الدين كما رآه ألبرت آينشتاين: نحو رؤية عقلانية للمعتقد الكوني

06-11-2020

الدين كما رآه ألبرت آينشتاين: نحو رؤية عقلانية للمعتقد الكوني

Image
 كما رأه ألبرت آينشتاين نحو رؤية عقلانية للمعتقد الكوني

ألبرت آينشتاين العظيم في ميدانه و المُشبع بالفيزياء الكونيّة، ونسبيّته العامة والخاصّة، يرتبط به كل ما هو غامض ومثير وممتع: الزمن، الثقوب السوداء، الضوء، الأبعاد الأربعة، وحتى الخيال العلمي أو التنبؤات بما فيها السفر عبر الزمن، صار شكل شعره الفوضوي أيقونة العلماء والعباقرة وبصمة مميزة نلصقها بأي صديق أو غريب حين نلمس ولو جزء صغير من مظهر هذا العبقري حاضرًا فيه.

ولد ألبرت آينشتاين في ميونيخ بألمانيا من زوجين يهوديِّين علمانيِّين فضلًا أن لا يكونا من التقليديِّين والمتمسكين بطقوسية الدين، الشيء الذي جعله متفتح الذهن والفكر، حرًا في الاطلاع على كل ما يخطر له، حيث قرأ الكثير من الكتب وتأثّر بعدة فلاسفة منهم: إيمانويل كانط* [1724 – 1804] و ديفيد هيوم* [1711 – 1767] وآخرهم الأكثر تأثيرًا باروخ سبينوزا* [1632 – 1677]. وعلى الرغم من علمانيّة والديه فقد أحضرا له مدّرسًا يدرسه الديانة اليهوديّة إلى جانب دراسته المسيحيّة في صفوف مدرسته، كما نضيف تعلّمه الموسيقى التي كان يجلّها ويعطيها مع الفن أهمية كبرى في الحياة.

ادّعت مايا وهي أخته أنّه تبنى نظرته الدينيّة بسبب تأثره بدروس الأستاذ الذي أحضره له والداه، والذي علمه أمور الدين، أما أحد كتاب سيرته الذاتيّة فقد قال أنّ تأمّل جمال الطبيعة والموسيقى هو ما جعله يسلك هذا الطريق.


لكنّ بغض النظر عن ذلك فإنّ آينتشتاين تشرّب من عدة مجالات أسّست فكره العلميّ والفلسفيّ مع الدينيّ رغم انتمائه للمجتمعات اليهوديّة، فهو يقول: “أنا لست يهوديًا بالمعنى الديني، ولكن هويتي الثقافية هي اليهوديّة”.

-الإله:

لقد كان تصوّر ألبرت آينشتاين عن الإله تصورًا يشوبه التعقيد والغموض والاختلاف، غير أن أهم شأن يجدر بنا ذكره هو أنه تجنّب نفي وجوده أو إلحاده به وقد تحدّث عن الأمر عدة مرات، وقال أنّه مؤمن به لكن بطريقة خاصّة ومغايرة عما يؤمن به المتديّن، كما صنّف نفسه مرة على أنه لا أدريّ ولا نعرف إذا ما كان يقصد باللّاأدري في عدم اتّخاذ موقف من وجود إله أو أنه قصد بذلك عدم استطاعته تفسير الإله على نحو مطلق كما قالها مرارًا و تكرارًا.


حين سأله الشاعر جورج سيلفستر* [1884 – 1962] عما إذا كان يؤمن بإله أجابه قائلاً : “لست ملحدًا فالمسألة المطروحة أكبر من أن تستوعبها عقولنا، نحن نقف في موقف الطفل الصغير الذي يدخل مكتبة ضخمة مملوءة بكتب مكتوبة بلغات عديدة، يعرف الطفل أنّ لابد أن شخصًا ما كتب هذه الكتب ولكنه لا يعرف كيف”. 

أما ما صرّح به حول مسألة الإدِّعاء المطلق بعدم وجود إله فهو: “كانوا يأخذون أفكاري لدعم مثل هذه الآراء، إنّ الذي يفصلني أكثر عن هؤلاء الذين يدّعون أنهم ملاحدة هو ذلك الشعور الذي ينم عن التواضع نحو الأسرار التي لا يمكن التوصل إليها حول تناغم الكون”. 


ويقول أيضا في حديثه عن عدم قدرة تفسيره الإله أو وصفه: “إنّني أرى الساعة لكنّي لا أستطيع أن أتخيّل صانع الساعة وإنّ عقل الإنسان لا يستطيع تصوُّر أربعة أبعاد فكيف يستطيع أن يتصوَّر الله” ، و كذلك: “إنّ تديني يحتوي على إعجاب متواضع بروح عليا لا نهائية تفصح عن نفسها بالشأن اليسير الذي بوسعنا إدراكه عن العالم”.

لم يكن آينشتاين يؤمن بإله له صفات بشرية كما آمنت به المعتقدات القديمة التي كانت في حضارة مصر والإغريق والرافدين، ولا الإله الذي تجسِّده الأديان المتعالي والقادر والحكيم، يخلق، يقرِّر، ويحكم، ويعاقب، بل على عكس ذلك فإنّ آينشتاين قد تصوَّر الإله كقوّة أو روح عُليا تسري في الكون، وأنّ العالم بأكمله هو إلهي، والإله حاضر فيه وغير منفصل، وهذا ما تقرّه به وحدة الوجود الذي رآها سبينوزا معتقده المناسب، وكما قلنا قبلاً فقد تأثّر آينشتاين بسبينوزا. كما أضاف أنّه يؤمن بإلهه، يقول أينتشاين: “أنا مفتون بوجهة نظر سبينوزا المتعلقة بوحدة الوجود”. 


إن إله آينتشاين يمكن معرفته من خلاله نظامه، وتأمّل العالم ومحاولة فكّ غموضه، لكن مع ذلك فلا يمكن تصور الإله ولا معرفته على وجه اليقين، غير أن الوحي زائد فيكفي أن نعرفه من خلال التناسق الموجود في الطبيعة لأن الطبيعة والإله هما شيء واحد.


-الأديان:

لم ينكر ألبرت آينشتاين فضل الأديان والحسّ الديني كما لم ينقدها بشكل مطلق من جانب إنكاري واحد فقد كان موضوعيًّا في طرحه، لقد اعترف أنّه معجب بشخصيّة المسيح كما يصف المسيحيّة بأنّها الطريق الصحيح أو المفتاح لتحقيق السلام والحياة المستقيمة لو نُفذت إصلاحات أكثر أو فصل الأساقفة فيها، فآينشتاين لم يكن يحبّذ كثيرًا الدين المؤسَّساتي أي الدين الذي تمثله وتحرص على رعايته وتتحكم به الكنائس، والمعابد، وشخصيّات دينيّة لها السلطة، كما أنّه لم يكن يحبّذ تأدية الطقوس والعبادات التي كان يراها غير ضروريّة ولا تنم عن الحقيقة.

 إنّه يصف اليهوديّة بالديانة العقلانيّة المحاربة للأساطير، وكذا الأخلاقيّة المحبة، والمقدِّسة للحياة والعدالة، وأنّه لا يوجد فيها ما هو صوفيّ أو غير ماديّ في شكلها المستقيم (باستثناء المذاهب الصوفية)، فاليهوديّة ديانة تطلب من اليهوديّ أن يعيش واقعه الحقيقي، كما يراها جنبًا إلى جنب مع المسيحيّة، طريق تنظيم المجتمع والتخلص من مشاكله، ولا شك أنه كان متعلّق بعدّة أمور فيها رغم طريقه الفكريّ المنفتح بما في ذلك عدم أكل لحم الخنزير أو الإيمان بأرض الوعد أين ساند فيه الصهيونيّة بشغف.


لقد أبدى رأيه كذلك في كتاب تحت عنوان (لا يوجد إله) والذي استنتج تناقض الدين والعلم وخرافة الإله برأيٍ اختصره، يقول: علم دون دين هو أعرج ودين دون علم أعمى” 

وإذا كان سبينوزا يفصل بين الدين والعقل ورافض لمحاولات اليهودي موسى بن ميمون* [1135 – 1204] الذي وفّق بينهما حيث يقول : فمن يريد إخضاع العقل والفلسفة للّاهوت فلا بد له من التسليم بالأحكام المسبقة للعامة في العصور القديمة على أنها أمور إلهية “ 

فإنّ آينتشاين هنا كان معجباً بهذا الأخير (موسى بن ميمون)، كما أنّه ربط بين الدين والعلم بل وقال في أحد مقابلاته أن العلم يأتي من حسّ ديني عميق ونشاط عقلانيّ وديانة غريزيّة.

و حين نقول الحس الديني معناه كل ما هو الهيّ، روحانيّ، تأمليّ وجوديّ وعاطفيّ، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نلمس حقيقة كون آينشتاين من أنصار النظرية الدينيّة الطبيعيّة التي كانت تؤمن بفطرة الدين الموجودة في الإنسان منذ وجوده كما قال بذلك عدة فلاسفة و باحثين مثل جان جاك روسو* [ 1712 – 1778 ] و فيلهم شميدت* [ 1812 – 1887 ] كما كان آينشتاين يؤمن بالدين الكونيّ الصحيح الذي لا يفرّق عن المعرفة العقلانيّة بالعالم، والذي يأتي ليس من خوف أو إيمان أعمى وسلوكات طقوسيّة فارغة بل من جهاد علميّ وعقليّ وفنيّ، فالفنون من بين الأمور المهمة في تحقيق المعرفة والحقيقة.

-تفسير نشوء الأديان:

يفسّر ألبرت آينشتاين الدين حسب ثلاثة مراحل مر بها:

أوّلها هي مرحلة الخوف كما آمن به سبينوزا على أنه مصدر الخرافات، وإنّ أينتشاين بذلك يصادق على عدة فرضيات تفسّر الدين عن طريق الخوف والرهبة مثل النظرية الطبيعيّة لـفرانك جيوفنس* [1858 -1936] التي تقول أن الرهبة من الظواهر الطبيعة جعلت الإنسان يدين بالدين، أو نظريّة مالينوفسكي*[1884-1942] العاطفية التي تؤسس لقيام الدين إلى الخوف والطمع. 

حيث يقول عالمنا الفيزيائي “إنّ الخوف الذي يعيشه البدائي هو وقبل كل شيء آخر، الذي يحرض الأفكار الدينيّة وينميها كالخوف من الجوع والحيوانات الضارية والمرض والموت” 

أما ثانيها أيّ المرحلة الثانية فهي تتعلق بالأخلاق والمجتمعات الإنسانيّة، وبذلك هو يقارب من بعض الفرضيات التي تدرس نشوء الدين عن طريق عبادة الأسلاف أو خلق الإله من فكرة الأبوة والبنوة.

“هناك مصدر ثاني للبنية الدينيّة ألا وهي العواطف الاجتماعيّة ، أب أم ، زعيم ، مجموعة بشريّة هم موتى .. إنّ التوق الشديد للحب، العون المساعدة للقيادة هي عواطف تستدعي إيجاد فكرة الإله الإجتماعيّ الأخلاقيّ” 

وكلا الديانات البدائيّة تتشارك في فكرة الخوف، والأخلاق، والحسّ الاجتماعيّ، كما تجعل الإله متعاليًا عن البشر والعالم.

أما ثالث مرحلة فهي الديانة الكونيّة كما يسميها، وهي التأمّل في الكون والشعور بجماله والدهشة منه، مع استعمال العقل، وهي روحية عقلانية أكثر من أي أمر آخر، وهذه المرحلة تختلف كل الاختلاف عن المراحل السابقة البسيطة، كما لا يصل إليها الكثيرون، بل القليلون فقط الذين تعرضوا لحملات بشعة من التكفير والأذيّة من أصحاب البساطة. إنّ الدهشة من الكون ومن غموضه أيضا، وقد كرَّر أينتشاين هذه الصفة عدة مرات -أي غموض الكون- هو سبيل إلى هذا الأخير.


يقول في ذلك “هناك درجة ثالثة للحياة الدينيّة رغم ندرتها … أسميها الديانة الكونيّة، من الصعوبة بمكان فهم هذه الديانة لمن لا يشعر بها في أعماقه، ذلك لأنّ صورة الله التي لا تشبه الإنسان لا تنطبق وهذه الديانة “. 

ولعل القارئ سيستشعر بتناقض الربط بين تفسيره للأديان عن طريق الخوف مثلًا وكأنّها مستحدثة، واعتقاده من جهة بفطرية ومكمن الدين فينا الذي تحدثنا عنه سابقًا، لذا وجب الشرح أنّ آينشتاين هنا يتحدث عن الدين ليس في شكله التقليديّ أو الساذج، بل العمق الدينيّ والحقيقيّ الذي يوجد فينا منذ البدء والذي يمكن أن يصل إليه المرء بعدة طرق حتى لو كانت شاذة كالخوف ويزيد عليه أو يعدل جوهره.


كما يبدي آينشتاين رأيه في الأخلاق بمعزل عن التفسّير الديني فهو يقول عن الأخلاق أنّها لا تؤسس من قبل العلم والبحث العلميّ ولا حتى من الإله “فليس ثمة ألوهية في الأخلاق، فالأخلاق هي أمور إنسانية صرفة ليست إلهية”.و إنّها تخلق فينا عن طريق العواطف والمشاعر والعلاقات الاجتماعية بين بعضنا البعض وكذلك التعليم والتربية.

-الجمال والحتمية :

لقد كان الجمال عند عدة فلاسفة ليس موضوعًا في ذاته أو صفة موجودة في الطبيعة، بل هو من انطباع الإنسان المراقب في العالم وما يراه هو حيث يقول سبينوزا: “الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذلك الشيء” ، وكذلك يقول ديكارت* [ 1596 – 1650 ] الذي تأثر به هذا الأخير: “لا يدل الجميل ولا البهيج على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلَم عنه”.

وذهابا لعكس تناول موضوع الجمال السابق، يقول آيرون شرودنغر*[1887-1961] عن نظرية آينشتاين: “إنّ نظريّة آينتشاين المذهلة في الجاذبية لا يتأتى اكتشافها إلا لعبقري رزق احساسًا عميقًا ببساطة الأفكار وجمالها”.

كما يصف آينتشاين نظرياته بالنظريّة الساحرة كذلك إذ يقول: “لا يكاد أحد يفهم هذه النظرية تمام الفهم ويفلت من سحرها “. 

فآينتشتاين هذه المرة يخالف اعتقاد سبينوزا ويرى أن الجمال حقيقة في الطبيعة، كما يعتقد بأنّ إحساس الفرد بالجمال هو ما يساعده في تحقيق الغايات السامية التي نطمح لها في الحياة، ناهيك عما قلناه في البداية حول زعم كاتب سيرته أنّ جمال الطبيعة هو ما جعل آينتشاين يسلك طريقه في الفكر والشعور الدينيّ.


وإنّ التفكير في الجمال وتناسقه وروعته قد يجرُّ ذهن الشخص مباشرة إلى الغائية، ونحن لسنا هنا لتحليلها، والتعريف بأنواعها، وبداياتها، وصلاتها بفلسفات وعقائد أخرى، فذلك يعقد الأمر ويشذ عن سياق كلامنا، لكن بكل تبسيط وتقريب في شكلها البديهي فإن الغائية تقول أنّ كل ما في العالم من اتسّاق في الطبيعة والكون من وظائف الكائنات والظواهر والسلوكات تسمح لها بالبقاء أو التشّكل، هي مصممة  ومخططة لأجل غايات محددة ولا يمكن أن تكون من دون فائدة أو من عشوائيات، فتصميم العالم يتناسب مع الجمال الذي كان يؤمن به آينشتاين، غير أنّه لم يكن يؤمن بالغائية أو أنواعها الدينيّة والفلسفيّة التي تجعل للكون بداية أساسها الإله المّشَّخص الذي يخلق كل نظام لأجل هدف محدّد ولأجلنا أيضًا، بل لقد رفض حتى بداية الكون كما أثبتته نظرية الانفجار العظيم. وسبينوزا كذلك رافض وناقد للغائيّة حيث يقول: “إنّ الطبيعة لا تعمل مستهدفة غاية ما لأنّ الكائن الأزلي اللامتناهي الذي ندعوه الإله يعمل بالضرورة نفسها التي وجد بواسطتها أي أن سبب أو علّة وجود الإله وسبب فعله هما شيء واحد”.

إنّ الإله حسب سبينوزا ليس كائن مُشَّخص يخلق العالم، بل إنه هو نفسه يتجلى في كل نظام العالم ومحكوم بالعلّة والمعلول والضرورة.

غير أن آينتشاين مدح تناسق العالم وقوانينه التي رآها جميلة والتي تعترف بها الغائية حيث يقول: “لو كنت إلها لقمت بترتيب العالم على النحو نفسه الذي نراه الآن”.

وكل هذا يتماشى مع الحتميّة وليس كما يفكر فيه المؤمنين بالغائيّة الإلهية المتديِّنة إذا شئنا تسميتها بذلك، في وجود إله خلق العالم فجأة لأجل أهداف معيّنة وأجل البشر، فالحتميّة ضرورة تسري على الجميع عند سبينوزا بما فيه الإله نفسه الذي يتماهى مع الطبيعة وينسّق العالم ويناغمه، الشيء الذي يعتقده آينتشاين.

إنّ الحتميّة تقول أن جميع الأحداث الطبيعيّة، والحوادث، والأفعال بما فيها الإنسانيّة والحيوانيّة في مجالات اجتماعيّة نفسيّة هي خارجة عن مشيئة الإنسان والمخلوقات وقد حدثت بفعل مسببات تؤدي إلى النتائج نفسها التي يمكن توقعها وأنّ جميع الأفعال تخضع للأحداث ولا تفسَّر إلا عن طريق البيانات الخارجيّة. لقد كان سبينوزا يعتقد أنّ العالم يسير بشكل ميكانيكيّ رياضيّ كما اعتقد العديد من الفلاسفة.

يقول آينتشاين والذي كان رافضا للصدفة والعشوائيّة حد رفضه لميكانيكيا الكم التي تلعب العشوائية دورًا هاما فيها: “لا علم من دون الاعتقاد بوجود تناسق داخليّ في الكون”. 

وكذلك يخاطب وجداننا قائلًا: “نحن نرى الكون مرتبًا في غاية الروعة ويخضع لقوانين معيّنة، ولكن لا ندرك حقيقة هذه القوانين إلاّ على نحو غامض، لأنّ عقولنا محدودة، ولا نستوعب إلا القوى الخفيّة التي تحرك مجموعة النجوم”. 

إنّ الجمال عند آينشتاين موجود في عالمنا وليس بالأمر الواهم أو مجرد انطباعات وشعور بوجوده، بل هو حقيقة فعليّة، كما أنّ العالم يحتم على الكائنات الحية -بما فيها نحن- أفعالها ومسيرتها.

-السببيّة و العناية الإلهيّة:

إن السببيّة أو العلّيّة هي علاقة بين شيئين يقوم الأول بإحداث الشيء الثاني، وذلك يعني أن لكل شيء سبب، وكل الحوادث هي حلقة متسلسلة من المسببات، وهناك من يستعمل هذا المفهوم فيما يقابل الدليل الكوسمولوجي -أي كون استحالة بقاء هذه السلسلة إلى ما لا نهاية-، بالتالي فإن الله هو سببها  ومحركها الأول -أي أنه علّة المعلولات-، وقد كان سبينوزا يؤمن بذلك في إطار مذهب وحدة الوجود، وأن الله والطبيعة معًا يمثلان الجوهر.

كما قد دافع ألبرت آينشتاين عن السببيّة قائلا: “إنّ الإنسان الذي على قناعة تامة بالعملية الشمولية لقانون العلّيّة يجب أن لا يتوقف أبدًا عند فكرة من الذي يتدخل في مسار الأحداث بشرط وبكل تأكيد أن يأخذ بفرضية السببية بجدية تامة”.


ومفاد الكلام أنّ الشخص الذي يؤمن بالسببيّة من المستحيل عليه الإيمان بالعناية الإلهيّة أو تدخل الله  ومعجزاته، وهذا ما كان يؤمن به آينتشاين، بالتالي فإنّ دين الخوف والأخلاق سيزول ليحل محلها الدين الكونيّ إذا تبنى الإنسان السببية وبذلك فإن العناية الإلهيّة من أسبابها المرحلة الثانية التي تحدّث عنها في تفسير الأديان.

فمن الواضح أنّ آينتشتاين لم يكن يؤمن بالعناية الإلهيّة تلك التي تقول أن الله يتدخل في مسار التاريخ  وهو بطله حيث يجازي ويعاقب الإنسان، ويتدخل في الأحداث التاريخية، ويسلّط الكوارث على الأشرار، ويجعل النصر من حظ الأبرار، كما كانت تعتقده الأديان الإبراهيمية، والمعتقدات قبلها حيث يقول في ذلك: “لا أستطيع تخيّل إله شخصيًا يتدخل بصورة مباشرة في عالم البشر أو يقوم بمقام الحاكم على المخلوقات التي خلقها”.

وإليكم كذلك هاتين العبارتين: “إنّ الله الذي يجزي ويعاقب لن يكون له مكان محدد لسبب بسيط جدًا وهو أن أفعال الإنسان محددة بالضرورة”. 

“إنّ الإنسان المقتنع تمامًا بالعمليات الكونية لقانون العلية قد لا يخامره الشكّ في أي لحظة حول فكرة كائن يقحم نفسه في مسار الأحداث”.

لقد رفض آينتشاين مسألة العنايّة بكل وضوح بما فيها من معجزات كذلك يتدخل فيها الله كبطل خارق إلى جانب الوحي أو تكليم الأنبياء والبشر مع قيادة الأمم مثل شعب بني إسرائيل، أهل أورشليم والأممين، أو عرب الجزيرة؛ فكل ما له صله بهذا الأمر كان قد رفضه والسببيّة مع الحتميّة هما أكبر دليلين على بطلانها أيضًا.

-الإرادة الحرّة والريبيّة:

إن إيمان ألبرت آينشتاين بالحتمية والسببية معًا جعله يرفض حقيقة كون الإرادة الحرّة موجودة، الشيء الذي كان يرفضه ملهمه السبينوزي كذلك، حيث يقول عالمنا: “لا أعتقد إطلاقًا بالحرية الإنسانية من وجهة نظر فلسفيّة، كل فعل يقوم به الفرد ناجم عن قوّة خارجيّة ولكن وفقًا لضرورة داخلية”. 

فإنّ آينتشتاين يعتقد أنّ الإنسان محكوم بالحتميّة والجبريّة التي تسير الكون بما فيه نحن، وبناءً على هذا الأخير فإنّ الإنسان ليس حرًا في أفعاله، بل هو محكوم بالضرورة، وكل شيء يفعله له تفسير ومؤثر أيضًا، بالتالي فعقاب الله للإنسان المُفتعِل من خلال أكذوبة حريّة الإرادة هو شأن فاسد ومختلق كما يستشهد بشوبنهاور* [1788-1860] الذي كان يقول أنّ الانسان يفعل ما يشاء لكن ليس كل ما يشاء، “إن الجنس البشري في تفكيرهم وشعورهم وأفعالهم ليست حرّة اطلاقا بل هي خاضعة لرابطة السببيّة كما هو الوضع مع الأجرام السماوية في تحركاتها”. 

ويقول أيضا في حديثه عن الإرادة الحرة: “أعلم فلسفيًا أن المجرم ليس مسؤولاً عن جريمته لكن أفضل أن لا أحتسي الشاي معه” 

وذهابًا للريبية، فإن الريبية مذهب فلسفي إغريقي بدأ منذ القرن الرابع ق.م على يد بيرون الإيلي، حيث كان قائمًا على ممارسة الشك والتشكّك من كل أمر، وإنّنا بذلك لا نجعل من أينتشتاين يتخذ هذا المذهب بل هو مجرد إيحاء على منهجه الشكّيّ الذي رافقه طيلة حياته بداية من قراءته لكتب غيره في العديد من المجالات، الأمر الذي أوصله لزاوية نظره الدينية تلك التي ترفض عدة اتجاهات وتؤمن بأخرى أو تُحوِّر  وتغيّر من شأن معيّن، معيدة تشكيله بما يناسبه. يقول آينتشاين: “سرعان ما توصلت بصورة خاصة إلى أنّ القصص الواردة في الإنجيل غير صحيحة، تطور عندي على نحو ما الشك، الشك في كل الممارسات التي تقوم بها السلطة، وهو الموقف الذي ظل ملازما معي طول حياتي”. كما يقول أيضًا وهو يصف المؤمن: “إنّ الشخص المتديّن تقي من حيث ليس لديه أي شكوك حول معنى الأشياء الشخصية الفوقية أو الأسمى والغايات التي لا تقوم على أسس عقلانية، فهو لا يعيش حياة مصلي ومتعبد فحسب، بل يعيش في إيمان عميق”.

إنّ الشكّ جعله يقلّب ويفتّش كل الأمور التي تحدثنا عنها بما في ذلك خلود النفس أو الروح فهو يجيب قائلًا بعد أن تم سؤاله إذا ما كان يؤمن بالخلود: “لا، حياة واحد تكفيني”. 


ويقول أيضًا: “لا أؤمن بالخوف من الحياة أو الموت ولا بإيمان أعمى”. 


ورغم هذا فإنّ الأمر لا يجعله كذلك ينكر كل شيء أو يقول بالتجريبية المطلقة فالشكّ عند آينشتاين هو شكّ إيجابي وإثباتي فهو لم يكن يشكّ لأجل الشكّ فحسب، بل من أجل الوصول إلى الحقيقة ومعرفة الزيف من الحق.
-خاتمة:

نود القول في الأخير أنه لا يمكننا بلورة آينتشاين في بوتقة واحدة أو تقييده في مذهب واتّجاه واحد معيّن لصعوبة الأمر، فهو قد جمع بين كل شيء، بين الربوبيَّة واللاأدرية، وبين وحدة الوجود والروحانيَّة، وبين العلم والفلسفة، نظرًا لمسيرته الفكريّة التي عرفت عدَّة منعطفات في حياته حيث نهم من خلالها شتى أصناف الكتب والكُتّاب.

ولكن ما يثير اهتمامنا، وعلى عكس ما يعتقده البعض فإنه لم يكن بالملحد والمادي والتجريبيّ بالشكل المطلق الذي لا يقبل الوسطيَّة، بل كانت له روح الدين و غوامض الكون الساحرة الذي يلملم أشلائهم العلم والعقل.

لقد أراد من الجميع أن يصلوا إلى الدين الكونيّْ، ذلك الحسّ الروحيّ والعاطفي الذي يرعاه العقل والتأمّل حيث تتلاشى فيه كل معالم الرعب والخرافة والجهل، وتغدو الطقوس الفارغة والجامدة مجرد تاريخ لن يتكرر، وحيث هنا في الحاضر يمتزج العلم بتديّن الإنسان، ويكون الإله فيه صديقًا له ينزل إليه من سمائه العلياء تلك التي سَّطرها الخوف، لكن ليس كل واحد يستطيع ملاقاة الله والكون، فالأمر ليس باليسير  وسيكون فقط من نصيب الشخص الذي يخطو خطواته نحو الشعور العقلانيّْ، هادئًا ومتواضعًا، تماماً مثلما فعل آينشتاين.

-شرح المصطلحات و المفاهيم:

-إيمانويل كانط [1724 – 1804]:: فيلسوف أخلاقي ألماني من مؤلفاته المعروفة: نقد العقل الخالص، تأسيس ميتافيزقيا الأخلاق، الدين في حدود مجرد العقل.

-ديفيد هيوم [1711 – 1776]: فيلسوف ومؤرخ تجريبي اسكتلندي، جعل للواقع انطباعات حسية وذهنية ، يعتقد في حسّية المعرفة، أهم مؤلفاته: التاريخ الطبيعي للأديان، مقالة في الطبيعة البشرية، تاريخ إنكلترا.

-باروخ سبينوزا [1632 – 1671]: فيلسوف هولندي من أصل يهودي، تعرّض لحملة من النبذ والإساءة من طرف اليهود بسبب تناوله لمسائل الدين بنقد، كان من الأوائل الذين دعوا لتطبيق منهج علمي بدراسة المخطوطات والكتب المقدسة، احتلت وحدة الوجود حيزًا من فلسفته وفكره، تأثر بابن عربي، وابن رشد، وديكارت، أهم مؤلفاته: رسالة في إصلاح العقل، الأخلاق.

-جورج سلفيستر [1884 – 1962]: شاعر وكاتب ألماني أمريكي.

-موسى بن ميمون [1135 – 1204]: فيلسوف ومفكّر يهودي عاش تحت ظل الحضارة الإسلامية، حاول التوفيق بين الدين والعقل، من أهم مؤلفاته: دلالة الحائرين، الرسالة اليمنية.

-فيلهم شميدت [1813 – 1887]: مؤرّخ ومفكّر وعالم أديان ألماني.

-جان جاك روسو [1712 – 1778]: فيلسوف ومفكّر وناقد اجتماعي فرنسي، يعد من أبرز المتنورين الذين عرفتهم أوروبا، عني بالأديان والسياسة والمجتمع، من أهم مؤلفاته: أصل التفاوت بين الناس، العقد الاجتماعي.

-فرانك جيوفنس [1858 – 1936]: مفكّر وباحث وكاتب إنجليزي، كان أستاذًا للفلسفة، اهتم بالتاريخ وعلم الاجتماع والإنثروبولوجيا.

-برونسيلاف مالينوفسكي [188-1942]: عالم إنثروبولوجيا بولندي، عرف عنه سوء أخلاقه كما زعم ذلك الأشخاص المقربين منه، كما نُفي إلى أحد الجزر فكرس وقته فيها بالدراسات والأبحاث الإنسانية.

-رينيه ديكارت [ 1596 – 1650 ]: فيلسوف و رياضي فرنسي ، عراب الفلسفة الحديثة ، اشتهر بمنهجه التحليلي و ثورته الفلسفية التي احدثها حول الذات و الوجود و الله ، أهم أفكاره يعرف : الكوجيتو الديكارتي” أنا أفكر إذن أنا موجود ” . من أهم مؤلفاته : تأملات في الفلسفة الأولى ، مقال عن المنتج

-أيرون شرودنغر [1887-1961]: عالم فيزياء نمساوي، من أهم أعلام ميكانيكيا الكم.

-آرثور شوبنهاور [1788 – 1860]: فيلسوف ألماني، تأثر به الكثيرون ومن بينهم نيتشه، عُرف عنه نظرته التشاؤمية للعالم، ناقشت فلسفته المعرفة والأخلاق والفن، ومن أهم نظرياته وأفكاره الفلسفية هي إرادة الحياة العمياء التي تضخ المعاناة في العالم، من أهم مؤلفاته: فن أن تكون دائما على صواب، فنّ العيش الحكيم، العالم كإرادة وتصور

 


المحطة 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...