ما الذي يجري على الساحة التركية الداخلية؟
الجمل: في تحرك مفاجئ قدم المدعي العام التركي عبد الرحمن ياليسنكايا عريضة للمحكمة الدستورية التركية يوم الجمعة الماضي طالب فيها بحظر حزب العدالة والتنمية متهماً الحزب بالعمل من أجل تقويض العلمانية، واتهم قيادة الحزب الممثلة في الرئيس التركي عبد الله غول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بالعمل من أجل تقويض الديمقراطية وطالب بحظر نشاطهما السياسي.
* تركيا في مفترق الطرق: جذور الصراع:
برغم الاستقرار الذي تميز به النظام السياسي التركي من حيث الأسس الدستورية والنظام الانتخابي والتعددية الحزبية وتداول السلطة والقوام الدولاتي المستقر للجمهورية التركية، فقد كشفت معطيات الخبرة السياسية التركية المعاصرة بأن الجهود التركية تحمل في داخلها الكثير من بذور الاضطراب والأشكال الخبيئة للبؤر المولدة للأزمات التي ظلت وستظل لفترة طويلة قادمة تمثل أحد أخطر مهددات الأمن التركية الداخلية. وبؤرة الصراع التركي – التركي الرئيسية تتمثل في الصراع بين العلمانية والدين، أما بؤر الصراع التركي الثانوية فتتمثل في الأزمات الفرعية كالأزمة القبرصية والأزمة الكردية وأزمة الأقليات الأرمنية والإيرانية والعربية وغيرها من الجماعات المهاجرة التي استقرت منذ فترات طويلة داخل تركيا. وعلى خلفية هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى استطاع الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك أن يركب على موجة الغضب الشعبي العارم ضد نظام دولة الخلافة الإسلامية العثمانية، وإذا كانت القوى الأوروبية قد نجحت في القضاء على القدرات العسكرية للإمبراطورية العثمانية فإن مصطفى كمال استطاع إكمال المهمة بأن أكمل القضاء الداخلي على حكومة الباب العالي معلناً انتهاء عهد الخلافة وبدء عصر الجمهورية في تركيا. وقد أقام أتاتورك الجمهورية التركية على الطراز السياسي الليبرالي الغربي ولكنه أضاف بعض الاستثناءات عن طريق إضافة بعض النصوص الدستورية التي تؤكد على:
• علمانية الدولة التركية.
• الجيش التركي هو حامي العلمانية.
وعلى هذه الخلفية اندمجت مهمة حماية العلمانية ضمن المذهبية العسكرية والأمنية للجيش التركي ولقوات الأمن التركية إضافة إلى أنها أصبحت بنداً من البنود المعتمدة في أداء وأسلوب عمل المحكمة الدستورية العليا التركية، حيث أصبحت هذه المحكمة تحدد مدى التزام الحكومة المنتخبة بالعلمانية أصبح الجيش التركي متأهباً للتدخل في الشؤون السياسية والإطاحة بالحكومة مت ما ثبت أنها تعمل على تقويض العلمانية.
* نقطة الذروة الجديدة في الصراع حول العلمانية:
بسبب التركيبة الإسلامية السنية الغالبة في تركيا، وبسبب الحضور الإسلامي السني الكبير في تاريخ تركيا، وبسبب موقع تركيا الشرق أوسطي وزعامتها التاريخية للعالم الإسلامي التي امتدت إلى مئات الأعوام، فإن البيئة التركية المعاصرة لم تكن استثناءاً من صعود حركة الإسلام السياسي، وخلال الفترة الممتدة من لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي حتى الآن، والتي شهدت تغيير بيئة النظام الدولي وصعود نظام القطبية الواحدة تحت هيمنة أمريكا بدلاً من نظام القطبية الثنائية، فقد صعدت حركة الإسلام السياسي في تركيا، وكان طبيعياً أن تجد الأحزاب الإسلامية التركية رواجاً وتأييداً شعبياً واسعاً.
أولى محاولات الصعود الإسلامي السياسي كانت في عام 1995م عندما أحرز حزب الرفاه الإسلامي النصر في الانتخابات البرلمانية وأصبح زعيمه نجم الدين أربكان رئيساً للوزراء في عام 1996م على خلفية التحالف الذي جمع حزب الرفاه مع حزب الطريق القويم الذي تقوده الزعيمة تانسو شيلر. ولكن هذا التحالف لم يستمر طويلاً فقد نجحت المحكمة الدستورية في حظر حزب الرفاه وزعيمه أربكان بتهمة معاداة العلمانية. ولم تتوقف محاولات الإسلاميين الأتراك، واستطاع الثنائي عبد الله غول – رجب طيب أردوغان في 14 آب 2001م تكوين حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي كحزب إسلامي محافظ – معتدل، قادر على التعايش مع العلمانية والتقاليد الليبرالية الغربية. واستطاع الحزب أن يحقق صعوداً سياسياً كبيراً في انتخابات عام 2004م عندما حصل على 42% من الأصوات، وفي انتخابات 22 تموز 2007م حصل على 46.6% من الأصوات بما أتاح له السيطرة على 341 مقعداً من إجمالي مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعداً.
السند الشعبي الكبير لحزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي أتاح له السيطرة على البرلمان ومنصبي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء إضافة إلى الحقائب الوزارية الرئيسية، وعلى مستوى قاعدة الحكم استطاع الحزب السيطرة على 71% من البلديات التركية.
* العاصفة السياسية التركية القادمة؟
توقع جميع المراقبين والمحللين أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي لن يطيل المقام في مقاعد السلطة، وبالضرورة أن ثمة عاصفة سياسية قادمة لا محالة، طالما أن هناك العديد من المخاطر والمهددات المحيطة به، ولكن اختلفت توقعات المحللين حول مصدر العاصفة:
• هل يكون مصدرها الجيش التركي صاحب السوابق الشهيرة في القضاء على الحكومات ذات التوجهات الإسلامية غير العلمانية؟
• هل يكون مصدرها الأحزاب العلمانية صاحبة التاريخ الطويل في التحالف مع الغرب وممارسة النفوذ على منظمات المجتمع المدني التركي؟
• هل يكون مصدرها الاقتصاد التركي الذي ما زال يخرج من أزمة ليدخل في أخرى؟
• هل يكون مصدرها حركة الأقليات التركية التي أصبحت أكثر نشاطاً على الصعيد العسكري والدبلوماسي والسياسي الإقليمي والدولي وعلى وجه الخصوص بعد إقامة إقليم كردستان العراقي؟
• هل يكون مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل اللتان ظلتا تجدان في المسرح التركي من المزايا والامتيازات التي لا يمكن القول بأن محور واشنطن – تل أبيب سيتخلى عنها بهذه السهولة؟
* حزب العدالة والتنمية وإدارة المواجهة:
بعد نجاح زعيم الحزب رجب طيب أردوغان في تولي منصب رئيس الوزراء التركي كانت المحطة الثانية في مسيرة الحزب هي منصب الرئاسة التركية، ولكن بسبب تكتل الأحزاب العلمانية في البرلمان التركي ضد مرشح الحزب عبد الله غول، وتحذير الجيش التركي بالالتزام بالعلمانية فشلت جولات التصويت البرلماني في تحديد هوية الرئيس الجديد الذي سيحل محل الرئيس التركي السابق نجدت سيزر. وجد حزب العدالة والتنمية نفسه أمام خيارين:
• التحالف مع أحد الأطراف العلمانية ضمن صيغة لتقاسم السلطة، بحيث يكون منصب رئيس مجلس الوزراء لطرف ومنصب الرئيس للطرف آخر.
• القبول بمخاطرة خوض الانتخابات المبكرة بما يؤدي إما إلى حصول الحزب على مقاعد برلمانية أكثر بما يوفر له الأغلبية المطلوبة لانتخاب الرئيس الذي يريد، أو الحصول على مقاعد أقل وبالتالي يخسر الحزب منصب رئاسة الوزراء ويخرج من الحكومة لصالح خصومه.
وبسبب الدعم والسند الشعبي لحزب العدالة والتنمية استطاع أن يحرز نصراً غير مسبوق عندما حصل على 46.6% من الأصوات بما أتاح له الحصول على 341 مقعداً نيابياً وهكذا نجح الحزب في السيطرة على رئاسة مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية في تركيا.
* المعادلة التركية: توازنات وخارطة الصراعات:
في أول الأمر وقف حزب العدالة والتنمية بموازاة الرأي العام التركي مسيطراً على السلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) والسلطة السيادية (رئاسة الجمهورية) ولكن سيطرة الحزب على هذه السلطات لم يثمر في القضاء على مصادر الخطر وعناصر التهديد بحيث:
• ظلت المؤسسة العسكرية التركية تحت سيطرة هيئة الأركان التركية وقائدها العلماني الجنرال بيو كانيت أليسار.
• ظلت المؤسسة النيابية والقضائية الدستورية التركية تحت سيطرة نفس الطاقم السابق المؤيد للأحزاب والحركات العلمانية.
لم يلجأ حزب العدالة والتنمية إلى خيار إجراء التعديلات المؤسسية في المؤسسة العسكرية والمؤسسة النيابية والقضائية. بكلمات أخر، لم يلجأ رئيس الجمهورية الجديد زعيم الحزب عبد الله غول إلى القيام بإقصاء قادة هاتين المؤسستين وتعيين البديل المناسب للحزب، وبدلاً عن ذلك لجأ الحزب إلى استثمار نظرية الخطر الخارجي باعتبارها السبيل الأمثل الذي سيؤدي إلى:
• تعزيز قبضته على المؤسسة العسكرية.
• تعزيز السند الشعبي المؤيد لحزب العدالة والتنمية.
• شل قدرة المؤسسة القضائية والنيابية في التحرك ضد الحكومة.
راهن حزب العدالة والتنمية على سيناريو الاقتحام العسكري لشمال العراق، وبعد طول انتظار دخل الجيش التركي الشمال العراقي وبعد مرور فترة وجيزة، وعلى خلفية زيارة وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتز المفاجئة، انسحب الجيش التركي فجأة أمام دهشة الجميع وأعلنت الحكومة التركية أن القوات التركية قد أنجزت مهامها المطلوبة في شمال العراق.
الانسحاب المفاجئ أدى إلى تزايد الانتقادات في الشارع التركي لحكومة حزب العدالة والتنمية وبدا وكأن الرأي العام التركي قد أصبح ناقماً على قبول حكومة حزب العدالة والتنمية بالأجندة الأمريكية في المنطقة، وعلى خلفية حالة الانكشاف الشعبي التي تواجه حكومة حزب العدالة والتنمية بدأت القوى العلمانية تحركها الأكثر خطورة في مواجهة الحزب. فقد تقدم المدعي القانوني (النائب العام) التركي بعريضة للمحكمة الدستورية التركية العليا تتهم حزب العدالة والتنمية التركي بالعمل ضد العلمانية بما يخالف الدستور التركية لجهة أن حزب العدالة والتنمية قد وقف وراء صدور التشريعات والتعديلات القانونية الجديدة التي تستهدف تقويض العلمانية ومن أبرزها السماح بارتداء الحجاب في الجامعات والمدارس على النحو الذي يمهد لظهور التيارات الأصولية الإسلامية في المؤسسات التعليمية والأكاديمية التركية، وقد أجازت الحكومة التركية هذه التعديلات خلال فترة الانشغال بالعمل العسكري في شمال العراق.
* لعبة تركيا: اللاعبون وقواعد اللعبة:
لكل لعبة لاعبون وقواعد ومسرح تدور فيه وقائعها، والآن يمكن القول بالآتي:
• اللاعبون في الساحة التركية:
* حزب العدالة والتنمية الإسلامي.
* السلطة التشريعية.
* السلطة التنفيذية.
* السلطة القضائية.
* السلطة النيابية.
* المؤسسة العسكرية التركية.
* الأحزاب والقوى العلمانية.
* الأقليات التركية.
• اللاعبون خارج الساحة التركية:
* الولايات المتحدة الأمريكية.
* إسرائيل.
* الاتحاد الأوروبي.
• قواعد اللعبة: وبسبب الخصوصية المؤسسية للنظام السياسي التركي، فإن قواعد اللعبة تتمثل في الآتي:
* القواعد التشريعية: وتتضمن الإجراءات التي سوف تسير على نسقها العملية القضائية وعلى الأغلب أن تنتظر جميع الأطراف قرار المحكمة الدستورية التركية النهائي.
* القواعد الردعية: خلال هذه الفترة سيسعى حزب العدالة والتنمية إلى تعبئة قواعده في الشارع التركي وسوف تلجأ الأطراف الأخرى العلمانية إلى التعبئة في صفوف المؤسسة العسكرية التركية.
• سيناريو اللعبة: حالياً توجد ثلاثة خيارات أمام المحكمة الدستورية العليا، الأول هو رفض عريضة المدعي العام، والثاني الحكم لصالح حزب العدالة والتنمية، الثالث الحكم لصالح المدعي العام. ونلاحظ أن الخيارين الأول والثاني يصبان في مصلحة حزب العدالة أما الثالث فيصب في مصلحة خصومه، وعلى ضوء قرار المحكمة الدستورية يمكن أن نحدد نتائج اللعبة على النحو الآتي:
* رابح – رابح: وهو سيناريو ممكن.
* خاسر – خاسر: وهو سيناريو ممكن لأن خسارة حزب العدالة والتنمية لقرار المحكمة إذا رفضت الحكومة والحزب تنفيذه فمن الممكن أن يتدخل الجيش ويتولى زمام الأمور تحت مزاعم حماية العلمانية والإعداد لانتخابات جديدة، ولكن الجيش قد يستمر في السيطرة على السلطة خاصة وأن الولايات المتحدة وإسرائيل تدعمان ذلك بقوة وبالتالي يفقد حزب العدالة والسلطة ويفقد العلمانيون أمل العودة إلى السلطة.
* رابح – خاسر: وهو ممكن الحدوث في حالة رفض المحكمة لعريضة المدعي العام أو شطبها في المراحل الأولى، وبالتالي يكون الرابح هو حزب العدالة والتنمية والخاسر هو الأطراف العلمانية.
* خاسر – رابح: وهو ممكن الحدوث في حالة تأييد حكم المحكمة الدستورية العليا لعريضة المدعي العام بشرط أن يتم حل الحزب والحكومة وتتم الدعوة لانتخابات جديدة تفوز فيها القوى والأحزاب العلمانية.
تشهد الساحة التركية صمتاً يشوبه الحذر، وذلك لأن التطورات الدراماتيكية أصبحت محتملة الحدوث في أية لحظة ونلاحظ أن تحرك المدعي العام التركي المتحالف مع خصوم حزب العدالة والتنمية التركي المتحالفين مع أمريكا هو تحرك جاء قبل أيام من زيارة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني لتركيا. وهي الزيارة التي سيكون أمام حكومة حزب العدالة والتنمية مواجهة:
• القبول بخيار ضرب إيران. وتقديم التسهيلات لأمريكا وإسرائيل للقيام بضرب إيران وربما سوريا أيضاً.
• اللجوء لخيار الرفض التام لمطالب نائب الرئيس الأمريكي تشيني بما يترتب عليه احتمالات انخراط الحزب في المواجهة القادمة ضد الخصوم الداخليين الذين سيكونون مدعومين بواسطة الجيش التركي الذي تقوده هيئة أركان مشتركة شديدة الولاء والارتباط بالأجندة العسكرية والأمنية الأمريكية – الإسرائيلية.
أخطر ما يمكن أن يترتب على الأزمة الأمنية التركية القادمة فيما لو انفجرت هو اندلاع المواجهة الشعبية في تركيا، بحيث تجد المؤسسة العسكرية التركية نفسها في مواجهة الرأي العام التركي الذي برغم انخفاض تأييده لحزب العدالة والتنمية فإن من الممكن أن يرتفع هذا التأييد مرة أخرى إلى مستوى غير مسبوق،ولكن كيف يستطيع الثنائي غول – أردوغان إعادة الحيوية لشعبية الحزب خاصة وأن كل الآليات أصبحت تحت تصرف الولايات المتحدة، فالانضمام للاتحاد الأوروبي غير ممكن، وتحقيق التقدم في ملف الأزمة القبرصية غير ممكن، وتورط تركيا في الاعتراف باستقلال كوسوفو بهذه العجلة أدى إلى غضب روسيا التي تخطط لدعم تركيا عن طريق تمديد أنابيب النفط والغاز الروسي إلى أوروبا بحيث تكون حصراً عبر تركيا، حتى تكون لتركيا اليد القوية في الضغط على أوروبا طالما أنها تمسك بورقة النفط والغاز الروسي القادم عبر أراضيها.
من غير الممكن إن لم يكن من المستحيل تماماً أن تقدم أمريكا وإسرائيل المساعدة لحكومة غول – أردوغان ورد الجميل لقيام الحكومة التركية بالاستجابة لنداء الرئيس بوش ووزير دفاعه عن طريق الانسحاب الفوري من شمال العراق، وعلى ما يبدو لن يكون هناك من سبيل أو سفينة نجاة أمام الثنائي غول – أردوغان سوى الدفع باتجاه إرسال الجيش مرة أخرى إلى شمال العراق بما يؤدي لإشعال المشاعر القومية التركية والاستفادة من الزخم الشعبي وانشغال الرأي العام والقيام بتمرير بعض القرارات الجديدة، والتي لابد أن يكون من بينها قرار الرئيس عبد الله غول بتعيين محكمة دستورية تركية جديدة على النحو الذي يضمن صدور القرار ببطلان عريضة المدعي العام التركي وهي العريضة التي سيكون خطرها كبيراً لو قامت المحكمة الدستورية الحالية بقبولها والموافقة عليها في مرحلة القراءة الأولى والثانية.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد