مستقبل العلمانية في الوطن العربي (1-2)
الجمل: ربما كان من الأسلم لباحث حصيف أن يتحدث عن الماضي من أن يتحدث عن المستقبل. فالماضي وإن اختلفت القراءات هو على الأقل وثيقة ومادة بين أيدينا كما أن مناهج دراسته سواء سوسيولوجياً أو انثروبولوجياً أو سياسياً، باتت معروفة ومتفقاً عليها إلى درجة مقبولة. أما التصدي لدراسة المستقبل أو محاولة التنبؤ به فتلك مجازفة غير محمودة العواقب. فليس هنالك حتى الآن منهج علمي في العلوم الاجتماعية، متفق عليه للتنبؤ بالمستقبل، ولا بد من أن تتسرب إلى التحليل أنواع من التمنيات الأيديولوجية أو الحدوس، بل قد يصطبغ التحليل بشيء من التنجيم وقراءة الطالع أحياناً.
ولكن على الرغم من ذلك يبدو أن هناك حداً أدنى من الاتفاق حول الأسس العامة لمعرفة المستقبل، وهو ذلك الذي يقوم على دراسة الحاضر والانطلاق منه لرصد ميول الظواهر المدروسة، مع إمكان الاستعانة بالبعد التاريخي لمعرفة اتجاه تغيرها. ولكن عند هذا الحد هناك اتجاهان:
- اتجاه يقوم على افتراض عدة سيناريوهات للمستقبل، مشروطة بتحليل منضبط ومعقد للوضع الراهن، يمكن عن طريقه تقدير أهميته وبالتالي أرجحية كل افتراض.
- أما الاتجاه الآخر فهو الذي يرى أن معرفة المستقبل، تقوم على افتراض نتيجة مفردة ذات أفضلية تبرهن عليها دراسة الحاضر. وهذا الاتجاه يتبع عادة عندما تتوافر الظروف التي تمكن الباحث من الحصر الدقيق لمتغيرات الحاضر، وبالتالي المعرفة الدقيقة باتجاه تغيرها.
ولكي لا نشتت البحث في سيناريوهات متعددة قد تطول مناقشتها، فسنعتمد الاتجاه الثاني على الرغم من أنه قد يكون أقل حذراً وينطوي على مجازفة الوقوع في انتقائية غير محمودة علمياً ومنهجياً.
وسيقوم هذا البحث بمحاولة استشراق آفاق العلمنة ومعرفة أرجحيات تطوراتها المستقبلية في الوطن العربي.
ولا يعني الحديث عن المستقبل هنا الخوض في أحداث ووقائع تفصيلية، بل رصد الاحتمالات العامة أو الميل العام للحاضر فجوهر التحليل هنا ليس المستقبل، بل الحاضر باعتبار متغيراته هي المحددات الموضوعية للمستقبل، فمتغيرات الحاضر هي التي يمكن تمييزها وتحديدها، والقراءة الموضوعية للحاضر هي التي تشكل الكوابح المفترضة لتمنياتنا الأيديولوجية للمستقبل بحيث تجنبنا من تحويل الحديث عن المستقبل إلى مجرد تحليق في الخيال أو قراءة أكاديمية للطالع.
فما يهمنا هنا هو كشف ميول الحاضر انطلاقاً من متغيراته الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وإلى أي مدى تتكشف هذه المتغيرات عن ميول علمانية؟
ولا بد قبل ذلك من أن نحدد، إجرائياً ما نقصده بالعلمانية.
العلمانية: يهتم الكثيرون بالاشتقاقات اللغوية، فهناك من يقول علمانية، اشتقاقاً من العولمة أو العالمية للدلالة على معايير اجتماعية إنسانية ثقافية عالمية وشاملة (كحقوق الإنسان مثلاً). وهنالك من يقول علمانية من العلم، للدلالة على نمط التفكير العلمي وتمثل معاييره الحديثة والمعاصرة كقيم وسلوك.
على أي حال ولكي لا نقع في مأزق وضع الحدود والأنساق المغلقة والمعرضة للتجاوز دائماً، ولجلاء أي التباس ممكن، فإن هذا البحث لا يهتم بإعادة تحديد مفهوم العلمانية كالعادة الأكاديمية الرزينة، وإنما بالعلمانية كحركة أو كموقف معرفي وسلوكي منفتح على تطور العالم والفكر والسياسة ومن عتبات مختلفة. فما يهمنا هنا ليس العلمانية تماماً إنما ما يؤسس لها.
وهكذا فمختلف الانفتاحات الاجتماعية الإنسانية التحررية والديمقراطية والعقلانية والحداثوية، والتكنولوجية المعاصرة، هي قاعدة وأساس إغناء وتطوير للعلمنة.
والعلمنة وفق هذا الفهم الإجرائي تتجاوز مسألة الصراع مع الدين، الذي فرضته ظروف تاريخية معروفة، مع أنها تتعارض مع الأصولية، مثلاً، أياً كانت، دينية أو غير دينية، أي مع كل تلك النزعات الشمولية وذات البعد الواحد، والمنظومات المغلقة، وحتى لو كانت علمانية... أليس هناك أصولية علمانية؟؟ ليست العلمانية، من هذا المنظور، مفهوماً ثابتاً وناجزاً يمكن توصيفه ببساطة ويسر، بل هي جملة من التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية المنفتحة على المستقبل بحيث لا يمكن حصرها فقط في إطار تضاد الدين والدنيا، بل تندرج في أطر أوسع من ذلك، وهي تابعة لتحولات سابقة عليها في مجالات الحياة المختلفة، ونتيجة لفعل قوى اجتماعية سياسية تاريخية، وبالتالي فالعلمانية ليست بالوصفة الجاهزة التي تطبق أو ترفض أو تحل المشكلات بلمسة سحرية. وهي تتضمن وجوهاً عديدة، معرفية ومؤسسية وسياسية وأخلاقية، ولها قوى اجتماعية تتبناها وتفعلها وتشخصها سلوكياً في الحياة الواقعية بمجالاتها العديدة. ومن هذا المنظور كانت العلمانية دائماً حالة صراع لتحرير المجتمع وتحرير الإنسان من كل ما يعيق تفتح إمكاناته.
ومع ذلك فإذا صح أن نتفق على أن هنالك نموذجاً أو نمطاً مثالياً للعلمانية Idailtype يقوم على مجموعة من السمات المتضمنة في الحرية والعقلانية والديمقراطية، مثلاً، فإن العلمانية المعيشة تختلف من مجتمع إلى آخر بحسب التاريخ الاجتماعي الاقتصادي، والثقافة السياسية وطبيعة مجموعات المثقفين... الخ. وهكذا فالعلمانية كمثال تصبح بمثابة مقياس نموذجي غير متعين تاريخياً، تقترب المجتمعات والدول والأفراد من قمته بدرجات متفاوتة وفقاً لعوامل بنيوية عديدة.
واقع العلمنة في المجتمع العربي
كثيراً ما درست العلمانية، في مجتمعاتنا، ونوقشت على أنها اهتمام وهاجس نخبوي بحث. أو أنها ادعاء نخبوي بمهمة تنويرية لتخليص هذه الجماهير المتدنية الغفل من اغترابها.
والواقع أن نوعاً من الفهم النخبوي المتعلي للعلمنة، أو ما يمكن أن نسميه بحق أصولية علمانية كان أثره بالغ الضرر في إعاقة سيرورة العلمنة، عندما انطلق من عد الدين عدواً وحيداً للتنوير وللعلمنة، وما استجره ذلك من استعداء للعلمانية، أو كحجة من قبل بعض الفئات السلفية لاستعدائها باعتبارها مرادفة للمروق والإلحاد.
ولننتبه هنا إلى أن الأمر يتعلق، أيضاً، بمواقف نخبوية فيما يخص السلفية. فالنخبة الإسلاموية هي التي تتحسس وتعي القوة التدميرية لنموذج الحداثة والمعاصرة العلماني، على قيم الإسلام التقليدية، فتقف بنموذجهعا النظري المذهبي السلفي ضد العلمانية، وليس عامة المسلمين. وهذه النخبة هي التي تقدم قراءاتها للإسلام على أنها الوحيدة الصحيحة. وتحاول قسر عامة المسلمين للانضواء تحت قيادتها الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية والسياسية.
وهكذا في الجانب العلماني، فإن النخبة (الحداثوية والعصرانية)، إذا صحت التسمية، هي التي عرفت العلمانية ووعتها وتبنتها فكرياً ونظرت لها ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وليس عامة الناس، (فالنخبوية الإسلامية كالنخبوية العلمانية ولكن في الاتجاه المعاكس) طبعاً النخبوية ليست شتيمة أو خدعة هنا ولكن بعيداً عن التنظير المتعالم وعن الفهم النخبوي للعلمانية فإن للعلمنة في الواقع المعيش مظاهر غير منظر لها.
إذاً إن الناس في حياتهم اليومية المعاصرة ينفتحون تدريجياً على العلمنة، حينما تضغط عليهم الحضارة المعاصرة فتفرض عليهم التعامل بالأسباب والنتائج، والخبرة والواقعية، وعقلنة الوسائل والأهداف، ومعايير الإنتاج والإنجاز، وبخاصة حينما تضطرهم الحياة المعاصرة إلى أن يهجروا تدريجياً كل ما هو قديم وتقليدي، مهما كان حميماً، وما أزمة القيم التي يجري تحسسها والحديث اليومي عنها بحنين وحسرة إلا مؤشر أكيد لبدء قهر وموت غزيرة وحميمة، نعم، ولكنها لم تعد صالحة للعصر ولإشباع الحاجات التي يخلقها ويفرضها.
وهكذا، من هذا المنظور، يبدو أن سيرورة العلمنة ليست متوقفة فقط على النخبة ودورها التنويري بل هي سيرورة معيشة بمعنى ما.
ونجد في الوقت الراهن أن فهماً جديداً للعلمنة، وأكثر اقتراباً مما هو معيش، أخذ يطرح الآن بما يشبه نوعاً من الاعتزاز عن مواقف نخبوية علموية سابقة. فهو يتمثل بشكل خاص ومحدد بالتركيز على الحريات الدينية أو بالانفتاح على الشعور الديني للناس. وهو اتجاه سائد الآن ويؤكد على أن أهم انفتاحات العلمنة إنما يقوم أساساً على حرية المعتقد. وبخاصة الحرية الدينية، حرية الاختيار الديني، وحرية التعليم الديني. وحرية تملك المؤسسات الدينية، وهذا ما يؤكد عليه الآن العلمانيون العرب في مواجهة أولئك الذين يماثلون بين العلمانية والإلحاد وما جره ذلك من استعداء للعلمانية في المجتمع العربي. فمثلاً، يرد التأكيد على الحرية الدينية في أربع من خمس خصائص نموذجية للعلمانية، يحدد «صادق العظم»(1). ويضع «جوزيف مغيزل»(2) أربع خصائص رئيسة للعلمنة كلها تدور حول الحريات الدينية.
طبعاً قد لا تعني الحرية الدينية النسبة لبعض الفئات السلفية سوى الإلحاد والنوايا الخبيثة ضد العقيدة، ولكن لذلك حديث آخر ليس هذا مقامه.
على أي حال فإن مسألة العلمنة ومستقبلها تتعدى مجرد الملاحظة المباشرة للمواجهة الفكرية والعقائدية بين علمانيين وسلفيين إلى جذور التحولات، في اتجاه تطور المؤسسات والنظم والقوانين والدولة وأساليب الحياة، الأمر الذي يتحكم بآفاق كل من العلمانية والسلفية وهذا ما سنناقشه في الفقرة التالية.
مقدمات العلمنة في المجتمع العربي
إذا نظرنا في تاريخنا الاجتماعي والسياسي منذ أول احتكاك حديث مع الغرب فسنلاحظ تجديداً وتغريباً متزايداً في جميع مجالات حياتنا في الاقتصاد والسياسة والتعليم والقانون وأسلوب الحياة، وحتى في المؤسسة الدينية الرسمية، التي أخضعت الفكر الديني لتكييف مستمر مع المتطلبات الاقتصادية والسياسية للنخب الحاكمة المتغربة الجديدة. لقد بدأت هذه العملية بشكل بطيء وعفوي منذ أواخر القرن الماضي ولكنها تسارعت وأخذت شكلاً نظامياً بخاصة بعد الاستقلالات السياسية والانفتاح الواسع على الغرب. ويبدو أن لا رجعة في ذلك حتى الآن.
وإن كان هذا التجديد والتغريب لا يعني العلمنة، دون ريب، إلا أنه يؤسس لها، ويكون الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الضرورية والمناسبة لترسيخها. في الوقت الذي تتحطم فيه تدريجياً الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التقليدية التي تشكل أرضية السلفية مما سيعني فتح سبل أسهل وآفاق أرحب للعلمنة.
لقد دخل المجتمع العربي منذ أكثر من قرن على الأقل سلسلة من التحولات وتعرضت مختلف بناه التقليدية القديمة لانكسارات وتغيرات قوية، وكان منحى التغير دائماً باتجاه جديد، بحيث لا يمكن إلا أن يلحظ المرء نحو الجديد على حساب القديم في مختلف مجالات حياتنا ومظاهرها من أبسطها إلى أعقدها من الزي والطعام والسكن والسلوك اليومي إلى التربية والتعليم والقانون والفن إلى أحدث الاتجاهات الفكرية والفلسفية في العالم، وبحيث يمكن القول إن الحداثة في مجتمعاتنا قد توطدت وتأصلت في مجالات الفكر والمؤسسات والأيديولوجيا، وقطاعات بالغة الأهمية في المجتمع.
هذه العوامل تضغط وتفعل فعلها في تكوين قيم وسلوكات الأفراد والجماعات بدرجات متفاوتة، ويتنامى رسوخها وتأثيرها في تكوين المتخيل الاجتماعي للفرد العربي المسلم ورؤيته للعالم. وعلى الرغم من ذلك لا يزال هناك من يعود إلى القرآن أو السنة لتفسير أي سلوك أو تقليد سائد أو ظاهرة جديدة في المجتمع العربي، وهي عادة علمية سيئة، درج عليها معظم المستشرقين الأجانب، والعرب أيضاً، متعامين عن حقائق الواقع المختلفة والمتنوعة إلى درجة التناقض في المجتمعات العربية المعاصرة، وعن مشهد قرن كامل على الأقل من التغيير.
لا يزال هنالك فعلاً بعض من الأساتذة العرب في الغرب ممن ينظرون إلى المجتمع العربي من فوق، بعيون السوربون وهارفارد وجورجتان وغيرها فيتحدثون بعبارات فخمة متعالية ورزينة عن ذهنية عربية إسلامية ميثولوجية وبطريركية مضادة للتقدم من عناصرها التسليم للأقدار والانغلاق على الماضي والأوهام اللاعقلانية. وتعدد الزوجات والطلاق والعنف والعداء للأجانب وللمخالفين في المعتقد والدين وهي الصورة السائدة في الغرب عموماً وكأن شيئاً لم يتغير ليس منذ قرن فقط بل منذ بدء ما سمي عصر الانحطاط، إن لم يكن قبل ذلك. وتلقى مثل هذه التحليلات الاستحسان والقبول عند بعضهم، ولكن ليس لصحتها تماماً كما أعتقد بل على الأرجح بسبب الضيق والتبرم من وضع التبعية الذي تعيشه والانبهار بحضارة الغرب وتفوقه ونموذجه ومسيرته العلمانية الظافرة.
لا شك أن من المبالغة المفرطة حقاً، القول إن الهياكل الاجتماعية والقيم والأفكار والتوجهات في المجتمع العربي قد تجددت تماماً وتخلصت من أثقال القديم والتقاليد الدينية وغير الدينية، عداك عن أن تكون قد تعلمنت. ولكن من الصحيح أيضاً ملاحظة الحركة في هذا الاتجاه وتناميها المستمر، ليس وفقاً للحظة واعية وعقلانية، بل غالباً وفقاً لسيرورة مفروضة ومغفلة وعدوانية.
ففي ظل سيرورة العالم المعاصر وإقحام مجتمعاتنا في هذه السيرورة وفي حدود التفوق الراهن للحضارة الغربية وتدفقها على بلادنا اقتصادياً وسياسياً وثقافياً فإن التغيير باتجاهها لا ريب فيه شئنا أم أبينا. وهو تغيير يبتعد عن معايير نموذج العيش التقليدي الإسلامي دون ريب. ومهما أصررنا على تركيب عيوننا في ظهورنا فإن رياح التجديد لا يمكن إيقافها. والتجديد لن يسلم منه حتى كل طويل عمر.
إن الحضارة الغربية تحولت وبدرجات متفاوتة إلى تجربة عالمية وهي بعيداً عن قبولنا أو رفضنا لها ليست خيراً أو شراً بل تجربة اجتماعية ثقافية تمسنا في صميم كياننا فتعيد تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا رادة القيم والسلوكات التقليدية والدينية إلى ما هو بدائي ولا عقلاني. فأولوية المردودية الاقتصادية، مثلاً، وقيم الاستهلاك، وفقدان الموروث عن السلف، بالجريدة والمدرسة والسياحة والنماذج الثقافية والسلوكية التي تبثها وترسخها وسائل الاتصال، وتفكك البنية الزمانية والمكانية نوعياً، وزوال دعائم الدمج الاجتماعي التقليديهي في خط صاعد ومتسارع. ولقد أكدت جميع الدراسات السوسيولوجية الملموسة (الميدانية) أن الناس في مجتمعاتنا الراهنة يسقطون باستمرار من مفاهيمهم وقيمهم الموروث لصالح الجديد ويتبنون أنماط حياة وقيم وسلوك معاصرة بحيث يمكن القول إن الميل التاريخي لتكوين شخصية الأفراد والجماعات في مجتمعاتنا إنما هو باتجاه نموذج لا ريب في ابتعاده عن النموذج التقليدي الذي يشكل الدين مضمونه وجوهره. وهو نموذج غير علماني تماماً، طبعاً، وغير مكتمل ولكنه في مهب رياح التجديد والمعاصرة.
وعى الإنسان ذلك أم لم يعه، إذ أن واقع الحال أن الفرد العادي في مجتمعاتنا غارق في حياته اليومية دون تساؤل يؤرقه عن موقعه بين ما هو موروث وما هو جديد ومعاصر.
فالمثقفون هم الذين يرفعون هذا التساؤل إلى مستوى الوعي ويجعلون منه مشكلة وليس الناس الذين يتدافعون بالمناكب من أجل حياتهم اليومية. طبعاً، لا يحدث كل ذلك دون شروط وتشوهات، وردات ماضوية فنتازية متفرقة وحالات من اللامعيارية الأخلاقية والسلوكية.
وقد يكون في ذلك أحد الأسباب أو المبررات الأخلاقية الأساسية للأصولية المعاصرة وندائها الغيور على الدين «يا غيرة الدين»، نعم، ولكن يبدو أنه قد أصبح من الصعب الآن، أكثر من أي وقت مضى إعادة الناس إلى بيوتهم.
يقال إن المريض يصبح أكثر تشبثاً بالحياة وهكذا القديم يصبح أعلى صوتاً عندما يضيق عليه الخناق وحين يقل إيمان الناس به. لقد أخذت العادات والأخلاق والقيم القديمة تفقد القدرة على إبقاء الرجال والنساء في بيوتهم ولم يعد بالإمكان إعادتهم. لقد دفع ذلك أحد الباحثين إلى القول: «إن الظاهرة الأصولية الإسلامية هي علاقة ذعر وارتباك، وإحساس بالذنب من أن الحدود مع الآخرين قد تم عبورها أكثر منها علامة على الانبعاث»(3). وما سمي صحوة إسلامية انبعاثاً أصولياً إنما هو في وجه من وجوهه الأساسية دليل على الوعي والقلق من أن التغيير قد شق طريقه بالفعل وتعبير عن الإحساس بقوة اتجاه التجديد غير المرغوب لأنه يغير فعلاً الشخصية المسلمة التقليدية في مجتمع أقحم في سيرورة العالم المعاصر ويزداد انفتاحه على العصر بمختلف المعايير.
أما ذلك النوع من المجتمع القديم المغلق الذي كان البشر فيه يرضعون العادات والطباع والمفاهيم مع حليب أمهاتهم فلم يعد موجوداً بل حل محله مجتمع يتعرض فيه الأبناء والأمهات لتخليق جديد وسريع(4).
صراع لا يرحم بين القديم والجديد بين التقليدي والحديث بين الموروث والمعاصر رأى فيه بعضهم صراعاً بين التخلف والتقدم وهو بخاصة في المرحلة المعاصرة يمثل المعادل الموضوعي، لاحظوا هذه المزدوجات هي التي تسير الفكر العربي منذ القرن الماضي حتى الآن وهي التي تشكل النموذج الإرشادي لكل بحث في هذا المجال، إذا جاز التعبير، للصراع الواقعي بين القوي والضعيف. وبغض النظر عن أيهما الحسن أو الحق أو الجميل، فحتى الآن معروف في التجربة التاريخية العالمية أيهما سيسود.
د. سمير ابراهيم حسن
من أبحاث الأسبوع الثقافي الثاني لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في جامعة دمشق عام 1995
الهوامش:
(1) العظم، صادق: «العلمانية والمجتمع المدني»، مجلة النهج، شتاء 1995، ص122 - 127.
(2) مغيزل، جوزيف: «لبنان: من الطائفية إلى العلمنة»، مجلة دراسات عربية، أيار 1977، ص8 - 20.
(3) السماك، محمد: «موقع الإسلام في صراع الحضارات»، مجلة الاجتهاد، شتاء وربيع 1995، ص301 - 318.
(4) أوليدوف: الوعي الاجتماعي، ترجمة ميشيل كيلو، دار ابن خلدون، بيروت 1979، ص132.
إضافة تعليق جديد