السُّويداء في الخارطة السّياسيَّة السُّوريَّة
"إنّ العامل الأعمق والأكثر أهميّة الذي سيقرّر مستقبل سوريا هو ماذا سيحدث للفلّاح السوري" مقولة لـ (جاك ويلرس) عالم الاجتماع الفرنسي في أربعينيات القرن العشرين.
وهو ما داوم على تأكيده أكرم الحوراني على المستوى العربي بضرورة التحرير الاجتماعي للفلّاحين العرب، بوصفهم المكّون الأساس للعالم العربي.
في السويداء
يمكننا أن نتخيّل مشهد فلّاحٍ من السويداء في بدايات القرن العشرين، وهو يحمل معوله، ويذهب إلى أرضه التي يصعب تطويعها بالمعول وحده. وبمقدار الجهد والصبر الذي يحتاجه ذلك العمل، خاصّة مع ظروف المناخ القاسية وعدم وجود طرق ري تساعد في السيطرة على الطبيعة وتحكُّمها في المواسم، في حين يُغيْر بعضٌ من الفرسان على قبيلةٍ مجاورة، فيغنمون ما يغنمون دون بذل ذلك الجهد كلّه.
مشهد يتكرّر، مذ جاء الدروز واستقروا في السويداء عام 1685، لنمط الحياة عينه القائم على تطويع الأرض لزراعتها وانتظار مياه السماء للري، وتطويع حجارة الأرض وحجارة آثارها لبناء البيوت، مع امتهان القلّة الغزو للمجموعات المجاورة، وفرض الأتاوة على الرعاة مقابل استخدام مياه الينابيع، إلى جانب بيع الحبوب وبعض منتجات الزراعة والماشية باتجاه دمشق. بالإضافة إلى علاقة محدودة مع فلسطين والتي توقّفت بعد النكبة.
طبيعة الجبل العصي على الطامعين به، والقاسي على الساكنين فيه، أصبحت مأوىً راسخاً لهم، يتماهى مع عقيدتهم الباطنيّة والمغلقة بوجه دخول أشخاص جدد، تكمل العناصر الدينية والجغرافية والاقتصادية بعضها البعض، مع تاريخهم الحربي، فتزيد من تشبّثهم بما هم عليه من أرض وموقف و"طهرانيّة أخلاقيّة" تشدّ عصب الجميع، وتبقي على استنفارهم الدائم كي يهبّوا لحظة الحاجة بوجه العدو.
المقاتلين الأشدّاء أولئك صبروا على الإقطاعيّين إلى حين نفاد صبرهم بالكامل، ثمّ انتفضوا بوجههم بما عُرف بانتفاضة العاميّة في نهايات القرن التاسع عشر، كما صبروا على الفرنسيّين في بدايات القرن العشرين إلى حين نفاد صبرهم بالكامل أيضاً من استبداد الحاكم كاربييه، فتجاوز انفجار غضبهم حدود جبلهم، واستلموا شعلة الثورة وقيادتها، كسبوا بالحرب إلى حين، وانخفض صوتهم بعد أن أخذت الأحداث مسار العمل السياسي المنظّم الذي لم يكن يتماهى كثيراً مع طبيعة شخصيتهم، الناتجة عن اجتماع العناصر المذكورة سلفاً.
ابتعادهم عن العمل السياسي يذكّرنا بخسارتهم في السياسة في أحداث لبنان عام 1860 على الرغم من انتصارهم العسكري أمام الموارنة. وتكرّر ذلك بعد الثورة على الفرنسيّين، حيث لم نلحظ نشوء أي حزب سياسي سوري من السويداء، وعدم حيازة أيّ حزب سوري كذلك في حلقته الضيّقة على أعضاء مؤسّسين من السويداء.
لكنّ سكّان المدينة الذين انخرطوا أكثر فأكثر في الهمّ السياسي العام، أدركوا بعد الثورة على الفرنسيّين أهميّة العمل السياسي المنظّم، خاصّة مع بداية تبلور مؤسسات الدولة، إضافة إلى الذين بدأوا بالتوجّه نحو التعلّم في دمشق أو خارج البلاد، كلّ أولئك التمسوا أكثر أهمية الأحزاب والعمل السياسي المنظّم، وعملوا على استقدام تلك الأفكار إلى مناطقهم لمّا رأوا فيها من ملائمة لواقعهم وامتداد سياسي له، وطريق لا بدّ منه للدخول في الشأن العام والمشاركة فيه، وهم غير البعيدين عنه.
انتشرت أفكار الأحزاب القوميّة واليساريّة بين المتعلّمين وسائر الفئات، فالجبل بات تحت مسمّى جبل العرب لا جبل الدروز، والقاطنين فيه ازدادوا يقيناً بوحدة همومهم السياسية مع سائر البلاد. حيث وجد المنخرطين في العمل السياسي أو المطَّلعين عليه فرصةً لنجدة أهاليهم من واقعهم القاسي، إذ تلمّسوا أكثر دوره الهام في بناء الدولة المؤسّساتية الحديثة، وتفعيلاً لإشراكهم في ذلك، وانفتاحاً على الحضارة العالمية بغية اللحاق بركب الدول المتقدمة.
لم يكن كلّ ذلك طارئاً عليهم بل استكمالاً لما بدأه أسلافهم ممن كانوا منفتحين على فكرة القوميّة العربية ودخلوا دمشق رافعين العلم العربي فوقها في الثورة العربيّة الكبرى. فهم عربٌ أقحاح وليسوا بمعزولين عن محيطهم، وإن أخذوا مساحةً خاصّة لهم ضمنه. وإذا كانت مشاركتهم في الأمس (في الثورة العربية الكبرى) عبر المؤازرة العسكريّة، وإعلان ولاء الجماعة عبر الزعيم فقد باتت اليوم بالعمل السياسي المنظّم.
إضافة إلى العمل السياسي انخرط الكثير من أبنائها بعد الاستقلال في صفوف الجيش أيضاً، وهو ملعبهم المفضّل. حيث وصل شوكت شقير إلى رئاسة الأركان في الخمسينات، وبرز أيضاً أسماء عدد من الضباط الدروز، الذين أبعدتهم شدّة المنافسة فيما بعد وسط الصراع المحتدم على السلطة، والمتطلِّب للعلاقات، والحنكة السياسية.
فالمجال العسكري يتناسب مع تاريخهم الحربي أكثر من العمل السياسي، الذي تمّ الدخول فيه ببطء، لأسباب واقعيّة وأخرى ذاتيّة. فسير العمل السياسي يحتاج إلى بناء روابط أفقيّة، ومن الصعب استمراره ونموه وسط العلاقات والروابط الأوليّة والعائليّة، إذ أنّه يحتاج إلى واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي مختلف.
تحوّلات سوريا
ورث السوريّون كياناً سياسياً عن الاستعمار يشبه الدولة ولا يتطابق معها، أي لم يتشكّلوا كأمّة وشعباً أنتجوا دولتهم، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية ونشوء دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطنية، إلى جانب عدم تبلور اقتصاد وطني منتِج وقوي على مستوى البلاد، بل ظلّت الاقتصاديّات المحليّة كما هي إلى حدّ ما. الأمر الذي أدّى إلى الحفاظ على ذات البيئة المجتمعيّة الدائرة حول نفسها.
وبذلك نشوء كيان دولة بعيداً عن القواعد، أي لم تنشأ تلك العلاقة الجدليّة ما بين الشعب ودولته بحيث تكون الدولة التعبير الذاتي للشعب وشكل وجوده السياسي، لا جهازاً مغترباً عنه.
أيّ أنّ العمل السياسي البكر من الصعب أن يصمد وينمو ويتغلّب على الروابط الأوليّة وعلى ألعاب السلطة، دون وجود بنية تحتيّة تعيد إنتاجه، خاصّة في ظلّ التدخلات الخارجيّة الكبيرة.
وعليه فإنّ السويداء حافظت على إنتاج ذات المنظومة الاجتماعيّة والسياسيّة بدورها، وبذلك فإنّ من تحكّم بالمنظومة الاقتصاديّة الاجتماعيّة عبر الدولة، هو من تحكّم بتوجيه المجتمع، وذلك ما فعله نظام البعث، بعد أن تمّ إبعاد المجتمع من السياسة منذ الوحدة مع مصر.
لكنّ نظام البعث الذي صعد بدعم الفئات الفقيرة، والمهمّشة واعداً إيّاهم بالدعم لاحقاً، لم يلبث أن بدأ بالابتعاد عنهم مع ما سمّاه بالحركة التصحيحية، حيث وقف على مسافة واحدة من الجميع فقراء وتجار و إقطاعيّين، وكذلك فعل مع المحيط العربي، فلم يعد يفرق بين رجعي وتقدّمي، إذ باتت سياسته هي العمل على التوازنات، وخالطاً ما بين السلطة والدولة.
انزاح نظام البعث أكثر باتجاه كبار التجّار ومستغلّي القطاع العام، بعد الثمانينيات، لتشهد الألفيّة الجديدة الدخول في ما سمّوه "اقتصاد السوق الاجتماعي" وتحوّل الدولة إلى دولة أولئك التجّار والمستثمرين الكبار، وصولاً إلى التسريع الحاصل في السنوات القليلة الماضية، والذي أدّى إلى الانقضاض على آخر معاقل الدولة، وإنهاء أيّ دور اجتماعي لها أو داعم للمجتمع.
وبذلك حافظ النظام على الأسلوب البطريركي كما هو موجود في المجتمع، بل عزَّزه لصالحه كي يخدمه في ترسيخ حكمه وتثبيت دعائمه، وبات العمل السياسي خارج المنظومة الحاكمة كالخروج على الأب. وتعامل النظام بطريقة خطيّة مع مواطنيه، مرسِّخاً العلاقة مع الزعماء التقليديّين ورجال الدين وأصحاب النفوذ في المناطق المختلفة، ليبقى الانتماء للمكوّنات حاضراً في وعي السوريين، وإن لم يكن في العلن دوماً. أي عادت البلاد إلى مرحلة إعلان ولاء الجماعة من عدمه عبر الزعيم لا عبر العمل السياسي المنظّم الذي تمّت ملاحقته.
وعليه ابتعدت السلطة عن قواعدها التي دعمت صعودها في الستينيات، ومع تغييب العمل السياسي وعدم تبلور هويّة وطنيّة جامعة، والسيطرة على المجتمع المدني، تسبّب أيّ تخلخل في السلطة شرخاً في المجتمع والدولة وإضعافاً لكليهما. بل سمح ذلك لكبار التجّار المسيطرين على الاقتصاد بالتمادي في سلطتهم أكثر تحت ظلّ الحرب. حيث أنّ الحرب تبرّر إجراءات اقتصاديّة وقانونيّة يصعب تبريرها في مرحلة السلم، خاصّةً بعد أن انكفأ المجتمع على نفسه وفقد قدرته على الفعل.
أصبح أكثر صعوبة العودة للعمل السياسي المنظّم، والذي حالت الحرب دون القدرة على نهضته، بل زادت من عودة المجتمع إلى روابطه الأوليّة التي تشكّل عقبة في وجه العمل السياسي.
السويداء اليوم
إذاً، فإن ما تعانيه السويداء اليوم كسائر المحافظات السورية، ليس وليد اليوم فقط، إضافة إلى مشاكل اليوم الناجمة عن تراجع دور الدولة، وتردّي خدماتها وتآكل بنيتها التحتيّة، واستمرار القبضة الأمنيّة، وانتشار السلاح والسرقات، وإن كانت بنسب متفاوتة بين المحافظات. بالإضافة إلى الانهيار الاقتصادي والعقوبات المفروضة عبر قانون قيصر، والآثار الناجمة عن الهجرة الجماعيّة والوفيّات والجرحى بسبب الحرب، وانسداد الأفق السياسي.
كل ذلك أفرز فوضى قد تختلف في ظاهرها بين المناطق والمحافظات، ولكنّها تتفق في الأسباب.
ابتعاد الدولة عن دورها الاجتماعي، وظهور شعور عام بالخطر في السويداء، وارتياب من أحداث وتغيّرات عام 2011 -سواء تجاه السلطة أو المعارضة- يؤدّي ذلك شيئاً فشياً إلى عودة الانكماش والعزلة في المحافظة. وهي التي اعتادت الانخراط في المشروع العام سواء العربي كما في الثورة العربية الكبرى، أو الوطني كما في الثورة السوريّة الكبرى، أو مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث تلقّت السويداء الضربة الاستباقيّة من قبل الشيشكلي حين شعر بنيّة السوريّين لعزله، ولمس انتشار المنشورات ضدّه في السويداء (وهو ما يؤكّد أنّ ضرب الشيشكلي لها كان لوطنيّتها لا لـ(درزيّتها) كما يروّج البعض) وصولاً إلى انخراطها في دعم مشروع الوحدة العربيّة مع مصر، وإفشالها لاحقاً مشروع ما عُرِف باسم "الكمالات" الانفصالي.
في حين أنّها تعود إلى الانكماش والعزلة عند الشعور بالخطر أو الارتياب، وبتراجع المشروع العام فهي غير قادرة على الدخول في مغامرات مجهولة، وغير محسوبة أو طويلة المدى. ومن ملاحظة تاريخها نرى ميلاً لتحمّل الوضع القائم الصعب، دون الدخول بمغامرة التغيير كيفما اتفق، والذي قد يُكلِّف كثيراً، ويُضعف من قوة تماسكها، وهي التي لا يهمّها صعوبة العيش بقدر ما يهمّها القدرة على التماسك وصدّ الخطر الوجودي حين يتطلّب الأمر، فصعوبة العيش يمكن تحمّلها ولا تشكّل خطراً وجوديّاً. وقد ظهر ما يوازي ذلك في كلام مؤسّس ما سمّي بحركة رجال الكرامة بقوله "مناكل تراب، بس ما تنهان كرامتنا"، والكرامة هنا تحمل معنى الضدّ للتهميش والإذعان، أكثر منه الضدّ لقساوة العيش.
ويمكن ملاحظة مظاهر متنوّعة لذلك الانكماش من انخفاض عدد الملتحقين بالخدمة العسكريّة، وبازدياد عدد المتديّنين والمتديّنات في المحافظة. وكذلك حمل الكثيرين للسلاح بحجّة تأمين الحماية الذاتيّة عن المحافظة، أي ما يعنيه من انخفاض ثقتهم بأجهزة الدولة. وظهور ما سمّي بحركة رجال الكرامة، وما يعنيه ذلك من انخفاض الثقة بالسلطة السياسية والسلطة الدينيّة داخل المحافظة أيضاً، حيث أنّ الأخيرة لا قدرة كبيرة لها في الحركة خارج معايير السلطة السياسيّة. وكذلك من أجل تأمين الحماية الذاتيّة للمحافظة في حال تعرّضت لأيّ هجوم من أيّة جهة كانت. كما يمكن ملاحظة قلّة المنخرطين في الحراك الشعبي وقلّة المنخرطين في صدّ الحراك الشعبي أيضاً، حيث تميَّزت المحافظة في السنوات العشر الأخيرة بما يمكن تسميته النأي عن النفس تجاه الأحداث في سوريا.
فالسويداء في السنوات الأخيرة لم يتمكن النظام من تطويعها، ولم تتمكّن المعارضة من كسبها، ولا داعش من كسرها، ولم تدخل أيّ قوّات خارجيّة بشكل علني وواضح إليها (وإن يعود ذلك لقضايا جيوسياسية أخرى أيضاً)، وكذلك لا يمكن اعتبارها تسير خلف رجال الدين فيها كما يظن البعض، ولا هي بالبعيدة عن التحشّد خلفهم في الوقت نفسه كما يظنها البعض الآخر أيضاً.
ومن جهة أخرى فإنّ ابتعاد الدولة عن السواد الأعظم من المجتمع، وترك دورها شاغراً، سيدفع البعض إلى الدعوة لملئه عبر النشاطات الفرديّة والإسعافية، وصولاً إلى حماسة جزء صغير منهم نحو تحقيق الإدارة الذاتيّة -التي تتقاطع مع مصالح خارجيّة في توتير وتشتيت الوضع أكثر، والقضاء على الدولة- وإحلال النشاطات الفردية مكان الدولة بما يتعارض مع أبسط شروط المنطق والسياسة، معتمدين في انتشارهم على المال الخارجي وجذب التابعين من الجاهلين في المنطق والسياسة.
وعليه سيلتقي بعض معارضي السلطة مع جزء من السلطة في معاداة الدولة، ويعتقد بعض المدافعين عن السلطة أنّهم مع الدولة ومؤسساتها.
وذلك ما يحمل خطراً على الواقع السوري يهدّد بتخريب كلّ ما تمّ بناؤه في القرن الأخير، أي بعد أن بدأت المحافظات إبان مغادرة الاحتلال الفرنسي بالخروج عن قوقعتها نسبيّاً، فهي مهدّدة بالعودة إليها مجدّداً اليوم، وإن كان بعضها قد خطى خطوة نحو ذلك، لكن لا تزال فرصة الإنقاذ حاضرة.
وهنا تكمن خطورة ترسيخ الحلول الإسعافية وحلول الأمر الواقع، واستغلال البعض للوضع لطرح حلول انفصالية أو ما شابه، وهو ما يعني لا القضاء على دور الدولة فحسب بل تثبيت ذلك أيضاً، وضمان عدم عودتها.
وإن كان في تاريخ المحافظة حساسيّة تجاه أي سلطة حاكمة، لكنّها لم تكن يوماً إلّا مع دور الدولة ومشروعها ومؤسساتها القانونية، وذلك ما يختلط على الكثيرين.
حيث إنّ المحافظة تهادن السلطة لأجل الدولة والقانون، وإن كان لأبنائها استعداداً متوارثاً تجاه أي تغوّل في تركيبة مجتمعهم أو خصوصيّته. الأمر الذي يعيق تحلّل الروابط الأولية المعيقة للعمل السياسي الموازي لمؤسسات الدولة. وهنا يغدو دور السلطة المديرة للدولة بما يخدم مصالحها الخاصّة معيقاً إضافيّاً في وجه العمل السياسي، ناهيك عن ملاحقتها له.
فالسلطة التي تدير الدولة لصالحها الخاص لا للصالح العام ستجعل من الروابط الأوليّة حاضرة دوماً، وتدفع الجميع للاستمرار في التشبّث بتلك الروابط.
بذلك فإنّ التشكيلات التي تدفع باتجاه الانفصال (وقد خبا نجم تلك الفكرة التي لم تجد انتشاراً لها بين الأهالي) أو باتجاه التكتّلات المحليّة القائمة على تجميع الوجهاء والزعماء والأشخاص حسب الانتماء العائلي، لا تدفع باتجاه إحياء نهوض الدولة ومؤسساتها بقدر ما تدفع باتجاه إحياء دور المكوّنات بوجه السلطة، لتغدو تلك المكوّنات والسلطة عقبة في وجه النهوض بالدولة.
حين تقوم بتجميع الناس على أساس الانتماء الإيجابي للمكوّن الاجتماعي، فأنت تقوم بدعم التوجّه الانفصالي بوجه الاندماجي إن أدركت ذلك أو لم تدركه، وتساعد السلطة في الاستمرار بتمرير مصالحها الخاصّة في ظلّ عدم وجود مشروع عام يضاهيها.
في السابق كانت الحريّة في عهد العثمانيّين وما قبلهم في أن تأخذ الجماعة مسافة من السلطة وتمارس حياتها كما تريد، أمّا اليوم وفي عصر الدول الحديثة فقد باتت الحريّة في النهوض بمؤسّسات الدولة وتفعيلها والمشاركة في إدارة الاقتصاد وفي وضع القوانين وتسيير ومتابعة سائر أمور البلاد، بما يوازن بين تحقيق حاجات الفرد والمجتمع.
لكن ذلك الأمر يطرح سؤال الواقعيّة بطبيعة الحال، وإن تحدّثنا عن استعادة دور الدولة ومؤسساتها، وإحياء العمل السياسي وتفعيل المجتمع المدني (بما يعنيه من فضاء للعمل السياسي، لا كما شوَّهت طرحه المنظّمات السائدة اليوم)، فإلى أيّ مدى يقع ذلك الأمر بيدنا؟
قد يكون الجواب مُضمّناً في السؤال نفسه، في إحياء السؤال والبحث عن جوابٍ له، في البحث عن بديل الواقع اليوم، من خلال النفي لكلّ ما يعيق الحلّ ويؤخره.
أيّ أنّ الحل سيتبلور في سياق النفي للواقع القائم، ولطروحات الأمر الواقع.
وهنا يمكننا تلمُّس من يساهمون في تغذية اللا حل من خلال تشجيع العنف أو تبريره، أو من خلال بناء التكتّلات الطائفية والفصائل المسلّحة والسير وفق أجندات الخارج، أو إخراج الشباب من العمل السياسي باتجاه أعمال متفرّقة تبتعد عن السياسة وإن تناقش مفاهيمها أحياناً (وهنا أيضاً خطر آخر له نقاش آخر، حيث يقومون بتفسير المفاهيم بما يخدم الآخرين لا نحن، وبما يبعدها عن سياقها وعن ارتباطاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة مثل الديموقراطيّة، الهويّة الوطنيّة، الدستور، حقوق المرأة، سبل العيش...).
في حين يحاول البعض دفع الناس إلى الشارع دون أيّة برامج ومن دون أدنى قراءة للوضع الدولي أو الإقليمي أو حتّى المحلي، حيث ينتشر السلاح والفصائل مختلفة الولاءات، ودون أن يدركوا أنّك حين تدفع الناس إلى الشارع في دولة ضعيفة ومجتمع مدني ضعيف، فأنت لا تطلق حلّاً بل تطلق مزيداً من الخراب المجّاني وتعقيد الوضع وإبعاد الحلول أكثر، أو كما يقولون "صبّ الزيت على النار".
بذلك فإنّ العمل الوحيد الممكن حالياً هو استبعاد ولفظ كلّ ما يعيق الحل، والدفع باتجاه العمل السياسي المنظَّم والمرتبط بالحل السياسي في البلاد، وبغير ذلك لا مناص من تكرار ما حصل قبل عشر سنوات لعقود وعقود طالما أنّ هناك من يقول أنّه يريد التغيير ويرفض مجرّد تغيير أدواته نفسه.
وإلى ذلك الحين سيبقى العصامي يحاول تطويع أرضه أو رزقه أيّاً كان، في حين تغزو فئة أخرى بطريقةٍ ما، بالسلاح، بالخطف، أو بطرق اقتصاديّة وقانونيّة... فيغنمون ما يغنمون دون بذل ذلك الجهد كله.
أخيراً، ما الذي حلّ بالفلّاح السوري الذي ربط ويليرس والحوراني مستقبل البلاد به حسبما ذكرنا في مقدمة المقال، وما هو العامل الأعمق والأكثر أهميّة اليوم في رسم مستقبل البلاد؟
أو من هم؟ وما الذي يجمعهم؟ وهل السويداء خارج الشرط السوري، أو خارج الشرط الدولي حتّى؟
إضافة تعليق جديد