العباسيون يبيحون دم غسان زكريا والمغول يطوبون التاريخ باسمهم
الجمل ـ غسان زكريا: في الأيام الأخيرة، أعادت محطة (إم.بي.سي) عرض حلقات مسلسل (أبناء الرشيد: الأمين والمأمون)، وقد عدتُ لمشاهدة بعض الحلقات بحسرة شديدة، وانزعاج أشد. فقد عادت إلي الذاكرة بذلك الأداء الضعيف لأكثر ممثلي العمل -عدا بعض اللمعات المتفرقة في أداء إياد نصار والممثل الشاب أحمد العمري الذي أدى دور الفضل بن سهل-، وكذلك عادت بي ذاكرتي إلى الاستسهال الإخراجي، وإلى تكوين المشاهد بعيداً عن أي تفسير لما يدور من حوار أو حدث. ناهيك عن تغيير اسم المسلسل من (المأمون بن الرشيد) إلى اسمه الثاني الذي ينطوي على خطأ نحوي فاستخدم الجمع للمثنى، لهذا، أود أن أنتهز الفرصة من جديد وأقول: إن آخر حلقة كتبتُها هي الحلقة الثالثة والعشرون، وآخر مشهد كتبته هو مشهد حذفه القائمون على تنفيذ المسلسل، وهو مشهد استقبال أمير المؤمنين المأمون للإمام علي الرضا من آل محمد (الذي بولِغَ كثيراً في إظهاره طاهراً نقياً وكأنه نبي لا إمام). وبعد أن توقفت عن الكتابة، استكتب طلال العواملة مدير المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية السيد غازي الذيبة لإكمال العمل، وليس كما ظن البعض من أنني كتبت العمل بالتشارك والتفاهم مع السيد الذيبة، حيث إنني لم ألتقِ به إلى اليوم ولم أعلم أنه من أكمل سيناريو المسلسل إلى أن قرأتُ اسمه في عناوين المسلسل.
على أية حال، قد أكثرَ جميع من كان طرفاً في الخلاف بيني وبين طلال العواملة من الحديث في الخلاف وأفاض، وليس هذا ما يدعوني الآن لأن أعود وأكتب.
لعل الكثير من القراء الكرام قد اطلع على احتجاجات بعض "المواطنين العرب" ومنهم من ينتسب إلى العباسيين على عرض المسلسل، وتقديم صورة هارون الرشيد كما ظهرت في المسلسل. بالطبع، لم أستطع أن أعرف ما الذي يعنيه هؤلاء! فأي صورة لهارون الرشيد؟ ما به هارون الرشيد؟ وكيف يظهر في المسلسل؟ وإذا بهم يقصدون شربه للخمر وامتلاكه للجواري.
دُهشتُ حين اتصلت بي إحدى الفضائيات العربية وطلبت مني الرد، فرددتُ فعلاً أني رجعتُ إلى مراجع عديدة منها: (تاريخ الأمم والملوك) للطبري، و(الكامل في التاريخ) لابن الأثير، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي، و(الأغاني) للأصفهاني وغيرها العديد. ثم فوجئتُ بأن المحتجين يطالبون بحصولي على فتوى لكتابة المسلسل، وقد أذهلني ذلك حقاً. فالفتوى تُطلَب عند الكتابة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أحد صحابته رضي الله عنهم حصراً. وذلك لتجنب أن يجر الجهل ببعض الأحكام إلى إظهار من لا يجوز إظهارهم كممثلين. ومن جهة أخرى، لم يكن الكاتب يوماً هو من يُطالَب بالفتوى، بل جهة الإنتاج، فهي المسؤولة عن تنفيذ المسلسل وترويجه وتسويقه وعرضه، وهي التي أنفقت المال لإنتاجه وإنجازه. بعد تصريحي على المحطة أني لم أطلُب فتوى شرعية للأسباب التي ذكرت، كثرت الكتابات المحمومة في الصحافة وعلى الإنترنت، وصرتُ أُتَّهم بأني أكتب وأزوِّر التاريخ لأجل المال، ولأنني مدسوس تارة من الولايات المتحدة الأمريكية (لتشويه التاريخ الإسلامي) وتارةً من إيران أو من غيرها (لتشويه تاريخ حُكَّام أهل السنة والجماعة)، وقد ضحكتُ كثيراً لتلك الاتهامات طبعاً.
إلا أنني اكتشفتُ بعد حين أن الادَّعاءات والاحتجاجات التي يسوقها هؤلاء المحتجون تقوم على غير ما يعلنون، إذ ليس ثمة ما هو مستفز في المسلسل حول صورة هارون الرشيد، وقد أكدوا وكرروا أن الرشيد كان "يحج عاماً ويغزو عاماً" وقد رأيناه في المسلسل يحج ويغزو، وأنه "يصلي كل يوم مائة ركعة" ورأيناه يصلي في أكثر من مناسبة، ولعله من نافل القول هنا أن نؤكد أنه من غير الممكن أن نعرض كل حِجَّة حجها الرشيد وكل غزوة غزاها، وكل ركعة صلاها. بعد ذلك، كان أن جاءت محادثة هاتفية بيني وبين سيدٍ قدم نفسه على أنه "أمين عام أنساب العباسيين في العالمين العربي والإسلامي"، وخلال هذه المحادثة، سألني: "هل يعقل أن هارون الرشيد نفسه، الذي يقول للغيمة: أمطري أنى شئتِ فسيأتيني خراجكِ، هل يعقل أن رجلاً كهذا يجلس ليسأل ابنه كم جارية عندك؟"
الحق أن السؤال فاجأني، إذ لم أتوقع أن يكون مشهد كهذا موضع استغراب أو تساؤل عند أي من المشاهدين. صحيح، لقد كان الرشيد خليفة قوياً ويسيطر على أضخم إمبراطورية في العالم، ولكنه أبٌ أيضاً، وكتب الأخبار والطرائف تزخر بقصصه مع أبنائه وأحاديثه معهم. على أن السؤال أيضاً قد نبَّهني إلى سبب هذا الاحتجاج المحموم: صورة الخليفة، أمير المؤمنين، الذي يريد غلاة الإسلاميين إعادته إلى سدة الحكم، وإعطاءه صبغة إلهية وتميزاً، ولا شك أن هارون الرشيد كان أبهى صور الخلافة الإسلامية وأقواها وأكثرها استقراراً، لذا فهم لا يريدون للرشيد أو لغيره من الخلفاء أن يظهر بمظهر الإنسان الذي يحمل هموماً إنسانية ويتحدث إلى ابنه، كما يتحدث أي أب إلى ابنه، بل أن يكون صورة صعبة المنال، كي لا يجرؤ الناسُ على تخيل الخلفاء وكأنهم بشر مثَلهُم في حياتهم اليومية كمَثَل باقي الناس، لا سيما مع مظاهر الترف التي تحيط بالخلفاء والتي ترتبط دائماً بشيء من التسيُّب وعدم الالتزام بأخلاقيات الفقراء وقيمهم، التي تكون رصيدهم الوحيد مع فقرهم المدقع. ومن الطبيعي أن يكون الدفاع الأساسي عن الرشيد لا عن الأمين أو المأمون، فالأمين قد اشتُهِر بما ظهر عنه في المسلسل من مثلية جنسية وميل عن حمل هموم الحكم، أما المأمون فهو خليفة "ديمقراطي" نسبياً، فقد سمح في فترة من فترات حكمه بإظهار مختلف العقائد، وبحرية الحوار بين الفرق الإسلامية كافة، وكان ليناً تجاه الشيعة، ثم توج مسيرته بالانتماء إلى المعتزلة أنصار العقل العتاة ضد النقل، وفرض القول بخلق القرآن الكريم. إن هذه الديمقراطية النسبية، واللِّين تجاه التعددية الفكرية والسياسية عند المأمون لا تتناسب بشكل من الأشكال مع العقلية الإسلامية المتشددة، التي تريد احتكار الجنة ورحمة الله لفرقة واحدة من المسلمين من بين ثلاث وسبعين فرقةً تفرعت من الطوائف الإسلامية المتعددة. إنهم لا ينبذون أهل الكتاب (المسيحيين واليهود) فحسب، بل ينبذون معهم كل من لم يكن على إيمانهم هم، وتفسيرهم هم للإسلام الحنيف الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ليحرر الناس من القهر والجهل والعيش في الظلمات.
في الواقع، كان أكثر ما أثار حفيظتي في هذه الاحتجاجات هو ادعاء أصحابها أنهم عادوا إلى المراجع التي ذكرتُها فلم يجدوا ما وَرد في المسلسل من إقبال الرشيد على الخمرة والنبيذ بشكل خاص، وأن الرشيد زوَّج جعفر بن يحيى البرمكي بأخته العباسة بنت المهدي، وبعضهم ذهب إلى أن ينفي الشذوذ عن الأمين، وقد ثارت حفيظتي كما ذكرت لما في الادعاء من كذب صريح واعتماد على عدم معرفة جمهور القراء والمشاهدين بأصول المراجعة التاريخية. إنني الآن أزيد، وأقول إنِّي خففتُ كثيراً درجة الإباحية التي اتصفت بها الأخبار التي وردت عن الخليفة هارون الرشيد، لا في ألف ليلة وليلة كما ادعوا، بل في كتب التاريخ، ومن ضمنها ما وضعها كبار المؤرخين الإسلاميين المتزمتين، وعلى رأسهم (ابن كثير) الذي يُعتمَدُ تفسيره للقرآن، والذي يعتبر الإسلاميون مؤلَّفَه التاريخي الموسوعي الضخم (البداية والنهاية) المرجع الأم والأكثر تحرياً للدقة التاريخية. من جهتنا، لا نظن هذا بكتاب (البداية والنهاية)، حيث إنه يتصف بنظرة شديدة المثالية للتاريخ، ورغم ذلك فلن نهمل أن ننقل منه الأخبار التي اعتمدنا عليها في صياغة المسلسل، وأعتقد أن هذا سيعيد الأمور إلى نصابها ويبين الحقائق الصريحة والواضحة.
نبدأ بالكتاب القَيِّم (الدولة العباسية) لمحمد بك الخضري والذي أصدره صاحبه ضمن سلسلة (محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية). يتَّسم الكتاب بشموليته وجمعه لمختلف جوانب الحياة من سياسة واقتصاد وشكل اجتماعي في عصر كل خليفة. يذكر الكتاب في فصل عن أخلاق الرشيد إنه لم يكن يتخلف عن الحج "إلا إذا كان مشغولاً بالغزو فهو في كل عام بين غازٍ وحاج وقد أقام للناس حجهم تسع مرات في سني حكمه وهي السنوات (70) و(73) و(74) و(75) و(77) و(80) و(81) و(86) و(88) بعد المائة" . وقد عرض المسلسل حجته لعام 186هـ والتي رسم فيها ولاية العهد للأمين فالمأمون فالمؤتمن. لا شك أن المشهد في المسلسل ظهر مختصراً وغير مقنع، وذلك نتيجة البخل الإنتاجي الذي عُومِل به المسلسل بشكل فاقع وبارز جداً، وللإيضاح فقط، نذكر أن الحلقة الثانية من المسلسل كانت تحتوي على سلسلة تتكون من ما يقارب الخمسة عشر مشهداً تمثل رحلة الحج، وكيف عامل الرشيد الناس في الطريق وكيف وهبهم وأحسن إليهم وغير ذلك، إلا أن تلك المشاهد تم اختصارها من العمل للسبب الذي ذكرناه وهو تقليص الكلفة الإنتاجية للعمل. يتابع الخضري بك فيقول: "واشتهر أن الرشيد كان يشرب النبيذ الذي يرخص أهل العرق في شربه وكان يسمع الغناء ويثيب عليه أعظم ثواب، ولذلك اشتهر في زمنه أعظم الموسيقيين والمغنين ببغداد ممن لم يأتِ بعده مثلهم كما يرى ذلك من اطلع على الكتاب الموسوم بالأغاني لأبي الفرج الأصبهاني." وإننا نحيل من يريد الاطلاع على مسألة الغناء والشعراء في عصر الرشيد ومن كانوا ندماءه إلى الكتاب نفسه، وكذلك إلى كتب الأخبار والطرائف كـ(المستطرف في كل فن مستظرف) للأبشيهي، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر إبراهيم الموصلي، وابنه إسحاق الموصلي، ومغنيات كثيرات مثل ماردة ودنانير وعاتكة وذات الخال وأخت الرشيد علية بنت المهدي التي يُشك أنها كانت على علاقة بإبراهيم الموصلي. وأشهر ندماء الرشيد من الشعراء -دون شك- هو أبو نُواس، وفي الكتب المذكورة أخبار بينهما لا تكاد تنتهي وهي تفيض بالفحش والإباحية، وإن كانت المراجع تشير إلى أن الرشيد كره من أبي نواس استخفافه بالعقائد في بعض الأحيان. لعله من البديهي أننا لم ننقل الأخبار بحرفيتها إلى المسلسل لما فيها من إفاضة وإباحية عالية ولأنها لا تخدم السياق الدرامي للعمل، ولكننا استنتجنا من الأخبار المناخ الثقافي والاجتماعي العام الذي شاع في تلك الفترة.
في تاريخ الطبري -الذي اعتمدنا عليه اعتماداً رئيسياً في بحثنا التاريخي المُطَوَّل لإنجاز المسلسل، وهو معروف أيضاً بمثاليته في النظرة إلى التاريخ وإن لم يكن إلى درجة ابن كثير- يذكر الكاتب حادثة سِيْقت للدلالة على شدة تدين الرشيد وكرهه للمراء في الدين، وهي أن غلاماً يقال له ابن أبي مريم دخل عليه وهو يصلي صلاة الصبح "فانتهى إليه وهو يقرأ [من القرآن الكريم أثناء صلاته] ومالي لا أعبد الذي فطرني، فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله، فما تمالك الرشيد إلا أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب فقال: يا ابن أبي مريم، أفي الصلاة أيضاً؟ قال [ابن أبي مريم]: يا هذا وما صنعت؟ قال [الرشيد]: قطعتَ عليَّ صلاتي، قال [ابن أبي مريم]: والله ما فعلتُ إنما سمعتُ منك كلاماً غَمَّني حين قلتَ ومالي لا أعبد الذي فطرني فقلتُ لا أدري والله، فعاد [الرشيد] فضحك وقال: إياك والقرآن والصلاة، ولك ما شئتَ بعدهما" . وتتكرر هذه الحادثة أيضاً عند ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) وعند الخضري بك في (الدولة العباسية). تشير الحادثة -للوهلة الأولى- أن الرشيد كان يكره الاستخفاف بالقرآن الكريم والصلاة، حيث نهر غلامه ابن أبي مريم حين أدخل هذا الأخير النكتة على آية قرآنية، إلا أنها في الآن ذاته، تُبّيِّن أن الرشيد كان يؤنب من يسليه بلين وخفة، ولنلاحظ كلمة في غاية الأهمية في صياغة الحادثة: "..التفت إليه وهو كالمغضب" ولم يقل مغضباً، إذن، لقد اصطنع الرشيد غضبه على ابن أبي مريم كي يُشعِرَه بحساسية الأمر وفداحة خطئه، ولكنه -على ما يبدو- لم ينجح في ذلك، وإلا لَوصفت الحادثة الرشيد بالغضب. يجب أن نلاحظ أيضاً أنه لم يأمر بأي عقاب له على ما فعل، بل اكتفى ببضع كلمات فيها من المنع والردع أقل مما فيها من اللطف والتودد، في حين أن الرشيد كان قد بطَش بالطالبيين (المنتسبين إلى علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه) وقَمع الفرق الإسلامية كلها في عهده لأنهم انحرفوا عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وهذا ينحصر في التأويل والتفسير وتصديق بعض الروايات وغض النظر عن بعضها، دون الاقتراب من الاستخفاف بقدسية الآيات القرآنية وجعلها مادة للنكتة. لعلنا نستطيع أن نتبين دون كثير جهد، أنَّ الرشيد لم يتصرفْ إزاء ابن أبي مريم وإزاء الطالبيين وغيرهم من المعارضين بوصفه متديناً ذلك التدين المرتبط بالزهد وكثرة العبادة -كما يصفه المُحتَجُّون وجُلّ المدافعين عن فكرة إعادة الخلافة الإسلامية- بل بوصفه سياسياً محنكاً وإمبراطوراً حقيقياً، تفرض عليه إدارة إمبراطوريته البطش بكل من يعارضه أو يزعزع عقيدة الحُكم التي تقوم عليها الدولة، كما أنه -هذا السياسي- يحب أن يكون له من الندماء من يقدم له التسلية. إننا لا نشكك بالطبع في صدقِ تدين الرشيد، فكل الإشارات تدل إلى أنه كان متديناً ومائلاً إلى الوعظ والحكمة الدينية الشاعرية والمثالية، ولكننا نؤكد -من جهة أخرى- أن تدينه كان يمكن له أن يكون في المقام الثاني حين تصبح النزعات الإنسانية لمَلِكٍ اجتمَع له مُلك الدنيا في المقام الأول، أو حين تصبح إمبراطوريته مهددة سواء من ناحية اجتماعية أم من ناحية إيديولوجية. وفي الكتاب متابعة لأخبار الرشيد مع ابن أبي مريم مما يحتوي على الكثير من البذاءة في الألفاظ، وضحك الرشيد الشديد عليها.
كذلك، يذكر الطبري ضمن حوادث الوعظ الذي كان الرشيد يحب سماعه أن عبد الله بن عبد العزيز العمري وعظه "فتلقَّى (الرشيد) قوله بنعم يا عم، فلمَّا ولى لينصرف بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا يا عم يقول لك أمير المؤمنين خذها وانتفع بها أو فرِّقها، فقال [العمري]: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم أخذ من الكيس ديناراً ثم قال: كرهتُ أن أجمع سوء القول وسوء الفعل، وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد فجمع العمريين فقال: مالي ولابن عمكم احتملتُه بالحجاز فشخص إلى دار مملكتي يريد أن يفسد علي أوليائي، ردوه عني" . لا يذكر الكتاب -كما رأينا- نصَّ الوعظ الذي ألقاه عليه عبد الله بن عبد العزيز العمري، ولكن الواضح من بقية القصة أن سلوك عبد الله سلوكٌ زاهدٌ إذ رفض أن يأخذ المال ثمناً لوعظه، فاكتفى بدينار واحد، بل إنه رفض التصدق بمال غيره. نستطيع هنا أن نستنتج أن ما وعظَ عبدُ الله به الرشيدَ كان في جوهره يتعلق بالتقليل من مظاهر البذخ أو ما شابه، مما أحرج الرشيد فتلقى كلامه برد جاف بارد "نعم يا عم"، إذا ما قورن ببكائه واخضلال لحيته على وعظ ابن السماك له في شؤون مجردة مطلقة: "يا أمير المؤمنين، اتَّقِ الله وحده لا شريك له واعلم أنك واقف غداً بين يدي الله ربك ثم إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما، جنة أو نار" . في الواقع، لم يَعدُ ابن السماك أن أعاد على الرشيد ما يعرفه كل مسلمٍ يُلم إلماماً بسيطاً بأركان الإسلام الخمسة. أما ما فعله العمري -والذي يسكت الطبري عن ذكره- فقد استدعى أن يجمع الرشيد أقارب الرجل ويطلب منهم أن يردوه عنه مخافة أن يفسد عليه أولياءه بسبب سلوكه الزاهد المتقشف مقارنة بسلوك الرشيد الباذخ. فالوعظ، إذن، مطلوبٌ حين يكون عاماً وشاعرياً -إن صح التعبير- فحسب، أما حين يكون عملياً وواقعياً مرتبطاً بالسلوك اليومي، فهو محرج وغير مرغوب فيه. ويمكن لمن أراد الاستفاضة في أخبار الرشيد المشابهة أن يقرأ من تاريخ الطبري بجزئيه الرابع والخامس من أخبار الرشيد ما يرد في سنوات حكمه الأخيرة. وإننا نعتقد أننا قدمنا شخصية الرشيد بإيجابية أعلى من هذا المذكور، ولذلك لما يستنتج من كتب التاريخ من قدراته السياسية الاستثنائية، وهيبة الدولة الإسلامية في عهده.
ادعى المُحتّجُّون على المسلسل أنني رجعتُ إلى الكاتب الروائي جرجي زيدان واستخدمتُ "افتراءاته على تاريخ الإسلام والمسلمين" كحقائق تاريخية في العمل، وروجتُها.ويُقصَدُ بهذا حادثة زواج جعفر بن يحيى البرمكي بالعباسة، التي استخدمها جرجي زيدان كمادة أساسية لإحدى رواياته التاريخية -التي لم نقرأْ أياً منها، وإنما عرفنا ذلك من القراءات الصحفية والمعلومات العامة-. وقد اتُّهِمتُ أيضاً بافتراء أن جعفر البرمكي هو أخو الرشيد بالرضاعة، وأنني صورتُ العباسة كامرأة لعوب. فلنرجِعْ -الآن- إلى المؤرخ الأصولي الشهير ابن كثير الملقب بالحافظ وما يقوله حول حادثة البطش بالبرامكة، وليس اختيارنا لابن كثير إلا لإثبات مرجعية الحوادث التي أوردناها في المسلسل من وجهة نظر إسلامية سنية شديدة التحفظ. يقول ابن كثير: "كره [الرشيد] البرامكة ثم قتلهم وقلاهم بعدما كانوا أحظى الناس عنده وأحبهم إليه وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة وقد جعلهم الرشيد من الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئاً كثيراً لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء ولا لمن بعدهم من الأكابر والرؤساء بحيث إن جعفراً بنى داراً غرم عليها عشرين ألف ألف درهم وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد ويقال إنما قتلهم الرشيد لأنه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر ويقال إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة وقيل إنما قتلهم بسبب العباسة ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير [الطبري] قد ذكره" . بعد هذه اللمحة العامة، يُفصِّل ابن كثير الحوادث التي ذكرها مختصرةً: "[...] كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه وهذه وجاهة ومنزلة علية، وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المُسكِر فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المُسكِر وكان أحب أهله إليه العباسة بنت المهدي وكان يحضرها معه وجعفر البرمكي حاضر أيضاً معه فزوجه بها ليحل النظر إليها واشترط عليه أن لا يطأها وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت ولداً" .
إذن فالحادثة مذكورة عند الطبري، وبالتالي هي مذكورة عند ابن الأثير -لأن الأخير اعتمد على الطبري بشكل رئيسي-، وها هي تُذكَر عند ابن كثير، وهي ليست من "افتراءات" جرجي زيدان على التاريخ الإسلامي، ولنلاحظ أن في طيات روي الخبر، إشارة صريحة إلى أن الرشيد أقبل على شرب الخمر بكثرة. إن ما نقلتُه يُبَيِّن بشكل واضح أنني لم آتِ بالأحداث إلا من مراجع موثوقة، موصوفة بتحري الدقة التاريخية، وحفظِ دينِ الله وأهله. وحيث إني اتُّهِمتُ بتصوير العباسة على أنها امرأة لعوب، فإني أردُّ بأنني أبعدتُ هذه الصفة عنها بعد أن كانت واضحة في المراجع، ومثاله ما نقلنا عن ابن كثير من أنها واقعت جعفراً وهي ثملة من الخمر، فصورتُها في المسلسل امرأة قد بلغتْ سن النضج دون أن تُلبي الحاجة الطبيعية للغريزة الجنسية التي ركبها الله في الإنسان، فبحثتْ عنها مع الرجل الوحيد الذي يحل لها أن تجامعه وهو زوجها.
من ناحية أخرى، بدا لي أثناء إجراء البحث التاريخي للمسلسل أنَّه من غير الممكن أن يقوم الرشيد بقتل أخيه في الرضاعة وصلبه وتقطيع جثته لهذا السبب وحده، ولهذا قمتُ باستخدام جميع الروايات الواردة عن البرامكة وسلسلتُها بشكل منطقي عبر العمل، فكان زواج جعفر بالعباسة ومخالفتهما أمر الرشيد هو في الواقع القشة التي قصمت ظهر البعير -كما يُقال- لا السبب الوحيد لما حل بالبرامكة. إن من يتابع المسلسل بانتباه، يلحظ أن الأزمة مع البرامكة تبتدئ حين يشعر الرشيد أن يحيى بن خالد يخطط أن تكون خراسان للبرامكة دولة شبه مستقلة، من خلال النفوذ بشراء الأراضي وابتناء القصور المكلفة، ثم تعيين الحرس الذين يشكلون نواةً لجيش مستقل عن جيش الخلافة. في هذا السياق نُذكِّر بمشهد نُفِّذ بطريقة سيئة وبغير ما هو مكتوب، يعلن الرشيد فيه غضبه على يحيى بن خالد (في التنفيذ يعلنه من خلال رسالة يرسلها إليه) ويأمره بالانتقال إلى جوار مكتبه، وكان ثمة مشهد محذوف، يطلب فيه يحيى من الرشيد أن يعزله عن منصبه، فيأبى الرشيد عليه ذلك لأنه يعلم أن العقاب الأقسى ليحيى هو أن يُبقيه في منصبه ولكنْ ذليلاً مُحَقراً. على هذا، تأتي حادثة العباسة وجعفر تتويجاً للنقمة التي كانت تنمو شيئاً فشيئاً في صدر الرشيد على البرامكة. وقد شدَّدتُ من خلال معالجة هذه الحادثة، على حرص الرشيد على ضمان الطاعة من قِبل جميع ولاته وأعوانه، كما شددتُ على خطورة أن يكون الرشيد خالاً لابن جعفر، مما يمنح هذا الابن المفترض سلطة ونفوذاً قد تودي بسلطة آل العباس.
وفيما يلي رواية أخيرة نسوقها لتأكيد التوثيق في مسلسل (الأمين والمأمون) حتى الحلقة الثالثة والعشرين، والمتعلقة ببطش الرشيد بالبرامكة، وما ذكر من زواج جعفر بالعباسة وشخصية الرشيد: "اختلف أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم [أي البرامكة]، فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر على الشرط المذكور [أن لا يكون بينهما جماع] بقيا مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً وراودته فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت إلى الخديعة فبعثت إلى أم جعفر أن أرسليني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكراً عذراء وكان لا يطأ الجارية حتى يأخذ شيئاً من النبيذ، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت ولئن اشتملتُ من ابنك على ولد ليكونن لكم الشرف، وما عسى أخٌ يفعل لو علم أمرنا، فأجابتها أم جعفر، وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها كيت وكيت وهو يطالبها بالعدة المرة بعد المرة فلما علمت أنه قد اشتاق إليها أرسلت إلى العباسة أن تهيئي الليلة، ففعلت العباسة وأدخلت على جعفر وكان لم يتثبت صورتها لأنه لم يكن يراها إلا عند الرشيد، وكان لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره [...] اشتملت العباسة منه على ولد [ثم ألحتْ زبيدة على الرشيد في الشكوى على يحيى بن خالد فلم يجبها لأنه لم يَرضَ أن يُتَّهم يحيى في حُرُمه] فخبرته بخبر العباسة قال وهل على هذا دليل قالت وأي دليل أدل من الولد" .
لقد أثبتْنا من الخبر السابق ذكره في المسلسل -كما اتَّضح لمن شاهده- ما يوافق السياق الدرامي دون أن يُغيِّر جوهر الحدث التاريخي. وأضفنا إليه التفسيرات التي نعتقد أنها الدوافع الحقيقية وراء سلوك الشخصيات، ففي حين أننا ابتعدنا عن تفصيل استعانة العباسة بأم جعفر لعدم ضرورته درامياً (حيث إنه يستهلك زمناً طويلاً دون طائل)، تشبثْنا بأن زبيدة هي من نقل الخبر إلى الرشيد لنقمتها على البرامكة، وليستْ نقمتها من فراغ، ففي نهاية المطاف، كان البرامكة أقوى أحلاف المأمون، منافس ابنها الوحيد (الأمين) على عرش الخلافة.
لقد كان المسلسل -بغضِّ النظر عن الصورة التي ظهر بها نتيجة الضعف الإخراجي والتمثيلي والإنتاجي- محاولةً لكتابة مسلسل سياسي، يتقصَّى الأبعاد الفكرية للعصر المطروح من خلال مرور المأمون بالمذاهب الفكرية وتعرفه إليها، من خلال التحليل، وأنسنة الشخصيات المطروحة، ذلك أنهم كانوا من البشر، ومحاولة سبر أغوار دواخلهم من خلال ما تقدمه المراجع التاريخية من معلومات متفرقة. وبعيداً عن النقاش حول نجاح مشروع المسلسل أو عدمه، فإن استخدامَه لمحاربة التَّوجه المتنور، ومحاصرة حرية التعبير بهذه الطريقة الرخيصة، أمر مرفوض تماماً. وكنا نتمنى أن يكونَ من أسميناهم بـ "المحتجُّين على المسلسل" قد بذلوا القليل من الجهد وعادوا إلى مراجعهم هم قبل أن يرسلوا إلي برسالة على هاتفي الجوال نصُّها: "لقد أباح العباسيون دمك يا غسان زكريا"، ولسنا نتمنى ذلك إلا ليكونوا على مستوى الحوار الذي كان من الممكن أن نخوضه بشكل متحضر وواعٍ.
الجمل
إضافة تعليق جديد