"أدب النكتة" : أماط اللثام عن حرب الفكاهة بين حمص وحماه
في كل بلد من بلدان العالم، ثمة مدينة يُقدم أبناؤها ككبش فداء في حروب النكتة وإرساء قواعد الضحك الشعبي... ويغدو اسم هذه المدينة، مرادفاً لكل حالة مضحكة، وحاملاً لكل فكرة كاريكاتورية يبحث أصحابها عن مناخ ملائم لتحويلها إلى نكتة سائرة.. وغالباً ما تُتخذ المدن ذات الطبيعة الجافة، أو المزاج الحاد الذي ينطوي على خصوصية اجتماعية أو ثقافية مختلفة، كحامل للنكتة ومروج لها... إلا أن الحال في سورية يبدو غريباً بعض الشيء... فمدينة (حمص) التي أصبح أبناؤها ضحية للنكتة، هي أكثر بيئات سورية انفتاحاً ووسطية واعتدالاً... وسكانها من أكثر السوريين لطفاً ودماثة... الأمر الذي يجعل ارتداؤها لثوب النكتة، أمراً مثيراً للاستغراب!
ولكن يبدو أن الذاكرة الشعبية والزمن وتقلبات الحياة الاجتماعية عبر العصور، قد ساهمت في تكريس دور مدينة (حمص) الفكاهي في النهاية؛ فاشتهر أبناؤها بأنهم رواة نكتة، وضحايا للنكتة التي يرويها الآخرون عنهم أيضاً... وكتاب: (أدب النكتة: بحث في جذور النكتة الحمصية) للزميل الإعلامي جورج كدر، ابن مدينة حمص... والصادر عن دار رسلان بدمشق، في طبعته الأولى 2009... يسعى لتتبع جذور النكتة الحمصية في التاريخ والأدب والحياة... إلا أنه يسلك مسالك شديدة الوعرة والتعقيد... وخصوصاً حين يغوص في وحول العصبيات الدينية والقومية، وتشكل ما بات يعرف بالفتنة الشيعية- السنية، منذ عهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصراعه الشهير مع معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية في الشام!
- رغم تحمسي الشديد لهذا الكتاب، وطريقة البحث الموسوعي التي اتبعها المؤلف لتتبع جذور النكتة الحمصية، إلا أن المقدمات التاريخية التي ينطلق منها، تحمل الكثير من القيم المرفوضة والمغالطات التاريخية الواضحة... أما ما قصدته بالقيم المرفوضة، فهي الحديث عن الفتن والصراعات الطائفية، بشكل فج ومثير للأحقاد، من دون مراعاة للحساسيات التي يمر بها عالمنا العربي اليوم، وأما المغالطات التاريخية، فهي اعتماد بعض المصادر التاريخية التي تعبر عن وجهة نظر معبئة بحديث الفتنة... وأصحابها لا يملكون المصداقية التاريخية التي تعبر عن وجهات النظر المعترف بها... وحتى لا نبقى في الحديث المجرد، فإننا نشير بصراحة ووضوح، أنه لا يوجد في أي من أدبيات الطائفة السنة ما أسماه المؤلف (لعن الإمام علي) حتى على لسان معاوية بن أبي سفيان... وأن جوهر الصراع الذي حدث بعد مقتل عثمان بن عفان، لم يكن اتهام علي بن أبي طالب بقتل عثمان، كما يشير مؤلف الكتاب هنا، معتبرا جذور النكتة الحمصية تعود إلى الصراع السني الشيعي، فكل كتب التاريخ تذكر أن علياً حمل الماء إلى عثمان عندما كان محاصراً في بيته، وأنه أمر ولديه الحسن والحسين بالوقوف على باب بيت عثمان لحمايته... إن جوهر الصراع، كان اتهام الإمام علي بأنه تهاون في الاقتصاص من قتلة عثمان، وقد أرجأ الإمام علي هذا الأمر حتى يستتب له الحكم... فاستغل بعضهم ذلك، ولعب عزل علي للولاة الذين عينهم عثمان، واعتبروا من أقاربه دوراً في هذه الأزمة، وخصوصاً قرار الإمام علي عزل معاوية من ولاية الشام... رغم أنه لم يكن ممن عينهم عثمان، بل هو من الولاة الذين عينهم عمر بن الخطاب!
إذن شتان في هذه الإشارات التاريخية التي يسوقها الزميل جورج كدر كمقدمات أولى لكتابه، بين اتهام الإمام علي بقتل عثمان وهو اتهام خطير... ثم لعنه على المنابر، وجميع المسلمين في الشام وغيرها في تلك الفترة، يعلمون أنه من العشرة المبشرين بالجنة، وأنه أول فدائي في الإسلام، وأنه ابن عم الرسول، ولا يمكن لأي مسلم عاقل يعرف أبسط أبجديات الدين في ذلك الزمن أن يقبل بلعن شخصية على هذا القدر من المكانة الدينية مهما كانت الأسباب سياسية... وبين حالة الدهاء التي استخدمها معاوية برفع قميص عثمان على المنبر، من أجل المطالبة بالاقتصاص من قتلة عثمان، ثم تثبيت موقعه كحاكم على الشام!
وبالمقابل لا يعقل أن يخوض الإمام علي سجالاً - رداً على لعنه على منابر الأمويين- بلعن بعض صحابة رسول الله وأبناءهم على المنابر (كما أورد مؤلف الكتاب) وهو الذي نهى أهل العراق على لعن أهل الشام لأن فيهم (الأبدال) كما يورد مؤلف الكتاب نفسه... فكيف ينهى الإمام علي كرم الله وجهه- عن فعل ويأتي بمثله وهو واحد من رجال القدوة العظماء في تاريخ الإسلام؟!
ويبدو أن الزميل جورج كدر، لم يع خطورة بعض الروايات غير الموثقة التي أوردها، من قبيل قوله إن معاوية صلى الجمعة بأهل حمص يوم الأربعاء... إذ كيف يمكن لكاتب الوحي مهما بلغ من الجرأة، أن يبلغ به العبث بحدود الله، حد تغيير موعد صلاة الجمعة لأي سبب كان، في زمن غير بعيد من عصر النبوة، وفي دولة كانت تحكم باسم الدين، ويقاتل جيشها ويفتح الأصقاع من أجل نشر هذا الدين... وإذا كنا نقبل هذه الواقعة حين يوردها المؤلف كرواية شعبية شائعة، لا يعرف من أطلقها، فهل يمكن أن نقبل بها كواقعة تاريخية محققة وموثقة؟!
- لا أريد أن أستفيض في الوقوف عندما ما حفلت به هذه المقدمات التاريخية من تسرع واستسهال في البحث التاريخي، فحتى (مروج الذهب) للمسعودي، لا يخفي عداءه للأمويين شأنه شأن كل المصادر التاريخية القديمة... ويبدو أن المؤلف استقى صورة الأمويين من بعض كتب التراث التي كتبت في عهد العباسيين، وكانت تعتبر شتم الأمويين وإلصاق أسوأ الألقاب والنعوت بهم، أمراً مرحباً بهم، إن لم يكن مشجعاً بصراحة، وهو ما أدى إلى تسويق صورة تتناقض مع أبسط أبجديات الدين الذي كانت أوامره ونواهيه عاملا أساسياً في صناعة ذلك التاريخ!
وعلى أية حال، يبدو أن هذه المقدمات التي انطلق منها المؤلف، ما هي إلا مدخل للولوج إلى عالم آخر، وليست مقصودة بحد ذاتها... وأعتقد أن قيمة هذا الكتاب هي في بحثه التالي بعيداً عن فرضية أن النكتة الحمصية هي نتاج الصراع السني الشيعي، التي لم يستطع رغم كل ما أورده وجمعه من روايات أن يقنعنا بها!
وأهمية البحث تبدأ في رأيي فيما قاله المؤلف تالياً، وخصوصاً حين يوضح أن تاريخ النكتة الحمصية يتألف في قسمه الأعظم من التاريخ الشعبي الذي عاش حراً طليقاً لكونه بعيد عن تاريخ السلطان... وهذا ما يجعل تاريخ النكتة الحمصية قائماً على قدر كبير من الغموض، وخصوصاً أنه ينقسم إلى قسمين: الأول هو (الرواية الشعبية) والثاني هو (المصادر التاريخية).
ولعل أبرز الروايات الشعبية التي تروى عن أصل النكتة الحمصية، وعن دواعي اتهام أهل حمص بالحمق والجنون، الأمر الذي جعل الحمصي شخصية نمطية جاهزة لكل النكات... هو أنه عندما اجتاح تيمورلنك بلاد الشام كانت المدينة الوحيدة التي سلمت من أذاه هي حمص، لأن سكانها تظاهروا بالجنون في الشوارع، وعلقوا على رؤوسهم القباقيب، وأخذوا يقرعون على الصحون النحاسية، وأشاعوا أن مياه العاصي تصيب كل من يشربها بالجنون.. وهذا ما جعل الجيش الجرار الذي يرافق تيمورلنك يمر مرورا سريعا بحمص... وقد حدث ذلك يوم الأربعاء فاعتبر هذا اليوم هو (عيد الحماصنة) وبعبارة أخرى: عيد الجنون الحمصي الذي تروى عنه النكات!
ويوضح المؤلف في موضع آخر- أن صراع العصبيات المحلية في سورية، أخذ يتحول من طابعه العصبي إلى مزاح وتسلية منذ فترة طويلة وتحديداً بعد عصر الهزل الذي ساد العصر العباسي، ويمكن القول إن ذلك حدث بعد أن اندملت جراح السوريين، مما ألحقه بهم تيمورلنك، ولاحظنا الطابع الهزلي لهذه المصيبة التي حلت بأبنائها للتخفيف من وطأتها على الذاكرة الجمعية.
- تعتبر العلاقة التناحرية بين مدينتي حمص وحماه، المتجاورتين على مجرى نهر العاصي في وسط سورية، من مرتكزات النكتة الحمصية... فقد استخدم أبناء حماه، النكتة لإذكاء روح الدعابة والهجاء مع أخوانهم الحمصيين... إنما من دون أن تفسد النكتة للود قضية... وكان من الطبيعي لأهالي حماه المشهورين بالجدية الزائدة والالتزام الديني الذي يصل حد التعصب أحياناً... أن يرووا الدماثة والوسطية والميل للمرح لدى جيرانهم الحماصنة مدعاة للتنكيت... حتى تحول الأمر إلى (حرب فكاهية حقيقية) ورغم أن مؤلف الكتاب لا يسهب في الحديث عن هذه العلاقة التي كانت ملهمة للباحثين في فن النكتة الحمصية طويلاً، إلا أنه يقدم لنا صورة مختزلة عن الجذور التاريخية لهذه العلاقة، لما أسماه (الأعداء الحميميين) إذ يروي لنا قصة مسرحها القرن التاسع عشر، عن الشيخ محمد الهلالي الحموي الذي كان ينظم الشعر والموشحات وكان الناس في حمص وحماه شديدو الإعجاب بمنظوماته... الأمر الذي أزعج شيخاً حمصياً هو الشيخ مصطفى زين الدين، الذي كان رجلا أكولا يعشق أصناف الطعام... وقد تفتق ذهنه الوقاد على طريقة خاصة للانتقام من منافسه الحموي وتسخيف أشعاره... عبر معارضتها بأخرى تتغزل بالطعام... فكان كلما خرج الشيخ الحموي بقصيدة تتحدث عن الجمال والحب والغزل... عارضها منافسه الحمصي بقصيدة على نفس البحر والقافية بقصيدة تتغزل بأطايب المأكولات والأطعمة... ويورد جورج كدر، مثالا طريفاً في هذا السياق، إذ يقول الشيخ الهلالي الحموي:
يا بدر حسن كم سهرت أراقبه
والليل مالت للغروب كواكبه
ما من كليم الوجد أنت مصاحبه
إلا ومغناطيس حسنك مجاذبه
أما الشيخ الزيني الحمصي فقد عارضه خصمه الحموي بالقول:
يا صدر بصما كم برزت أحاربه
والقطر طابت للنفوس مشاربه
ما من أرز واللحوم تصاحبه
إلا ومغناطيس بطني جاذبه!
- لعل أهم فصول الكتاب، وأكثرها إضافة لجهد جورج كدر في توثيق وتتبع جذور النكتة الحمصية هو الفصل الذي تحدث فيه عن عيد المجانين المندثر، إذ يشير هنا أن أهل حمص كانوا يحضرون لأعياد الربيع القديمة يوم الأربعاء الذي هو يوم شؤم لدى العرب... ولهذا لا يمكن عزل ما يشاع من وسم الحمصيين بالجدبة (العته) وأنه لهم يوم في الأسبوع يحتفلون فيه 'بجدبتهم' هو يوم الأربعاء 'عيد المجانين' سواء كان ذلك بهدف التسلية أو الجد، عن تاريخ المدينة بشكل عام والأعياد التي تقام بها أمثال: (خميس الضايع- أي التائه- وخميس الشعنونة، وخميس المجنونة، وخميس القطط وخميس البنات، وخميس الأموات وخميس المشايخ)... أما عيد المجانين (خميس المجنونة)، فقد كان موجوداً كإحدى احتفالات أعياد الربيع، وكان اليوم الذي ينقلب فيه النظام الاجتماعي تماماً وكان يشتمل على تصرفات الإباحية، دعت كل من رآها من التجار أو الرحالة أو المسافرين إلى اعتبارها سلوكيات شاذة فاعتقدوا أن في هذا الشعب لوثة!
وصورة مقاربة لهذا العيد يوردها مؤلف الكتاب في حديث احد المؤرخين عن (خميس المشايخ) في حمص... حيث يركب مشايخ الطرق الصوفية الأكاديش ويتظاهرون وهم عليها، بالبله والاسترخاء، وإسالة اللعاب في الأفواه ويتبعهم مريدوهم.. وكان هؤلاء المشايخ قبلا يأتون باسم الدين فيما يأتونه من حركات الخبال والسخف، وأكل النار والزجاج، وضرب السفود والاتكاء على السيوف، والدوس بأكاديشهم على ظهور الرجال الممدين، وغير ذلك مما ينكره الدين ويمجده العقل السليم!
ويبدو أن عيد المجانين قد تلاشى تدريجيا بفعل التشدد المتزايد في المواقف الاجتماعية، ومن المتوقع ألا نجد عنه في أيامنا كما يشير المؤلف- إلا أثراً مبهماً على شكل تسمية فقدت معناها... وإن لم تفقد تجلياتها في العمق الحقيقي لجذور النكتة الحمصية!
-إن كتاب (أدب النكتة بحث في جذور النكتة الحمصية) هو جهد أكاديمي دؤوب، يتوخى فك أسرار هذه الحرب الفكاهية على مدينة حمص وأهلها، عبر الإيغال في أتون الصراعات الدينية والسياسية ومحاولة تأويلها، وفي بطون كتب التـاريخ والمثيـولوجيا والأديان ومحاولة استنطاقها... ولكن بسبب هذا الاهتمام بتلك الجوانب، نراه يغفل محاولة استقراء الواقع الاجتماعي اليومي المعاش، الذي يشكل المختبر الحي لتلك النكتة... صحيح أنه يجمع لنا عشرات الطرائف الحديثة التي تروى عن حمص والتي تنتشر على مواقع الانترنت... وهذا قد يعطي مؤشراً هاماً على حركة الواقع الاجتماعي في تفاعله مع النكتة اليوم... لكن هذه النكات، كان يمكن أن تشكل مادة لأفكار تحليلية وبحثية يمكن أن تغني صورة الكتاب!
إلا أن هذا كله أو أية ملاحظة أخرى... لا ينفي أن جهد جورج كدر، يمثل إضافة هامة لموضوع شيق وطريف، تمت معالجته بقدر عال من الوضوح والجاذبية الفكرية واللغوية... وقد عبر جورج كدر عن حبه لمدينته حمص بهذه الطريقة البحثية التي أبرزت جانباً من جوانب فرادتها في الذاكرة الشعبية وفي الأدب الضاحك... وربما عبّر عن الشخصية المنفتحة البعيدة عن جذور وأهواء التعصب، حين اختار لغلاف هذه الكتاب، لوحة كاريكاتير للفنان السوري علي فرزات ابن مدينة حماه التي طالما شنت حرباً فكاهية على جارتها حمص، متهمة أهلها الظرفاء والنجباء بالهبل الجميل!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد