ من سوريا والعراق. ومن القاعدة نفسها أكّد رئيس أركان الجيش فرانسوا ليكينتر في مطلع العام الحالي أنّ بلاده «تستعدّ لمرحلة ما بعد داعش في بلاد الشام»، وأنّه بصدد «وضع مقترحات على طاولة الرئيس (إيمانويل ماكرون)» في هذا الشأن. في شباط الماضي، دافع ليكينتر عن وجهة نظره في جلسة استماع مغلقة أمام أعضاء «لجنة الدفاع والقوات المسلحة» في «الجمعية الوطنيّة».
وشدّد على أنّ «هزيمة داعش لن تكون كافية لإحلال السلام». وعلى امتداد العام الحالي، زاد الفرنسيّون تدريجيّاً دعمهم العسكري واللوجيستي لـ«قسد»، في مقابل تقديم الأخيرة «خدمة كُبرى» قوامُها الاستمرار في احتجاز عائلات «الجهاديين» الفرنسيين في مخيّمات أُقيمت لهذا الشأن، وبحضور أمني فرنسي دائم. ويُشكّل هذا الملفّ هاجساً فرنسيّاً استثنائيّاً (وأوروبيّاً بالعموم). وحتى اليوم، لم يصل الفرنسيّون إلى خاتمة «معقولة» لملف «الجهاديين» الذين كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» أو عائلاتهم. وما زالت أعداد كبيرة من هؤلاء تقبع في «مخيّمات» شرق الفرات، بينما تحتدم نقاشات داخل فرنسا حول «قانونيّة هذا الوضع»، وتتصاعد أصوات حقوقيّة تُنادي بوجوب عودتهم والعمل على «إعادة تأهيل القاصرين منهم» ومحاكمة ذويهم. وتشير تقديرات صحافية فرنسيّة في الوقت الرّاهن إلى وجود حوالى 120 من أبناء «الجهاديين» الفرنسيين في معسكرات «قسد» (يزداد العدد إلى حوالى 400 أوروبي بين زوجات «الجهاديين» وأبنائهن). وتبدو السلطات الفرنسيّة راضية عن هذا الوضع، لا سيّما أنّ عدد «الجهاديين» الفرنسيين الذين عادوا إلى بلادهم (من العراق وسوريا) في خلال العام 2018 لم يتجاوز حتى منتصف أيلول الماضي ستة فقط! أما عدد العائدين في خلال السنوات الثلاث الماضية فيقدّر بـ260 فقط من أصل قرابة 1700 جاؤوا لـ«الجهاد»! ووفقاً للتقديرات، فقد قتل ما لا يقل عن 300، وتم اعتقال عشرات مع عائلاتهم من قبل القوات العراقية أو «قسد»، فيما تفرّق قرابة ألف «جهادي» فرنسي بين جبهات مختلفة في سوريا (ووصل بعضهم إلى أفغانستان وليبيا). وفي إشادة غير مباشرة بهذا الوضع، يعزو «رئيس مركز تحليل الإرهاب في باريس»، جان شارل بريزار، عدد العائدين القليل إلى «الإجراءات المتخذة من قبل التحالف في الحرب ضد داعش». وعلى أهميّة الملف «الجهادي»، فإنّ ثمة دوافع أخرى قد تُغري الفرنسيين بزيادة انخراطهم في مناطق سيطرة «قسد»، وهي دوافع تتعلّق بالنفوذ المستقبلي في الدرجة الأولى.
ومنذ مطلع العام 2017 اهتمّت باريس بالبحث عن «مكانة فرنسا في النزاع بعد سقوط حلب»، ولهذه الغاية رسمت مذكّرة سرّية أعدّها «مركز الدراسات والتوقعات والاستراتيجية CAPS» ملامح السياسات الفرنسيّة الواجب اتباعها في الملف السوري. كانت قد حذّرت من مغبّة أي «اتفاق سياسي يعيد سلطة النظام على كامل الجغرافيا». وينبع التحذير من أنّ روح «الاستراتيجية» الموصى بها تقوم على «دعم الإدارة المدنية في المناطق الخارجة عن سلطة دمشق» ودفع الأوروبيين إلى «تمويل مساعدة وإعادة إعمار المناطق المحررّة»، بما فيها تلك التي تخضع لسيطرة «الفصائل الإسلامية». اللافت أنّ المذكرة نصحت منذ ذلك الوقت بإجراء تقييم لنوايا أنقرة، وطمأنتها.
هل تكون فرنسا مستعدة اليوم لنسف المسار التطميني مع حليفتها «الأطلسيّة»؟ أم أنّها ستبحث عن «حلول وسطى» لتغضّ النظر عن أي هجوم تركي في عمق محدّد من الأراضي السورية، وفي الوقت نفسه تزيد دعمها لـ«قسد» بعيداً من هذا الشريط؟ لن يطول انتظار الأجوبة.
صهيب عنجريني -الأخبار
إضافة تعليق جديد