الإسلاميون في طرابلس: من طلاب في السعودية الى«جيوش السنّة»
لم يكن في وارد أولئك الذين غادروا لبنان إلى المملكة العربية السعودية منذ منتصف السبعينات لدراسة الشريعة الإسلامية، أن يكونوا لاحقاً رأس حربة في مشاريع سياسية تنطلق من زخم فكري ديني يقع تحت المظلة السلفية كنهج فكري يحدد السلوك العام لعموم المسلمين بما انتهجه «السلف الصالح» مسلكاً ونمط حياة فضلاً عن كونه «حنبليا» في التزام وتطبيق النص الفقهي.
كانت دراسة الشريعة الإسلامية قد بدأت تشهد زخماً ودعماً في السعودية من خلال التسهيلات الكثيرة التي قُدمت لطلاب العلم الشرعي، والتي ساهمت في تحوّل وجهة اللبنانيين عن الأزهر في مصر الذي كان تخرّج منه العشرات من العلماء والمشايخ الذين لعبوا أدواراً بارزة في لبنان.
ومن البديهي أن يكون القسم الأكبر من أولئك الذين «زحفوا» إلى المملكة سعياً لتلقي العلوم الشرعية من مدينة طرابلس ومنطقة الشمال لاعتبارات تتعلّق أولاً بأنها التجمع السني الأكبر في لبنان، وترتبط ثانياً بالعدد الكبير من أبناء الشمال الذين كانوا يعملون في قطاعات مختلفة في السعودية. إلا أن العامل الأساس ينطلق من أن طرابلس هي المقر والخزان الذي انطلقت منه معظم التيارات الفكرية والأحزاب والتنظيمات الإسلامية0فبعد نشوء حركة الإخوان المسلمين في مصر والتي عملت في لبنان تحت إسم «جماعة عباد الرحمن» التي ورثتها الجماعة الإسلامية قبل أن يخرج من رحمها معظم القيادات والتيارات الإسلامية التي ظهرت في لبنان بعد ذلك وخصوصاً خلال وبعد مرحلة حرب السنتين التي شكّلت فرصة لنشوء حركات إسلامية أخرى في طرابلس على قاعدة «حالة الإحباط العامة من الخسائر المتتالية التي مني بها المسلمون تحت سقف العروبة». فضلاً عن تعزز فكر محاربة «الفكر الإلحادي» المتمثل بالاتحاد السوفياتي الذي «خاض حرباً ضد المسلمين في أفغانستان».
كل تلك العوامل ساهمت في بناء أرضية خصبة لنشر مختلف الأفكار الإسلامية، فظهر أكثر من تنظيم وتيار وحركة كان أبرزها «نواة الجيش الإسلامي» بـ«إمارة» الشيخ سالم الشهال الذي كان هو نفسه من أنشأ «الجماعة مسلمون» في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، فجاء هذا «الجيش» بمثابة امتداد لتلك «الجماعة» التي كانت تقوم على اعتناق منهج «السلف الصالح»، الذي كان أحياه مؤسس الحركة الوهابية في المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مستنداً إلى فتاوى «شيخ الإسلام» إبن تيمية، بحيث كانت مدينة طرابلس أول من استحضر الفكر السلفي إلى لبنان، وكان الشيخ سالم الشهال عن حق «شيخ السلفيين» في لبنان.
وعند انتهاء «الحرب الأولى» ـ حرب السنتين ـ تم حل هذا «الجيش» وانصرف الشيخ سالم ومعه نجله الشيخ داعي الإسلام الشهال إلى العمل الدعوي لنشر الفكر السلفي من خلال إنشاء جمعية ومعهد الهداية والإحسان مع مجموعة من المشايخ الذين كانوا بدأوا بالعودة من دراسة الشريعة في المملكة العربية السعودية التي كانت «أفواج المجاهدين» تشدّ الرحال منها نحو أفغانستان لقتال «الشيوعية الملحدة».
وبدأ دور التيار السلفي في طرابلس يتعاظم مع بداية الثمانينات. وبدأت رقعة انتشاره تتوسع بسرعة خارج المدينة، مستفيداً من توسع انتشار «حركة التوحيد الإسلامي» التي شكّلت آنذاك مظلة لمعظم التيارات الإسلامية، وساهم حضورها العسكري والسياسي بزعامة أميرها الراحل الشيخ سعيد شعبان، في تأمين الغطاء المناسب لتوسع نشاط السلفيين الذين كانوا قريبين جداً من شعبان.
لكن تمدد هذا التيار في الشارع السني في الشمال، كان يكبر ويتعاظم انطلاقاً من النشاط المكثف الذي مارسه في المعاهد الشرعية الرسمية والمساجد والأحياء والمصليات التي أحدثت في عدد من الشقق، والتي تحولت إلى مدارس في الفكر السلفي تختصر الطريق إلى المملكة العربية السعودية وتنوب عن معاهدها في نشره وتعليمه.
إلا أن العمل الدعوي للجمعية السلفية اصطدم في نهاية التسعينات بملاحقات من الدولة اللبنانية بسبب نشرها وتبنيها أحكاماً تكفيرية في معظمها مستمد من أحكام وفتاوى ابن تيمية.
وتسببت تلك الملاحقات بتشرذم تلك الحالة السلفية بين «أمراء» ومجموعات أخذت كل واحدة منها ببناء هويتها الخاصة وارتباطاتها المختلفة، وإن كان معظمها بقي يحصل على التمويل من «فاعلي الخير» في السعودية، قبل أن تتوسع دائرة «المحسنين» و«الداعمين» و«الممولين» في السنوات الأخيرة إلى دول أخرى في الخليج العربي من أبرزها الكويت وقطر.
وسمح هذا التشرذم بتوجيه العديد من التهم لبعض الأشخاص بالتورط في عدد من الأعمال الأمنية في العام 1999 وكان بعضهم يتعرض للتوقيف عند كل حادث أمني، مما ساهم في خلق نوع من النقمة فاتخذ بعضهم قرار الفرار من أي ملاحقة نحو جرود الضنية0 وبنتيجة ذلك حصلت أحداث الضنية الشهيرة في نهاية ذلك العام بين الجيش اللبناني ومجموعة مسلحة اتهمت بأنها ترتبط بتنظيم «القاعدة»، بينما ما يزال الجدل قائماً إلى الآن حول حقيقة تلك الأحداث وحول «الثمن» الذي دفعه أولئك في سياق فواتير إقليمية، خصوصاً أن معظم الذين شاركوا في تلك المواجهات هم إما من رموز الحالة السلفية المباشرين أو المنتمين إليها بالفكر، وبعضهم ممن كان عائداً من «الجهاد الأكبر» حيث قاتل «تحت قيادة الشيخ المجاهد أسامة بن لادن في أفغانستان»، إلا أن فواتير أخرى أخرجت من سجن منهم لأكثر من خمس سنوات من دون محاكمة، لكنهم خرجوا «على البيعة» لأن الحساب كان لغيرهم...
لم يكن ممكناً آنذاك العثور على الارتباط التنظيمي بين السلفيين في طرابلس والضنية وعكار وبين تنظيم القاعدة إلا من خلال أولئك العائدين من الجهاد في أفغانستان للالتحاق بالحالة السلفية في لبنان أو لتأسيس مجموعات سلفية جهادية جديدة.
وقد نمت على هامش تلك الحالة مجموعات ومعاهد سلفية انتشرت في معظم المناطق السنية في لبنان من عكار والضنية إلى البقاع الغربي والجنوب ثم العاصمة بيروت انطلاقاً من طرابلس، ومروراً بالمخيمات الفلسطينية التي نشأت فيها خلايا متماسكة لتلك الحالة السلفية وإن تحت مسميات متعددة، كانت «فتح الإسلام» هي المحطة الأخيرة لالتقائها، وكانت مدينة طرابلس رقعة امتدادها الطبيعية لتجمعها في مخيم نهر البارد بعد أن أُحبط، قبل نحو ستة أشهر، مشروع تجميعها في المكان الأقرب لعاصمة الشمال داخل مخيم البداوي الملاصق للمدينة التي تعج شوارعها وأحياؤها بالمتدينين، فطرياً أو فكرياً، وتتداخل فيها «جيوش السنّة» العقائدية والحركية التنظيمية، كما تتعدد فيها «الإمارات» السلفية التي كانت إحدى ركائز «إمارة» حركة التوحيد الإسلامي.
قبل نحو ثلاثة أشهر ونيف، وتحديداً عقب جريمة التفجير في عين علق، ولأسباب مرتبطة بالتحقيقات فيها، أوقفت قوى الأمن الداخلي عدداً من الأشخاص في طرابلس، لكن الملف نُقل إلى عهدة الاجهزة الامنية التي تولت متابعة التحقيقات فوسّعت دائرة التوقيفات في العديد من أحياء طرابلس وهو ما أثار حفيظة عدد من النواب إن اعتراضاً على قيام مخابرات الجيش بها، أو تحفظاً على طول مدة توقيف بعضهم وطريقة معاملتهم قبل تقديمهم للقضاء العسكري.
كان تحقيق الجيش يركز حول الشبكات والخلايا المترابطة بعد أن اقتنع بأن الموقوفين يشكلون مجموعة واحدة وأن بعضهم متورط فعلاً عن معرفة وتصميم في تنظيم خلية أمنية «لمقاتلة أميركا واليهود»، وأن البعض الآخر جاهل بما ورط نفسه فيه.
لم تتمكن الاجهزة الامنية من القبض على رؤوس الخلية للحصول على المعلومات التي يمكن أن تفتح لها الباب على الخلايا الأخرى، لكن ما حصل يوم الأحد الدامي في طرابلس كشف أن ما حصل قد يكون مواجهة مع «كتيبة» واحدة فقط من مشروع يقوم على «كتائب» منفصلة عن بعضها مباشرة لكنها مترابطة أمنياً بحلقة قيادية تدير عملياتها عن بعد، بما يسمح لكل من هذه «الكتائب» بحركة مستقلة لا تنكشف بحال كشف إحداها، لكنها تؤلف واحداً، أو أكثر، من «جيوش» السنّة التي ربما لم يكن إنشاؤها، أو احتضان القائم منها، بمعزل عن ذلك الصراع الذي انطلق في كل المنطقة وشجع على قيام كل وسائل «المواجهة المطلوبة» بين السنّة والشيعة. لكن «عدة الشغل» هذه خرجت عن «الطَّوع» بعد أن فقدت مبرر الدعم الذي لقيته بانتهاء «مشروع الصدام السني ـ الشيعي»، وباتت تواجه ذات المصير الذي واجهه قبلهم «الأفغان العرب» الذين أسسوا تنظيم «القاعدة» فتحول هذا التنظيم ملجأ لكل الذين «انتهى دورهم من خريجي المدارس السلفية ـ المركزية أو الفرعية»...
حصلت المواجهة الأولى في طرابلس يوم الأحد، لكن التداعيات لما تنته، فحادثة الأربعاء الماضي في باب التبانة والتي أدت إلى مقتل بلال المحمود (أبو جندل) المتزامنة مع حملة المداهمات المكثّفة وتوسيع مروحة التوقيفات خلّفت مخاوف جدية لدى كل المجموعات الإسلامية وقيّدت حركة «أصحاب اللحى» الذين باتوا، كما عند كل حادثة أمنية، محاصرين بالتدقيق والتحقيق والشبهات ونظرات الشك والظنون، علماً أن هذه اللحى هي التزام ديني وليست هوية تنظيمية أو انتماء فكرياً إسلامياً...
وإذا كانت أحداث الأحد الدامي في طرابلس قد شكلت مبرراً لتلك الإجراءات التي وضعت المدينة في ظل ما يشبه حالة الطوارئ الأمنية التي تريح عموم المواطنين الذين وجدوا في انتشار الجيش اللبناني ودورياته المؤللة في الأحياء والشوارع ما يبعث على الاطمئنان، إلا أن مسببات تلك الأحداث ما تزال تطرح علامات استفهام حول احتمال وجود خلايا أخرى لم يتم تفكيكها، وكذلك حول وجود عناصر غير لبنانية تشارك في عمل تلك الخلايا كما تبين في خلية شارع المئتين. لكن ضبط «السلفيين» وتقييد حركة «إسلاميين» يحملون الجنسية اللبنانية قد يكون في هذه الأيام مقبولاً على وقع هول أحداث الأحد وجريمتي البارد والقلمون، لكن ذلك قد لا يبقى مبرراً إذا عادت الأعين في طرابلس وغير منطقة شمالية لرؤية سيارات الجيب السوداء والبيضاء التي كانت تشاهد قبل تلك الأحداث والتي كانت تقل عدداً من الأشخاص الملتحين والمسلحين إلى المساجد أو إلى منازل قيادات لبنانية نيابية وإسلامية وإسلاميين آخرين في هيئات وجمعيات وأحياء. فإذا بهؤلاء «الإسلاميين الجدد» المنتمين إلى «حركة الإخوان المسلمين» في سوريا والوافدين من «هجرة سياسية وأمنية» طويلة خارج بلادهم قد وجدوا ضالتهم أخيراً على «مقربة من الوطن» للمساهمة في «تغيير واقع تسبب بنفيهم»، معززين بحظوة «الرضى والدعم» من قوى سياسية لبنانية سمحت وتسمح لهم بالتمركز للإنطلاق نحو الحدود الشمالية لـ«إسقاط النظام الذي كان سبباً في الغربة القسرية»...
لم يعد خبر وجود مسؤولين لحركة الإخوان المسلمين في عاصمة الشمال سراً، إلا أن أحداً لا يملك حتى الآن معلومات دقيقة حول حجم هؤلاء ومقراتهم وأماكن وجودهم وسكنهم، لكنهم أصبحوا مرئيين في شوارع طرابلس كما أن العديد من «إسلاميي المساجد» يتحدثون عن لقاءات جرت معهم بمواعيد مسبقة أو بالصدفة.
ليس «الإخوان» وحدهم من وفد إلى طرابلس «تحت سقف الرعايات» المتعددة، فما يحصل في جبل محسن يطرح على بساط البحث مسألة هي في غاية الحساسية، خصوصاً بعد «الإقامة» اللافتة لنجل نائب الرئيس السوري السابق رفعت الأسد الذي حصل على ترخيص لـ«جمعية الفرسان الخيرية» تعيد إلى الأذهان دور مجموعة «الفرسان الحمر» التي كانت الذراع العسكرية لأنصار رفعت الأسد.
ومع أن نجله ريبال رفعت الأسد حرص على تقديم الجمعية في سياق العمل الخيري والاجتماعي، إلا أن هذا الحضور تسبب في حصول صراع في جبل محسن تتزايد وتيرته بين أنصار ريبال الأسد وبين القوى الأخرى التي ما تزال على تأييدها المطلق لسوريا.
ويبدو أن إحياء هذا الصراع يتقاطع في أمكنة متعددة مع عمل «حركة الإخوان المسلمين» السورية تحت سقف الخصومة الواحدة مع ما يعني ذلك من احتمال تطور هذا الأمر في مراحل مقبلة إلى أبعد مما هو عليه اليوم فضلاً عن احتمالات مجيء قوى أخرى تلتقي في هذه الخصومة لتقيم «قواعدها» على «مرمى حجر» من الحدود السورية، فتقذف حجارتها من دون أن تحتسب حجم الصخور التي قد تتدحرج على طرابلس وعكار...
خضر طالب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد