فؤاد التكرلي روائي الجحيم
عندما سمعت اسمه الكامل محمد فؤاد سعيد التكرلي، لاح لي كائنا غير الذي أعرفه، وهكذا قرأت اسم رجاء النقاش مركّبا بعد موته، وتخيلت كم من الأسرار يحجبها الأديب كي يجتاز مفازة الحياة. فؤاد التكرلي الصامت إلاّ عند الضرورات القصوى، لا يبدو عليه وريث عائلة جدها الأعلى مفتي بغداد. كل ما كنت أسأله عنه أن يوضح لي صورة الأخ الأكبر نهاد التكرلي، الناقد الذي صاغ بيان انطلاقة عبد الوهاب البياتي في «أباريق مهشمة» وترجم عن الفرنسية بعض ما يخص الوجودية قبل فـترة انتـشارها عربيا.
كنت أقول لنفسي ما الذي جعل اسم نهاد يندثر من ذاكرة الثقافة العراقية، ويبقى فؤاد في سجلات الأجيال رائدا ومعلما؟ تخيلت سينوريوهات مختلفة لصراع الإرادات بين أخوين يختلفان: مثقف تجاوز زمنه، وآخر ماكث فيه. نهاد السريع العطب والخائف من أن لايباري إبداع من ترجم لهم أو قرأهم، وفؤاد الرخي البال، المتصالح مع الحياة. علي الشوك صديق فؤاد التكرلي، يراه أفضل من كتب القصة القصيرة في الأربعينيات والخمسينيات، وأفضل من كتب رواية بعد أن صدرت (الرجع البعيد). وسيباغت قراء مثلي، قصة طويلة خاف نشرها وخبأها أزيد من نصف قرن وعنوانها (بصقة في وجه الحياة)، تتحدث القصة عن موظف في الشرطة يعاقب بسبب رشوة تلقاها، فيتقاعد عن العمل ليمكث في البيت. يراقب سلوك ابنته الصغرى التي ازدهر جسدها فيما تكسبه الى البيت من مهنتها السرية. الخطيئة التي تراود الأب مع ابنته هي لغز الأنفس المهجورة التي تلوح في الكثير من قصص فؤاد. خطيئة الحياة في تكوينها الأول، براءتها الآثمة، وعفوية رغائبها، وارتكاباتها الفادحة في ما تسميه حدود المحارم.
هكذا كان فؤاد يتمايز عن جيل الماركسيين الذي ازدحم بهم المشهد الثقافي العراقي، والقصصي منه على وجه التحديد. كانوا يرشّون المحبة مثل مسحوق سكّر على وجوه الضحايا والمظلومين، وكان هو ينكأ جروح الكلام بأبطال أنانيين وقساة ومغتصبين، ولكنهم من الفلاحين والطبقات المسحوقة. حين كتب (الوجه الآخر) منتصف الخمسينيات، ونشرها لاحقا، نقض فيها فكرة البطل «الايجابي» حسب المصطلح الماركسي، فمثقفه المسحوق يعود الى قوقعته ماحيا من سجله كل مشاعر التضامن مع القريبين والبعيدين، بمن فيهم زوجته التي يطردها بعد أن تصاب بالعمى. لم يكن بمقدوري تخيله برجوازيا صغيرا، كان بطل (الوجه الآخر) مثل رجل يعيش في الجوار أو في البيت الذي نسكنه، نحبه أو لا نحبه، تلك خطيئة السياسية والاخلاق وليست خطيئة الفن.
قالت عالية ممدوح بعد أن أصدر روايته (المسرات والاوجاع) ان فؤاد من المغرومين بالجنس، لان بطله يمارسه كثيرا. كتمت ضحكة وأنا أتخيل فؤاد المسكين الذي تجاوز السبعين، يكتب عن الجنس مثل الذين بلغوا عمره يبحثون عن الاشياء الضائعة. ولكن (المسرات والأوجاع) تتمشكل بقصص أخرى كثيرة، ومنها الحرب العراقية الايرانية، حيث هي كما يريدها التكرلي، تتحدى القصص والروايات التي صفقت لها، وأشادت ببطل بوابتها الشرقية.
كان التكرلي شأنه في كل روايته، يضع اسكتشات لوجه السلطة البشع، وهو لم يكف عن زياراته المتكررة الى بغداد، ويشتغل في سفارتها بتونس. ذاك درس آخر من دروسه التي لم يتعلمها دعاة الطهارة الثورية. نشر التكرلي أول رواية له (الرجع البعيد) في الثمانينيات، وكانت مفاجأة لمن يجهل أو يعرف التكرلي، فقد كان بطله الذي لم يجرؤ كاتب عراقي على تصويره الى اليوم، من مليشيات البعث في انقلابه الاول، يغتصب عمته ويعيث في الأرض فسادا.
حبس الجمهور أنفاسه بانتظار العقاب، ولكن فؤاد كان يحمل تعويذة عندما زار بغداد بعد نشر روايته في الخارج، ولكن ابتسامته الوادعة وسلامه النفسي وبعده عن السياسة، ختمت على قلوبهم وأفواههم كما يقول العراقيون. وبقي فؤاد في كل رواياته وقصصه ومسرحياته التي نشرها بعد الرجع البعيد، يصور زنازين تحت الأرض، وعصابات تقتل الناس وتختطفهم، وانقلابات يحلم بها أبطاله، ونساء ورجال مثل حواة يفعلون العجب في مناخات غريبة وسرية. ولكنه في كل ما كتب كان يعود الى الزمن الأول، عصر العراق الذهبي كما كان يردد. الحياة الرخية لبغداد، حيث يسهر كل أسبوع صحبة ثلاثة دارت حولهم مسارات عمره : نهاد التكرلي، وعبد الملك نوري، أول منظّر للقصة القصيرة والاقصوصة، والمترجم عن الانكليزية كل ما يراه حديثا من أفكار عن الرواية، سكت نوري عن الانتاج في عمر مبكر، وبقي رابعهم عبد الوهاب البياتي الشاعر الوحيد بينهم. على طاولة تلك الجلسات تمت مباركة أول مجموعة للتكرلي (العيون الخضر) وأول ديوان للبياتي (أباريق مهشمة) ومجموعة مهمة من قصص عبد الملك نوري: (ريح الجنوب) (عبود) (النشيد الاخرس) وسواها.
والى فترة قصيرة يتذكر التكرلي ما ردده مرات: كيف قيض للشعر العراقي الحر أن يحجب ما وصلته القصة العراقية القصيرة من إنجازات. يتنهد مستسلما ليستطرد: العرب يعشقون الشعر.
تغيب معارك الثقافة الخمسينية ببغداد عن ذاكرته، ويتذكر حلو أيامه حين كانت الحياة مثل حلم ليلة صيف، لا نريد الاستيقاظ منه. هكذا كان يقول في آخر لقاء معه في احتفالات المدى. كنت أعرف انه الوداع الاخير، فبغداد لم تكن مجرد ذاكرة قصصية بالنسبة له، فهي المدن مجتمعة في ما نسيه المغترب من أماكن. لنعترف اننا فقدناه. ها.. لنعترف.. يصعب الاعتراف بفقدان الاشياء الجميلة، ولكن ينبغي التسليم بهذا. كانت تلك آخر الكلمات التي سجلها شريط اللقاء.
فاطمة المحسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد