'السقف العالي': ثقافة الحرية في مواجهة الاستبداد المتجدد!
قدم برنامج (تحت المجهر) على قناة (الجزيرة) هذا الأسبوع، فيلماً وثائقياً هاماً بعنوان (السقف العالي)، حاول أن يروي قصة الصراع التاريخي من أجل حرية التعبير في مصر... منذ عهد الأتراك حيث لجأ بعض صحفيي ومفكري بلاد الشام إلى مصر هرباً من ظلم الأتراك فأسسوا صحفاً ومجلات كالأهرام والهلال... ثم عهد الاحتلال الانكليزي وصراع الجوع إلى الحرية والاستقلال مع المستعمر، مروراً بعهد الملك فاروق فثورة يوليو وعبد الناصر، ثم عهد الرئيس السادات، وانتهاء بعهد الرئيس مبارك الذي يقترب من إتمام العقد الثالث له في رأس هرم السلطة مواكباً ثورة أشكال التعبير الجديدة عبر الإنترنت والمدونات ومواقع الفيس بوك والتويتر وسواها من (المصائب)!!
وبالطبع فأسهل صراع من أجل الحرية هو الصراع مع المستعمر الدخيل... لأن قيم الحرية والاستعباد... والتبعية والاستقلال تبدو واضحة ومفروزة فيه... بخلاف الصراع مع الأنظمة الوطنية، حيث يغدو الحديث عن الحرية مؤامرة واستهدافا للوطن كما تروج أبواق الإعلام الحكومي دائماً!
وقد كان لافتاً أن أنصار كل عهد، كانوا يعتبرونه الأكثر اتساعاً في هامش حرية التعبير... فأنصار العهد الملكي رأوا أن المد الحقيقي للتيار الليبرالي كان في العهد الملكي... وأنصار ثورة يوليو اعتبروا أن الثورة قد حققت في سنواتها الأولى الكثير من حرية التعبير... فيما اعتبر بعض المستفيدين من نظام حكم مبارك الحالي أن حرية التعبير في عهد مبارك غير مسبوقة في مصر على الإطلاق!
إلا أن ما يهمنا هنا ليس الدفاع عن هذا العهد أو ذاك... بل تأمل الأفكار النقدية والتحليلية التي تستطيع أن تقدم وجهة نظر جديرة بالاحترام بعيداً عن الاستقطاب السياسي أو العاطفي... وفي هذا السياق قال أحد المتحدثين في الفيلم إن عبد الناصر منح الناس مزيداً من التحسن في أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية مقابل تقليص هامش حرية التعبير... وأنه كرجل صاحب كاريزما وحضور، كان يستطيع أن يبرر التناقضات التي حفل بها عهده... وهو أمر يبدو مرتبطاً بوقائع ودلالات ملموسة، منها أن عبد الناصر كان يجب أن يرى أفلاماً سينمائية إشكالية مثل (شيء من الخوف) أو (ميرامار) بنفسه كي يسمح بعرضها بعد ذلك... ولا شك أن في هذا تناقض خطير مع أبسط مبادئ وتجليات حرية التعبير، حتى لو سُجّل لعبد الناصر أنه سمح بعرض تلك الأفلام وسواها... لأن تدخل رئيس الجمهورية في إقرار عرض فيلم سينمائي يعني أنه قد ألغى كل بنى وآليات ممارسة حرية التعبير التراتبية التي سمحت بإنتاج أو تصوير تلك الأفلام قبل أن تصل إلى الرقابة وبعدها!
ومن الأفكار الهامة التي طرحت حول حرية التعبير زمن السادات... أن الرئيس محمد أنور السادات، رفع سقف حرية التعبير في عهده، لا حباً بالحرية أو الديمقراطية، بل من أجل أن يفتح المجال واسعاً لشتم مرحلة جمال عبد الناصر... وأنه في الأزمات التي واجهها نظامه ومنها ثورة الجياع التي سميت بـ (ثورة الحرامية) أثبت أنه غير ديمقراطي على الإطلاق. وأعتقد أن هذه الفكرة مهمة جداً في تأمل دوافع الانفتاح الشكلي في هامش الحرية الذي يتغنى به اليوم أنصار عهد السادات، عاقدين مقارنة حادة مع كم الأفواه والتعذيب في السجون الذي حفل به عهد عبد الناصر!
وكان واضحاً في الفيلم أن الصحافة والفن هما أبرز مجالين يحتدم فيهما الصراع حول هامش حرية التعبير، ولذلك نجد أن معركة منع الأفلام أو محاولة مصادرتها لم تتوقف في أي عهد... ففيلم (البريء) للراحل عاطف الطيب شاهده وزراء الداخلية والدفاع والإعلام من أجل إجازة عرضه... وفيلم (بحب السيما) للمخرج هاني فوزي اعترض عليه الأقباط، ومنع عرضه بسبب احتجاجات الكنيسة القبطية... أما في مجال الصحافة فحدث ولا حرج عن الصراع الحاد مع سلطات المنع والقمع والمصادرة، التي وصلت في عهد الرئيس مبارك الذي تغنى فيه بعض المتحدثين من أصحاب المناصب إلى صدور حكم حبس بحق أربعة رؤساء تحرير في القضية المعروفة.. علماً أن قضايا الحبس تتم تحت ذرائع وتعابير مطاطة من قبيل أنه يعاقب على الحبس بكذا من يقوم بـ (إهانة شخص الرئيس) وتفسير هذه العبارة يخضع للمحكمة والقاضي فقد يكون الحديث عن صحة الرئيس إهانة له!
وإذا كان تجريم وحبس الصحافيين إحدى مظاهر قمع حرية الصحافة؛ فإن سياسة حجب المعلومات هي كذلك اعتداء على حرية الصحافة في المعرفة... وتعتبر هذه النقطة من أهم النقاط التي ناقشها الفيلم، إذ لا حرية مع التعتيم والتجهيل... ولا حرية مع تقييد حق الناس في المعرفة وتداول المعلومة التي لا تمس أمن الدولة... مع العلم أن هناك قانوناً مصرياً يبيح حق تداول المعلومة لكن لا يعمل به.. وإذا كان مناصرو النظام من أصحاب المناصب والامتيازات الذين ظهر بعضهم في الفيلم، يحبذون حبس الصحفيين كي لا ينتقدوا ويشهروا بالمسؤولين الشرفاء بلا دليل ولا معلومة... فإن مباركتهم لسياسة حجب المعلومات أو سكوتهم إزاءها تبرز في الجانب الآخر... حجم التوازن والموضوعية الذي يتمتعون به في قضية حرية التعبير.
ولا يغفل الفيلم دور التشدد الديني في محاولة محاصرة حرية التعبير... لكنه يتعامل مع هذه القضية بذكاء، لأنه يشير إلى قضايا الحسبة التي يرفعها المتشددون الإسلاميون ضد بعض المبدعين، مثلما يشير إلى مظاهر التشدد التي تتورط بها الكنيسة القبطية، وهو بذلك يؤكد أن التشدد ليس حكراً على الإسلام كما يريد أن يروج بعضهم، لكنه سلوك يصيب كل المتعصبين والمنغلقين في مختلف الأديان!
ولعل أهم ما يركز عليه هذا الفيلم الهام في النهاية أن حرية التعبير التي نراها في مصر اليوم ليست إلا كلام في كلام كما يقول بعض المتحدثين، فهي عبارة عن مربع محدد بهامش معين، لكنه محاصر ومعزول عن غيره (اتكلم ومالكش دعوة بغيرك) وفي الوقت الذي كان يتحدث بعضهم في نهاية الفيلم عن أن سقف الحرية في مصر عال جداً كانت الصورة الوثائقية ترد على هؤلاء حيث المصادمات وقوات الأمن المركزي تقمع التظاهرات في الشوارع، ومانشيتات الصحف تعلن اعتقال المدونين... وهكذا ينتهي الفيلم إلى التأكيد على أن حرية التعبير لم تكن في يوم من الأيام منحة من أي حاكم، بل هي صراع مرير يخوضه المجتمع ونخبه من صحافيين وكتاب ومفكرين وفنانين من أجل أن يوسعوا الهامش خطوة.. خطوة!
إن فيلم (السقف العالي) رغم غلبة الإيقاع البصري السريع على مونتاجه، ومحاولة تقديم إيقاع مثير يربط الأفكار ويقاطعها حيناً ويجتزؤها بشكل غير مفهوم حيناً آخر... ورغم الملاحظات التي يمكن أن تؤخذ على انتقاء كوادر تصوير بعض الضيوف... يبقى عملاً جيداً ومشغولا بعناية وإتقان، وهو يعطي تصوراً جيداً عن ثقافة الحرية في مصر... تلك الثقافة التي تجد من يدافع عنها بإيمان، فيدرك أنها حق أساسي وليس تعدياً على حدود الدولة، كما يحدث في بلدان عربية أخرى... صارت ثقافة الحرية غريبة عن شعوبها لشدة عملية الترويض والتدجين التي تعرضت له، ليس في الصحافة والإعلام فقط بل في كل مجالات الحياة ومنافذ التنفس ومعابر استنشاق الهواء!
مسلسل شتم 'الجزيرة': إعادة بلا إفادة!
هجوم قناة (حنابعل) التونسية الخاصة، على قناة (الجزيرة) عبر برنامج زادت مدته على الساعتين ونصف وتعاون فيه الأشقاء المصريون مع التونسيين في شن الهجوم الصاخب، واتهامها بأنها (تعمل وفق أجندة مشبوهة لزرع بذور الفتنة عربياً) لا يضيف كثيراً على تاريخ الشتائم التي تعرضت لها القناة وإن كان يضيف بعض الشهرة للقناة التونسية المحدودة الانتشار... فمتى لم تكن بذور الفتنة والصراع على مناطق الحدود والخلاف على سبل دعم القضية الفلسطينية، والمعاملة بالمثل في احتضان المعارضين لأسباب كيدية لا أكثر... متى لم يكن هذا كله قائماً بين دويلات العرب.
الطريف أن (الجزيرة) اتهمت في البرنامج إياه أنها (تستهدف أمن واستقرار تونس ومصر)... وكأن الإعلام والاستقرار هنا وهناك يتهدده خبر إعلامي أو برنامج حواري يبث على قناة فضائية، فهل أزمة الرغيف في مصر هي من صناعة (الجزيرة) مثلاً وهل إضراب عمال المحلة الكبرى وراءه تخطيط (الجزيرة) وهل قضايا حقوق الإنسان في تونس من فبركة (الجزيرة)؟!
إن معظم من أبلوا بلاء حسناً في الهجوم على (الجزيرة) أمثال أسامة السرايا ومجدي الدقاق وعبد الله كمال، هم من أبناء ورعايا ثقافة النظام الحاكم... وهم من دعاة الإعلام التجميلي الذي يهتف للإنجازات، ويشم رائحة المؤامرة وراء كل حديث نقدي جريء... ولذلك لا عجب أن يروا في (الجزيرة) كل هذه الموبقات!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد