العلمانية من وجهة نظر رجل دين (2)
(( علمانية )) هذا المصطلح نسبة إلى (( عالم ـ العالم )) على غير قياس. والمعنى به ما يقال (( روحية ـ اكليركية ـ كهنوتية )) أو ما يقابل (( دينية )) بوجه عام.
والمقصود به أن يتولى قيادة الدولة، الحكم وأجهزته ومؤسساته وخدماته رجال زمنيون لا يستمدون خططهم وأساليبهم في الحكم والإدارة والتشريع من الدين، وإنما يستمدون ذلك من خبرتهم البشرية في الإدارة والقانون وأساليب العيش، وتكون الروح العامة التي توجه الدولة والمجتمع في جميع مؤسساته الثقافية والسياسية والتشريعية وغيرها روحاً غير دينية. وفي المقابل ذلك ، أن يتولى قيادة الدولة والحكم رجال يستمدون خططهم وأساليبهم في الحكم من عدة مصادر من جملتها الدين وتكون الروح العامة التي توجه الدولة والمجتمع ومؤسساتها ذات منابع دينية أو متأثرة بالدين.
هذا المضمون لمصطلح (( علمانية )) يتصل ـ كما سنرى ـ بالظروف التي نشأ فيها هذا المذهب السياسي وتطور في أوروبا في عصر النهضة الأوروبية، وما ولّد من صراع بين الكنيسة من جهة والقوى الجديدة في حقول التجارة والعلم والفن والاجتماع والسياسة وغيرها من حقول الحياة في المجتمع السياسي.
وإذن فـ (( العلمانية )) تعني ـ بعبارة أخرى ـ أن تقوم الحياة في المجتمع والدولة على ضوء المعطيات التي يوفرها سير الحياة الطبيعية في العالم، وانطلاقاً من المشكلات التي تثيرها حياة الإنسان في العالم ( في الزمان ). وفي مقابل هذا المصطلح يمكن أن يوضع مصطلح (( دينية )) ثيوقراطية (( يعني به دولة ينظم فيها المجتمع والسلطة على أساس من الدين، ويقودها ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ رجال الدين والمؤسسات الدينية))، وتشيع فيها روح الدين ورؤيته الكونية.
وقد تكوَّن هذان المفهومان السياسيان اللذان يعبر عنهما هذان المصطلحان نتيجة لقناعة تكونت في ظروف تاريخية معينة تقضي بأن المجتمع البشري في أنظمته السياسية وغيرها لا يمكن أن يقوم ويوجد ويستمر إلا على أساس من إحدى هاتين الصيغتين ولا يمكن أن توجد صيغة ثالثة تؤاخي بينهما. ويفهم من هذا الادعاء أن الدين يعالج مشكلات تختلف من حيث النوع عن المشكلات التي يصادفها الإنسان السياسي في المجتمع السياسي القائم في العالم الموضوعي الخارجي، ومن ثم فهو يقدم حلولاً لا تتفق مع طبيعة المشكلات الموضوعية التي يواجهها الإنسان في هذا العالم. فعلى الدين، إذن، أن يتخلى عن التعامل مع الإنسان بما هو عضو في مجتمع سياسي، وعلى الإنسان أن يبحث عن حلول لمشكلاته الناشئة عن كونه يعيش في العالم الزماني الموضوعي في مجال آخر غير الدين هو الفلسفة والعلم. وكما يُفهم من هذا الإدعاء أن الإنسان السياسي يختلف عن الإنسان الديني، يفهم منه أيضاً أن الدين والعلم لا يلتقيان.
ما قمنا به حتى الآن هو محاولة اكتشاف (( العلمانية )) من خارج، ولا يمكن أن تتم عملية نقد ناجحة بدون اكتشاف هذا المذهب من الداخل تمهيداً لدراسة ولادته، وتطوراته ثم تطبيقاته في التاريخ المعاصر، ثم نخلص من ذلك كله إلى اكتشاف إمكانات تطبيقه في لبنان، وما يرجى منه وما يخشى من آثاره.
وإذن فسنواجه الآن عملية تحليلية لمصطلح (( علمانية )) باعتباره مذهباً في السياسية والاجتماع في العصر الحديث.
مَا مَعنى إقَامَةِ الدَّولَةِ عَلى أسَاسٍ عِلماني ؟
هل تعني إقامة الدولة على أساس علماني إدخال منجزات العلم الطبيعي في تداول الإنسان في المجتمع وتيسير حياته وجعلها أكثر غنى وبهجة وراحة بما يوفره له العلم الطبيعي من ثمرات في المأكل والملبس والمسكن والمواصلات وأجهزة الاتصال وتبادل الأفكار وغير ذلك؟ .
من الواضح بمكان أن من السخف في هذه الحالة تسمية دولة ما بأنها علمانية دون غيرها، وتسمية مجتمع ما بأنه علماني دون غيره، فإن أشد الدول والمجتمعات الدينية تزمتاً ومحافظةً لا يمانع في تسيير حياته المادية بما يوفره العلم من منجزات في شتى الحقول والمجالات. وإذن فلا معنى لتسمية دولة بأنها علمانية لمجرد أنها تستخدم منجزات العلم في حياة مجتمعها.
وإذا لم يكن الأمر كذلك فهل يعني كون الدولة علمانية أن نظامها الإداري ونظامها الاقتصادي يقومان على أسس علمية، فالدولة الفلانية لا تدير شؤونها وشؤون اقتصادها على نحو عشوائي غير مخطط وغير مدروس وإنما تتبع في ذلك أصول وأساليب العلوم الإدارية وأصول وأساليب العلوم الاقتصادية، فتبني إدارتها واقتصادها على أساس من ذلك؟
من الواضح بمكان أن أشد الدول والمؤسسات الدينية تزمتاً لا تمانع ـ لأسباب دينية ـ في تنظيم إدارتها وشؤونها المالية والاقتصادية على أسس علمية تضمن لها أكبر قدر من الإنتاجية، بل تسعى إلى ذلك، وتكلف الخبراء لتنظيم شؤونها على أفضل الأسس والأساليب التي توفر لها الإنتاجية العالية مع إتقان العمل. ومن السخف وصف دولة أو مؤسسة بـ(العلمانية) لمجرد أنها تتبع أساليب علمية في الإدارة وغيرها من شؤون التنظيم، وإلا فعلينا أن نسمي الفاتيكان دولة علمانية لهذا السبب.
إن العلم الطبيعي وتنظيم العمل أمور مشاعة في كل المجتمعات وكل الدول، ولا يوجد دين كما لا توجد مؤسسة دينية ـ في هذا العصر على الأقل ـ يقف في وجه العلم الطبيعي أو يرفض بناء إدارة مؤسسات ذات إنتاجية عالمية لأسباب دينية محضة، فالعلوم الإدارية والطبيعية محايدة من هذه الجهة، ليست مع الدين وليست ضده، وهذا من الأمور الواضحة للعيان فيما أمامنا من دول ومؤسسات ليست علمانية بالتأكيد.
وإذن فالعلمانية لا تعني هذا ولا ذاك، وإنما تعني شيئاً آخر غيرهما، وهو عبارة عن أمرين متكاملين لا تكون الدولة علمانية بدونهما هما: الأول ـ مصدر الشرعية في السلطة السياسية. والثاني ـ التشريع الدستوري والقانوني في الدولة.
بالنسبة إلى الأمر الأول تعني العلمانية أن الشرعية التي تخول السلطة السياسية أن تحكم المجتمع وتسيّره وفقاً لمفاهيمها وخططها ليست مستمدة من الله، أعني ليست مستمدة من الدين، فالله أو الدين ليس مصدراً للشرعية التي تتمتع بها السلطة السياسية في الدولة العلمانية، ولا تتوقف شرعية السلطة السياسية على أن تنال اعترافاً بها من السلطة الدينية.
وهذا في مقابل ما كان يسود في العصور الوسطى المسيحية من كون السلطة السياسية في الدولة امتداداً للسلطة الدينية في الكنيسة، ولا تنال السلطة السياسية (الدنيوية) شرعيتها وتبريرها إلا عن طريق اعتراف السلطة الدينية بها.
وقد تقلبت مسألة مصدر الشرعية للسلطة السياسية بين عدة مذاهب واتجاهات طوال العصور الحديثة حتى استقرت أخيراً في الفقه الدستوري ( العلماني ) على اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات، ولذا فهو الذي يعطي الشرعية للسلطة السياسية. أما: كيف يعطي هذه الشرعية؟ وما هي الأساليب التي تكشف إرادته وتفويضه للحاكم أو للهيئة الحاكمة؟ فثمة مذاهب شتى في هذا الشأن تتراوح بين الموافقة السلبية بالسكوت وعدم الاعتراض، وبين الاستفتاء العام، وبين الانتخابات النيابية على اختلاف الصيغ والأساليب التي يدّعي إن رغبة الشعب وتفويضه تستكشف بها.
بالنسبة إلى الأمر الثاني تعني العلمانية لدى دعاتها أن يقوم التشريع القانوني والدستوري في المجتمع والدولة على أساس غير ديني. ويشمل ذلك كل مجالات التشريع بما فيها مجال الأحوال الشخصية للفرد والعائلة من زواج وطلاق ونفقات ومواريث، وما يتفرع من ذلك ويعود إليه.
وإذن فحقيقة الدولة العلمانية وجوهرها يتقوم بأن تكون شرعية السلطة السياسية فيها مستمدة من الشعب، ومن ثم فإن هذه السلطة لا تستمد شرعيتها من الله، وأن يكون تشريعها قائماً على أسس غير دينية.
من الواضح أن هذين الأساسين يتكاملان. فسلطة تستمد شرعيتها من مصدر غير ديني لا يمكن أن تبني تشريعها على أساس ديني شامل ـ وإن كان هذا لا ينفي أن يكون الدين من مصادر تشريعها ـ وسلطة تقيم تشريعها على أساس غير ديني لا يمكن أن تعترف لله أو للدين بأنه مصدر الشرعية التي تبرر ممارستها للحكم.
وإذا كنا نستطيع أن نعطي للعلمانية صفة إيجابية بالنسبة إلى أساسها الأول، وهو مصدر الشرعية، فنقول: إن الدولة العلمانية هي التي يكون مصدر شرعية السلطة فيها هو الشعب، فإننا لا نستطيع أن نعطي للعلمانية صفة إيجابية بالنسبة إلى أساسها الثاني، وهو التشريع، وإنما غاية ما يمكن أن نعطي في هذه الحالة هو صفة سلبية، فنقول: إن الدولة العلمانية هي التي لا يقوم تشريعها الدستوري والقانوني على أساس ديني. إنها دولة لا دينية من حيث مظهرها التشريعي.
وهذا يعني أنه بدلاً من أن يعود الناس ( أو السلطة الحاكمة ) في شأن وضع القوانين والشرائع المنظمة للمجتمع والدولة إلى الدين يستوحون من مبادئه وأحكامهم وشرائعهم ونظمهم، فإنهم يرجعون في هذا الشأن إلى عقولهم ( أو عقول طائفة منهم ) وما تراه هذه العقول ملائماًُ لمصالحهم ـ بحسب إدراكهم لهذه المصالح الآنية والمستقبلية ـ فيشرعون لأنفسهم على ضوء إدراكهم هذا.
وثمة سمة أخرى للدولة العلمانية متفرعة عن الجانب التشريعي منها وهي أن القيم والأخلاق الدينية لا تعود موضع اعتبار واحترام من وجهة النظر الحقيقية للدولة، وإذا كانت أجهزة الحكم في بعض الحالات تتظاهر بالغيرة فذلك فقط لأجل إسكات الرأي العام إذا كانت لا تزال لديه بقية من التحسس بالقيم والأخلاق الدينية.
طبَيِعَة المَسْألَة
إن القوى الفكرية والسياسية العلمانية في العصر الحديث التي دفعت بالمجتمعات الحديثة نحو تبني المذهب العلماني ـ أو فرض عليها ذلك ـ وأقامت دولاَ علمانية ـ إن هذه القوى انطلقت في هذا الاتجاه من منطلق فلسفي ـ سياسي. فالعلمانية ليست نظرية فلسفية تجريدية يمكن أن تدرس دون نظر إلى الواقع اليومي الحي في المجتمع السياسي؛ ولا تؤدي إلى نتائج ذات شأن في الحياة اليومية للمجتمع السياسي كما هو الحال مثلاً بالنسبة إلى مسألة الوجود الفلسفية. كما أنها ليست، في الوقت نفسه، موقفاً سياسياً آنياً كما هو الشأن في مشكلة تتعلق بالحدود أو بالتجارة الخارجية بين دولة وأخرى. وإنما هي موقف فلسفي يتصل بالواقع السياسي والاجتماعي. ينبع من هذا الواقع ويقترح صيغة لغيره.
ومن هنا فلا يمكن المضي في هذه الدراسة قبل أن نفرغ من الإلمام بالخلفية الفلسفية للمذهب العلماني والواقع التاريخي الذي ولد ونما فيه هذا الاتجاه الفلسفي، ثم ندرس العلمانية في مواجهة المسيحية والعلمانية في مواجهة الإسلام.
( المصدر: العلمانية ـ الشيخ محمد مهدي شمس الدين ـ المركز الإسلامي للدراسات والأبحاث ـ بيروت)
من مختارات الجمل
إضافة تعليق جديد