بين الكنيسة والإخوان
يتناقل السياسيون المصريون واقعة حقيقة حصلت مع الرئيس الراحل أنور السادات، وباتت نكته. ذلك أن المرشد العام السابق للاخوان المسلمين كان يناقش الرئيس الراحل بشأن الأقباط، وسأله: «هل تقبل يا سيادة الريس أن يكون رئيس مصر مسيحياً؟»، فأجاب السادات: «بالطبع لا، ولا أن يكون مسلماً أيضاً»، بمعنى انه هو الرئيس الوحيد.
الواقعة تثير الضحك اليوم حين يتذكرها المصريون، إلا عند الأقباط، فوجوههم تكفهر كلما استذكروا عهد السادات، والدعوات بعدم رحمته تسبق توصيفهم لما عانوه في عهده. ذلك أن الرئيس الراحل كان قد خلع زعيمهم الروحي (والسياسي؟) الأنبا شنودة من منصبه وحاكمه بتهمة إثارة الفتنة.
وهم إذ يعبرون عن ارتياحهم لعهد الرئيس الحالي حسني مبارك لكونه «الأفضل بين العهود الثلاثة مقارنة مع عهدي جمال عبد الناصر والسادات»، إلا أنهم صاروا يسترجعون في أحاديثهم، اليوم، الكثير من محطات الماضي الغابر، بحيث تصل الذكريات إلى بداية الفتح العربي ـ الإسلامي، وذلك ليقولوا إنهم في محصلة الأمر لم يجنوا الكثير من «جيرانهم العرب والمسلمين» وإن أوضاعهم استمرت في التدهور بعد أن كانوا أمة قائمة بذاتها.
مطالب المسيحيين الأقباط في مصر واضحة، فلو قابلت القبطي العادي أو الراهب المتعمق في علوم اللاهوت أو السياسي المحنك، لن تجد فرقاً كبيراً، ولا أسرار. كلهم يجمعون على ضرورة «المساواة» مع المسلمين ويركزون، خصوصاً على الوظائف وبناء المعابد. أما ناقدوهم فيعتبرونهم «جاحدين» بحق الدولة التي حضنتهم وحمتهم وأبقت شعلة دينهم متقدة.
وبين القول ونقيضه، يبرز مفكرون وكتاب وإعلاميون ينتقدون وصول الأوضاع إلى هذه المرحلة من «التنافس الطائفي»، خصوصاً بين «الأقباط» و«جماعة الاخوان المسلمين»، ويقولون ان الدولة تستفيد من ذلك، فالطرفان القبطي والإسلامي نجحا، ولو بحدود، في الآونة الأخيرة، في فرض بعض القرارات التي تناقض سيادة الدولة، ومن ذلك مثلاً تعليق فيلم «آلام السيد المسيح» لكاتبه القبطي فايز غالي بعد أن «تهافت» غلاة المسيحيين والمسلمين لمنع تناول الأنبياء في الأفلام والأعمال الفنية. (إقرأ المقابلة مع غالي).
وفي مستهل هذه الحلقة الثانية من الصفحتين اللتين خصصناهما لقضية «الأقباط» في مصر، إليكم روايتين، قبطية وإسلامية، حول ما يجري: الأولى على لسان المسؤول الإعلامي في الكنيسة القبطية الأب مرقص، والثانية من قبل الدكتور عصام العريان الرجل القوي والأكثر حضوراً في الإعلام المحلي والعربي بين قادة الاخوان المسلمين:
كان الأب مرقص، المسؤول الإعلامي في الكنيسة القبطية الارثوذوكسية في مصر، جالساً في مكتبه في الطابق الأرضي لمقر الكنيسة وحوله مجموعة من الشبان جاؤوا يساعدونه في احتفالات عيد السيدة العذراء. واضح الاحترام الذي يلقاه من محيطه، ويقال إنه من بين المؤثرين جداً في القرارات الكنسية في مصر، ويبدو ان له سلطة مالية أيضاً.
وكان هذا الجانب المالي بالتالي مدخلاً للحوار، فقال: «أولاً أن لكل كنيسة نظامها المالي ومن أنشطتها الصرف على الفقراء والمرضى والطلبة والشقق الآيلة إلى السقوط او الخراب بغية إصلاحها، وعندنا لجان لكل عمل.. وأريد ان أؤكد هنا ان الكنيسة لا تستعين بأموال من خارج شعبها ولا تلجأ إلى هيئات او دول او حكومات خارجية».
هو يقول ذلك بغية الرد غير المباشر على أولئك الذين يتهمون الاقباط بالحصول على مساعدات أجنبية، والاستناد الى الخارج في الولايات المتحدة وغيرها للتأثير والضغط على النظام المصري.
وفي شرحه للعلاقة مع الاخوان المسلمين والدولة في مصر، يقول إن: «الذي يحكم العلاقة بين المسيحيين والمسلمين ليس فقط رئيس الدولة، وإنما التيار العام او المناخ العام الذي يسود بين وقت وآخر، ففي أيام أنور السادات مثلاً وحين كان يقول أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة، فإن قوله هذا كان يثير المسلم ضد المسيحي، وكان المسيحي يتألم.. أما حالياً فحين يلتقي الرئيس حسني مبارك بالبابا مرات عديدة ويتفاهمان في شؤون المسيحيين والكنيسة، يشعر المسلمون بأن الدولة متجاوبة مع المسيحيين فيصبح المناخ العام جيداً».
وقد كان الأمين العام لرابطة المحامين الإسلاميين ممدوح اسماعيل، طرح في مقال له مؤخراً أسئلة عديدة وبينها مثلاً: «ماذا يريد الأقباط في مصر؟ فهم، طلبوا كنائس فحصلوا عليها بما لا يتلاءم مع عددهم، حيث إنهم 7 ملايين من أصل 77 مليوناً، وسيطروا على الاقتصاد، ثم صار العرف في البلاد أن يتم تعيين وزراء لهم في كل حكومة، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟».
يجيب الأب مرقص على مثل هذه الأسئلة بالقول: «أولاً أنا اشكره على القول إن رجال الأعمال المسيحيين عندهم 40 في المئة من راس المال، فهذا يعني ان المسيحيين يصرفون على مصر بمسلميها ومسيحييها، أما قوله إننا أخذنا حقوقنا كاملة، فيكفي أن نذكر بأنه في كل مصر لا توجد أكثر من ألف كنيسة ولو كان عددنا 7 ملايين كما يقول، فكل كنيسة يجب أن تستوعب 7 آلاف مسيحي، بينما نجد أن كل كنيسة من كنائسنا لا تستوعب أكثر من مئة شخص، ونحن نقول إن المسيحي القبطي بحاجة إلى حقوق في مصر، بحيث لا يوجد اليوم لا رئيس مجلس مدينة ولا أمين حزب وطني على مستوى الجمهورية ولا مدير أمن ولا أي مسؤول مسيحي في منصب عميد كلية».
وحين يقال للأب مرقص إن في الدولة المصرية نواباً أقباطاً ووزراء، يبتسم قليلاً ثم يقول «المشكلة أن معظم هؤلاء معينون تعييناً، الدولة هي التي تختار وأمين الحزب الوطني لا يرشح نفسه». ويطالب مرقص ببرامج متلفزة للمسيحيين «لكي يفهم المسلم من هو المسيحي فعلاً».
وعلى غرار الكثير من مسؤولي الكنيسة في مصر، فإن هذا الراهب القبطي يلقي ببعض اللوم على الاخوان المسلمين، فهو يقول «ان القرار في مصر داخلي مئة في المئة، ولا يتأثر في الخارج»، الا أنه يضيف: «إن الاخوان المسلمن في الداخل قد يكون لهم تأثير، ولا احد يعرف سياسة الاخوان ومنهجهم، وأنا دخل لعندي مرة عضو مجلس الشعب تابع للاخوان المسلمين في شبرا الخيمة وطرحت عليه بعض الأسئلة حول مشاريعهم ومستقبلهم وآرائهم في الدولة والمسيحيين وتطبيق الشريعة والثقافة والفن والإبداع والمصارف والمرأة...فخرج ولم يعد».
ولأنه خرج ولم يعد، حملنا جزءاً من هذه الأسئلة إلى أحد أبرز أقطاب الاخوان المسلمين حالياً في مصر، وهو الدكتور عصام العريان.
خلافاً لصورته الغاضبة دائماً عبر وسائل الإعلام، فان الدكتور عصام العريان الذي يتخذ من مكتبه في نقابة الأطباء مقراً لاستقبال زواره والإعلاميين، يبدو عن قرب رجلاً سلساً ومنفتحاً، لا تفارق الابتسامة وجهه لا بل ويرفقها ببعض النكات أيضاً على معهود المصريين جميعاً.
يسوي العريان نظارتيه، ينحني قليلا صوب آلة التسجيل، ربما لأن الآلات التي كان يعرفها قبل قضائه سنوات طويلة في السجن لم تكن بالغة الحساسية، ويقول: «أنا أعتقد ان حالة القلق مفهومة، ولكن الاتهام لنا بأننا سبب مشاكل الأقباط، غير مفهوم، لان الدولة هي المسؤولة وليس الاخوان، فهناك نخبة تسيطر على الثروة في مصر وتريد تهميش الجميع، ونحن علاقتنا بالمسيحيين المصريين تاريخية، ولم تشبها منذ 80 سنة أي شائبة أو صدام او خلاف. وغالباً ما نقول إن مصلحتنا المشتركة تكمن في بناء نهضة على أسس اسلامية تحفظ للأقباط حقوقهم في المساواة، حقوقاً وواجبات».
ويروي العريان من خلف نظارتيه وخبرته الطويلة في السياسة المحلية والشؤون الإسلامية، أنه: «كان لدى حسن البنا (مؤسس جماعة الاخوان المسلمين) مستشاران من المسيحيين في لجنته السياسية هما وهيب دوس ولويس اخنوخ، وفي وقتنا الحالي فإن أحد أكبر مستشاري مرشد الاخوان الأخ مهدي عاكف، هو رفيق حبيب الذي ينتمي إلى الكنيسة الانجيلية، ونحن رشحنا على قوائمنا الانتخابية في العام 1987 جمال عبد الملك وهو مسيحي ارثوذوكسي لا بل ويساري ومن أبناء دائرة مشهورة في التعصب هي أسيوط الشمالية، وقد أصدر المرشد العام في حينه دعوة لمناصرته وأصبح بالتالي أول نائب مسيحي يصل إلى البرلمان بأصوات الشعب».
الشواهد التاريخية «الإيجابية» كثيرة حول علاقة الاخوان المسلمين بالأقباط، وفق ما يروي عصام العريان، ولكن ماذا عن الحاضر، لماذا يقلق الأقباط من الاخوان ومن مراعاة السلطة للاخوان في تلبيتها او عدم تلبيتها بعض مطالب الأقباط؟
يبتسم العريان قليلاً، يجدد اعتذاره من الصحافي الأجنبي الجالس أمام مكتبه منتظراً نهاية حوارنا، ثم يقترب مجدداً من آلة التسجيل، ويقول: «إن سبب صعوبة العلاقة حالياً هو التوتر الشديد واستخدام النظام المصري لفزاعة الاخوان ليس لتخويف المسيحين فقط، وانما جميع القوى الأخرى. فنحن تعرضنا لقمع أكثر من الأقباط بعشرات المرات وفي كل العهود، ونحن الذين نعتقل وندخل السجون كلما شاء نظام في مصر أن يفعل ذلك، ولو كانت الأنظمة تراعينا لما تعرضنا لما تعرفون، وهذا بالتالي يسقط دائماً الفكرة الرائجة عند بعض اخواننا المسيحيين من ان السلطات تتخذ هذا الموقف او ذاك مراعاة لنا».
ولكن الأقباط في مصر يقولون إنهم طرحوا أسئلة محددة على جماعة الاخوان المسلمين تتعلق بالشريعة ومستقبل المسيحيين ومفهوم الدولة والحريات، وأن الاخوان لم يجيبوا.
يسارع الدكتور العريان مصححاً: «جاوبنا على كل الأسئلة وطرحنا كل الامور على بساط البحث وتحاورنا مع مسيحيين علمانيين منذ سنوات طويلة، ولكننا في كل مرة كنا نصطدم بمشكلة مفادها ان الكنيسة المسيحية الارثوذوكسية تسيطر على القرار المسيحي في مصر، وهي بالتالي أقفلت الحوار، لأنها تراهن على أن الدولة ستراعي مصالحها. نحن في الواقع نعتبر أن الخطر يكمن اليوم في أن القرار المسيحي بات في يد الكنيسة التي ترى ان مصالحها هي مع الدولة وان الدولة لا تريد حواراً بين الكنيسة والاخوان».
ويتابع : «ومع ذلك، فاننا نكرر اننا منفتحون على الجميع ونرحب بالجميع ونطرح كل القضايا، ولكننا نعرف ان ثمة اسئلة تطرح في سياق الجدل عديم الفائدة، ومن ذلك مثلاً: هل تريدون رئيساً مسيحياً؟ هل تفتحون الأزهر للمسيحيين؟ نحن نقول ان هذه قضايا تعقد الأجواء ولا تمهد للتهدئة او الارتياح، وانما تقفز بنا الى المجهول، فالمواطن المصري المسيحي الطبيعي والطامح لدور سياسي لا يطمح إلى رئاسة دولة غالبيتها من المسلمين، وهذه الغالبية تريد أن تحكمها الشريعة، فكيف يمكن لرئيس غير مسلم ان يكون مسؤولاً عن دولة تريد تطبيق الشريعة؟».
ويضيف : «ان المشكلة إذاً لا تكمن في الاخوان المسلمين، وإنما في سيادة الفكرة الدكتاتورية الاستبدادية، ذلك أن النظام لا يريد حلاً، ويعمل على ترويج فكرة أننا نحن المشكلة، وبعض اخواننا المسيحيين يصدقون ذلك، حتى حين يرون أننا في طريقنا الى السجن».
... انتهى الحديث مساء مع عصام العريان، وتم اعتقاله صباح اليوم التالي، ليس بسبب الحديث وإنما بتهمة الاجتماع بصورة غير شرعية مع عدد من أركان الجماعة والتمهيد لإطلاق حزب سياسي.
ربما من المغالاة الحديث عن طائفية فعلية في مصر، فكل المشكلة هي أن الأقباط المسيحيين يعتبرون أنفسهم مغبونين وان لهم حقوقاً لم يحصلوا عليها كاملة، ويطالبون بمساواتهم مع المسلمين، والمسلمون يقولون إن عدد المسيحيين وطبيعة المجتمع الاسلامي، لا تسمح بالمساواة بين الأقباط والمسلمين في مصر، والواقع ان الكثير من ظواهر الأمور يصعب تفسيرها من دون العودة إلى بعض الحساسيات المصرية، خصوصا في الوقت الراهن، فهل يمكن للنظام المصري الحالي ان يسمح بوصول قبطي مثلاً إلى رئاسة الجمهورية؟ هل سيقبل المسلمون أن يكون على رأس دولتهم المسلمة رجل مسيحي؟ ربما لا ، وعلى الأرجح لا، ولكن ماذا يمنع تعزيز الحضور المسيحي في الدولة ؟
الواقع إن الأقباط المسيحيين في مصر يعترفون لعهد الرئيس حسني مبارك بتحسين ظروف حياتهم، ومن يزورهم اليوم يشعر فعلاً بأنهم يتمتعون بحرية لافتة في مجال التعبير عن مشاكلهم ومطالبهم، لا بل ان حريتهم تتخطى حرية كل الآخرين، وذلك لان النظام المصري يتجنب اثارة قضية يعرف تماما ان الغرب يستغلها حتى النهاية للضغط عليه.
ولكن في نهاية الامر، يبقى الاقتصاد هو شاغل المصريين وسيد همومهم، ومن يزور بعض الكنائس القبطية في القاهرة قد يفاجأ براهب الكنيسة يمسك بذارع سيدة ويقودها خلفه بغية طردها، وذلك لأنها كانت تسرق أو تبيع «ملبناً» مزوراً (عليه طابع كنسي مزور)، وذلك بغية الحصول على قوت يومها، ولو خرج الزائر من الكنيسة سيجد عند اول مفترق طرق امراة مسلمة تخترع طريقة جديدة للتسول. ففي الفقر لا مجال للحديث عن طائفية، والبحث عن حلول اقتصادية، يبقى الهم الأول للمصريين حتى ولو ظهرت على السطح بين وقت وآخر مشكلة قبطية أو «اخوانية».
سامي كليب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد