الحجاب : الله يهيئ الأسباب والدعاة يكملون الباقي
الجمل : الوقتُ مساءاً: تفتح سهام خزانة ملابسها، تقلب ناظريها بين الثياب المفتوحة على آخر صيحات الموضة:
بنطلونات جينز ضيقة، قمصان مكشوفة الصدر والبطن، وأخرى مكشوفة الأكتاف واليدين، وثالثة صُمِمت لتكشف الجسم لا أن تغطيه.
ثم تنانير قصيرة تبدأ من تحت السرة بكثير، وتنتهي باكراً فوق الركبة.
وتنانير طويلة بفتحات أطول، من الأمام أو الخلف، اليمين أو اليسار.
وبنطلونات القماش الضيقة المنتهية تحت الركبة مباشرة.
عدا زينتها من الخواتم والعقود والحلق وكافة أنواع المكياج.
تبتسم سهام ملياً، قائلة في سرها: إذاً علي الاستغناء عنها كلها.
صباح اليوم التالي:
تغيير جوهري طرأ على خزانة الملابس إياها، فقد حلَّ محل ثياب الأمس أغطية الرأس/الحجاب، والجلباب الطويل، وقمصان عريضة تستر الجسم ولا تَصِفُه، وتنانير طويلة بفتحات بسيطة.
ومنذ خمس سنوات تلاحق سهام " عشرون عاماً، طالبة جامعية " الموضة وترتدي كل ما هو مثير. بينما دأب والدها على الطلب إليها أن تتحجب، وكانت إجاباتها تتنوع بين: ما زال الوقت باكراً، ولماذا الحجاب، والمهم أخلاق الفتاة وليس حجابها و...
تقول سهام: " لم يحاول يوماً أن يجبرني، كان يريد أن يتم الأمر بقناعة تامة مني، إلا أن وفاته المفاجئة حملت إلي الكثير، فشعرت بدافع قوي لارتداء الحجاب تلبية لرغبته التي لم أنفذها أثناء حياته."
أما قناعتها بما فعلت فهي " تزداد بمرور الأيام لأن الأمر تمَّ بملء إرادتي ".
وسيكون أمراً صعباً إحصاء الأسباب التي تدفع لارتداء الحجاب بعد عهد طويل من السفور. فكل فتاة ستكون حالة قائمة بحد ذاتها بوضعها المختلف عن أوضاع الأخريات، لجهة البيئة والوسط الاجتماعي الذي يحيط بها، ولجهة الدافع وراء ارتداء الحجاب، فإذا ارتَدَته إحداهن بمحض إرادتها، فأياً تكن أسبابها فهي مقنعة ـ على الأقل بالنسبة لها ـ خاصة أن الحجاب يحمل لها تغييراً كبيراً ويجعلها في حال تختلف تماماً عن سابقتها، ما يتطلب قناعة شخصية لضمان استمراريته.
وإذا شكلت وفاة الأحبة دافعاً لارتداء الحجاب، فإن جهود دعاة الدين أثمرت بوضوح، ساعدهم توافر القنوات الفضائية، خاصة الدينية منها، مما هيأ للكثير منهم الانتشار الواسع والوصول السريع إلى ملايين المشاهدين حول العالم، ويكاد الداعية الإسلامي عمرو خالد أكثر من ينطبق عليه ذلك، فحديثه بالنسبة لـ سوسن " 28 عاماً، مهندسة " يتملك العقل والوجدان، وطريقته في الإقناع تدخل القلب مباشرة:
" كلما تطرق إلى موضوع الحجاب، أشعر أن كلامه موجه إلي شخصياً، وأن الله يهيئ لي الأسباب لارتدائه، في رمضان الماضي كنت أصلي وأدعو الله أن يشرح قلبي، وبالفعل فقد ارتديت الحجاب ليلة القدر وسط زغاريد أهلي ومباركتهم ".
أما تغريد " 37 عاماً، ربة منزل " فإن هواياتها تنحصر في متابعة المسلسلات والأفلام العربية وأخبار الفنانات. التي قادتها لمنحى آخر، فارتداء الكثير من الفنانات الحجاب، وتحولهن إلى ظاهرة واضحة يصعب تجاهلها، نال من اهتمامها المزيد:
" كانت الحيرة تتملكني كلما سمعت عن فنانة تحجبت، من شادية إلى سهير رمزي وشمس البارودي وهناء ثروت ومنى عبد الغني وعفاف شعيب، ثم عبير صبري، وعبير الشرقاوي وصابرين وغيرهن كثيرات، وصار فضولي كبيراً لمعرفة أسباب ارتدائهن الحجاب، وشعورهن، وكيف يقضين أيامهن الآن، كنت أُعجَب بقناعتهن وإيمانهن الراسخ اللذان يدفعانهن لهجر أضواء الشهرة والنجومية والاتجاه نحو الحجاب، وشيئاً فشيئاً كان التفكير بالحجاب يسيطر عليَّ ".
وبعدما قلدتْ الفنانات في الأزياء وتسريحة الشعر لسنوات كثيرة، تقول تغريد إنها حذت حذو المحجبات منهن وارتدت الحجاب.
هذه الأخبار التي طغت يوماً ما على المشهد الفني في مصر، لاقت صدى واسعاً في المجتمع السوري، خاصة بعدما امتدت لتشمل الوسط الإعلامي، بإقدام خمس مذيعات في القناة الخامسة في التلفزيون المصري دفعة واحدة على ارتداء الحجاب بداية العام الماضي 2004، إضافة إلى ست مذيعات في قناة النيل الفضائية.
زِدْ على ذلك خبر ارتداء السباحة المصرية رانيا علواني " 23 عاما " الحجاب، واعتزالها الرياضة بعد مسيرة توجتها بـ 77 ميدالية على المستوى الدولي والإفريقي والعربي وتصنيفٍ على مستوى العالم بين أول 11 سباحة في سباق الـ 100 م .
وإذا كانت القناعة الشخصية متوفرة لدى إحداهن لارتداء الحجاب فهذا لا يعني أنها فعلت بسرعة، فكثيراً ما رافقت بعضُ الهواجس هذه القناعة، الأمر الذي يستدعي التأجيل تحسباًً من تغيير سلبي يرافق الحجاب، كأن يعيق حرية العمل، أو تأتي ردة فعل الوسط المحيط سلبية، ما يحيط تفكير البعض بهالة من الخوف والتردد.
وهكذا، فإن قناعة لينا " 30 عاماً، محامية " بالحجاب قد صاحبها التردد مراراً، حتى تمَّ الأمر من حيث لم يخطر على بالها:
" كما كل مرة، قلت في أول أيام رمضان " من عام 2003 " سأرتدي الحجاب، ومرَّ الشهر دون تغيير يذكر، في اليوم الأخير منه وفيما أتابع قناة الجزيرة فوجئت بالإعلامية خديجة بن قنة تقرأ الأخبار وهي محجبة، كانت دهشتي كبيرة في أنها استطاعت بين يوم وآخر ارتداء الحجاب على مرأى من ملايين المشاهدين، دون أن يؤثر عليها سلباً، أو تخشى شيئاً أو تنتظر مناسبة ما، بينما أنا منذ عدة سنوات تتنازعني الأفكار والحسابات وأقول اليوم وغداً، وأفشل، ما أثر على شجاعتي وقدرتي على اتخاذ القرار.
تلك الليلة لم أستطع النوم، في اليوم التالي ـ وكان أول أيام العيد ـ ارتديت الحجاب ".
وكوننا في مجتمع شرقي محافظ، فلا بد من دور رئيسي للأسرة في معظم الحالات، وستكون العواقب سيئة عندما يمارس الأهل صلاحياتهم بشكل سلبي بعيدا عن الحكمة والإقناع، خاصة إذا جاء تعاملهم مع الحجاب على أنه عادة اجتماعية بدل أن يكون فرضاً دينياً وأمراً إلهياً.
ولعب هذا الواقع دوره، فرضخت له فاتنة " 22 عاماً، عاملة "، وارتدت الحجاب قسراً تلبية لرغبة شقيقها الأكبر، ما شكل في نفسها كرهاً له جعلها تخلعه في أول فرصة تسمح:
"عندما أصل مكان عملي يصبح الحجاب في حقيبتي، أعرف أني أقوم بخطأ كبير، لكني أشعر أني أنتقم وأرد على الطريقة الفجة التي اتبعها معي لارتداء الحجاب، وأسترد بعضاً من حريتي المصادرة ".
أما أسرة خلود فلم يحدث في يوم أن طلبت منها ارتداء الحجاب، إلا أن خطيبها قام بالمهمة.
ولأن ارتداء الحجاب يُفتَرض أن تصاحبه ملابس ساترة للجسم بحيث لا تكون واصفة تصف عورة المرأة، ولا شفافة تكشف مفاتنها، فإن المحجبات حديثاً يتصرفن بثيابهن السابقة بطرق عدة، فقد يبعنها ويشترين بثمنها أزياءهن الجديدة، أو يقتصرن في لبسها على المنزل فقط، أو يعطينها لصديقاتهن غير المحجبات.
وإذا كان الإقبال على ارتداء الحجاب من مظاهر الرجوع إلى الدين والالتزام بقيمه، فإن ذلك يتعزز بنظرة سريعة إلى كلية الشريعة بجامعة دمشق أو معهد جامع أبو النور أو معهد الفتح الإسلامي الشرعيين بدمشق على سبيل المثال، حيث الأعداد الكبيرة للطالبات اللواتي انتسبن لغرض الدراسة الشرعية، وهن بطبيعة الحال محجبات.
ويصبح الأمر أكثر وضوحاً حين نرى الكثير من النساء، من مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية يقصدن المساجد في شهر رمضان " عددها في دمشق وحدها دون الضواحي 650 مسجداً " لأداء صلاتي الفجر والتراويح، وحضور مجالس العلم الدينية.
راضـي محسـن
إضافة تعليق جديد