تجربة تخطيط المدن في الحضارة العربية - الاسلامية
عندما كتب المقريزي كتابه المشهور بالخطط المقريزيـة «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» قدم إدراكاً مجتمعياً وفردياً لمتطلبات المدن وتخطيطها قبل تسعمائة سنة ما زالت مؤسسات تنظيم المجتمعات وإدارة المدن والمصالح تحتاج إليه.
فقد عرض الخريطة الاجتماعية والعمرانية لمدينة القاهرة، من الطرق والحارات والقلاع والمساجد والكنائس والدواوين والحمامات والخانات والأسواق والزوايا والمدارس والقناطر والجسور والبرك والبساتين والميادين والآبار، وأهلها وطوائفهم وحرفهم ومهنهم وأحوالهم وأخبارهم وقادتهم.
ذلك أن المدن والبلدات والأحياء والبيوت تخطط وتبنى وفق البيئة والطبيعة المحيطة وما تتيحه من موارد للبناء بأقل تكلفة ممكنة وبما يحقق الاحتياجات المادية والثقافية التي تلائم الأفراد والمجتمعات، الجمال والأمان والتهوية والإضاءة والتدفئة والتبريد والخصوصية والراحة والسعة والانكفاء والقرب من العمل والمدارس والأقارب والأصدقاء والترويح والتواصل مع الناس والمكان ومواجهة المشكلات البيئية كالحر والبرد والوعورة، والحصول على الماء بسهولة وبأقل تكلفة، وتنشأ حول ذلك منظومة من المهن والعلاقات والموارد التي تنظم حياة المجتمعات والدول.
هل تعبر المدن العربية اليوم في تخطيطها وتشكيلها عن هوية سياسية وثقافية لدينا؟ هل تشكل الطبيعة والبيئة عنصراً أساسياً في تخطيط البيوت والأحياء لدينا؟ فعلى سبيل المثال: هل تشكل الطاقة الشمسية المتوافرة مصدراً للإضاءة والطاقة والتدفئة والتبريد؟ وهل تشكل ندرة المياه وفرص توافرها في الشتاء أساساً لتخزين المياه وإمكانية الحصول على كل قطرة ماء عزيزة عذبة ونقية؟ وهل تشكل الندرة إياها أساساً لتخطيط صرف المياه وإعادة استخدامها في ري البادية والغابات والمراعي النادرة والمدمرة ابتداء؟ هل نحن مضطرون لبناء البيوت بمواد مستوردة مستنفدة؟ وهل يمكن بناء البيوت وتجهيزها بمواد أولية متاحة ومتجددة؟ وهل تصمم البيوت بالفعل لمواجهة الشتاء والصيف؟ وهل ينسجم تصميم البيوت والأحياء والشوارع واختيار المواد والتجهيزات مع اتجاهنا الاجتماعي الراسخ نحو الخصوصية والانكفاء؟
المدن العربية والإسلامية تواجه اليوم أزمة كبرى تهدد الموارد والحياة الاجتماعية والاقتصادية، ففي تخطيطها القائم على مناطحة البيئة والجغرافيا، وفي الثقة المفرطة بما يمكن أن تقدمه التقنية الحديثة دمرت وضيعت خبرات وقواعد مجتمعية في تخطيط المدن والأحياء وتدبير الاحتياجات الرئيسية كالماء، وتصميم البيوت والعلاقات والمرافق، وأصبحت المدن اليوم في أزمة خانقة من التلوث والزحام والخطورة والضوضاء والفجوات الاجتماعية والاقتصادية والتريف والعشوائية في النمو والإدارة.
وربما يكون التطور التقني المعلوماتي والاتصالي الجاري اليوم أساساً معقولاً لاستعادة الخبرات والتجارب التراثية في تنظيم المدن وتخطيطها وفي الوقت نفسه المحافظة على الحداثة والتقدم التقني، وهذا ما جرى في مدن أوروبية عدة، فهل يمكن استعادة الفرص المجتمعية والتراثية في مواجهة أزمات المدن العربية؟
قامت المدن غالباً بجانب الأنهر والمصادر المائية وحولها، وفي حالة من التطور العمراني والتقني والفرص التي أتاحتها التقنية في النقل والبناء وجدت المجتمعات وإدارات المدن نفسها لا تحتاج إلى تنظيم شبكات المياه اعتماداً على الأنهار والمصادر التقليدية مثل آبار جمع المياه، وقد أدى ذلك إلى أنماط جديدة من الحياة والاستهلاك عجزت المدن عن تلبيتها وفقدت في الوقت نفسه مصادرها التقليدية، فنهر الزرقاء الذي أقيمت عليه مدينتا عمان والزرقاء ونهر بردى الذي أقيمت عليه دمشق تحولا إلى واد شبه جاف إلا من السوائل الملوثة بالصرف الصحي، وتوقف بناء وحفر الآبار والبرك لجمع مياه الأمطار، وحولت الموجودة والكثير منها محفور منذ مئات وآلاف السنين إلى أماكن مهملة وقذرة، وعجزت شبكات نقل المياه عن تلبية احتياجات الناس، وتسرب شبكات المياه في عمان أكثر من نصف المياه التي يجري ضخها من مسافات بعيدة تمتد لمئات الكيلومترات ينفق على ضخها عشرات الملايين ثمناً للوقود والتقنيات، وتحتاج إلى أكثر من خمسمائة مليون دولار لصيانتها، وكان نقلها من مصادرها سبباً في تصحر وإفقار هذه المناطق، فبحيرة الأزرق التي كانت واحة صحراوية تأوي إليها الطيور والحيوانات البرية وتقوم حولها حياة زراعية وحضرية تحولت إلى قاع صحراوي جاف، وحولت الأنهار والسيول التي كانت تروي وادي الأردن وتعوض نقص المياه في البحر الميت مما يهدد البحر بالانحسار والاختفاء نهائياً.
وفي المقابل فإنه عندما تلوث نهرا التايمز (الذي تقوم عليه لندن) والسين (الذي تقوم عليه باريس) في مرحلة من النمو الصناعي والعمراني وتراجعت الحياة المائية في النهرين أعادت السلطات «سلطة نهر التايمز وسلطة نهر السين كما تسمى رسمياً» أعادت تأهيل النهرين، واتخذت سلسلة من السياسات والإجراءات وعمليات الصيانة حتى عادت الأسماك إلى النهر، بل وبدأت الحيتان تأتي من المحيط الأطلسي إلى نهر التايمز بحثاً عن الأسماك والغذاء، وهذا مؤشر على الحالة الصحية التي عاد إليها النهر.
فليس هناك علاقة منطقية ضرورية بين جفاف النهر وتلوثه وبين النشاط العمراني والصناعي، بل المفروض هو العكس، فهذه المدن التي تقوم على الأنهار ومصادر المياه يرتبط بها بقاؤها وازدهارها لأنها بتدمير مصادر المياه تلغي نفسها، والمطلوب ببساطة ووضوح هو حماية مسار النهر وروافده ومصادره لتبقى كما في التاريخ والجغرافيا «حرماً» لا يمكن أن يكون ملكية خاصة، ولا أن يقام فيه أو في حوضه أي شكل من أشكال البناء، وتخطط الأحياء والمباني لتتجه مياه الأمطار والمسيلات تلقائياً في مسارها الذي يفترض ألا تعترضه مبان ولا شوارع، وهذا ليس أمراً صعباً، بل العكس فإنه يقلل الخسائر والتكاليف، فابتعاد الإعمار عن هذه الأودية سيحمي حياة الناس ويحافظ على مصادر المياه أيضاً ويديمها، وانسجام مخططات الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار مع الطبيعة والبيئة سيبعد مياه الأمطار عن شبكة المياه العادمة، والشبكة نفسها عندما تصمم على نحو ملائم للطبيعة فإنها لا تحتاج إلى تقنية وضخ ورفع للمياه عن منسوبها، وبالتالي فلن تحدث اختناقات في هذه الشبكات لأنه بذلك يمكن تقليل إلى الحد الأدنى وصول مياه الأمطار والمواد الصلبة إليها والتي تفوق قدرتها على الاستيعاب ولا تناسب طبيعة تصميمها وأغراضها.
إنك ترى في أحياء عدة في المدن الأردنية (على سبيل المثال)، التي أنفق على بنائها وتخطيطها البلايين، شبكات الصرف الصحي متفجرة في كل مكان وتفيض بالروائح والقاذورات وكأنك في مناطق بدائية متخلفة، والسبب ببساطة هو مناطحة البيئة والجغرافيا والإصرار على تحديهما، فكثير من البيوت والعمارات لا ترتبط بشبكات الصرف إلا بالضخ الكهربائي لأنها مبنية تحت مستوى الشبكات، ولا يريد الناس والمخططون أن يعرفوا أن الأمطار تسقط في الشتاء وأنها يجب أن تسلك في أودية ومسارات طبيعية، ويجب أن تبقى متروكة لها وإلا فإنها ستبحث عن أي ثغرة في الشوارع والمنافذ المتاحة وتلقي فيها ما تحمله من حجارة وتراب..!
ولم ينشأ في وحول المدن كما يفترض حياة اجتماعية وثقافية وطبقات مهنية تقود المجتمعات والدولة، فما زالت المدن العربية تدار ويخطط لها على رغم كل الموازنات والقرارات والضرائب التي تجبى والانتخابات النيابية والبلدية والمهنية والعمالية التي تجرى فيها منذ عشرات السنين على طريقة لا ترى في المواطنة ضرورة المشاركة، وإنما التفويض القائم على مفهوم المواطن باعتباره زبوناً ينتخب مقابل خدمات معينة يتنافس المرشحون في تقديمها، أو يقررها له موظفون معينون.
وثمة اختيار واع ومسبق لكنه غير مستمد من حراك المدن وتصميمها جعل مواطنيها خليطاً متنافراً غير منسجم من السكان الأصليين والوافدين والمهاجرين والمغتربين والأغنياء والمسؤولين والأثرياء الجدد الذين هبطت عليهم الثروة بسبب بيع الأراضي التي تضاعفت أثمانها، كيف ستنتخب هذه المجتمعات نوابها في البرلمان وممثليها في البلديات والنقابات؟ وكيف ستصوغ هوية المجتمع والدولة وثقافتها؟ وكيف ستدير احتياجات المدينة والأحياء من التعليم والانتماء والمشاركة والتضامن والجوار والمصالح والأعمال والمهن؟
فالمدن العربية تكاد تكون تجمعاً ريفياً عملاقاً، وهذا التريف يمس القضايا الثقافية والاجتماعية، ويعيد أيضاً صوغ الحياة السياسية والديموقراطية، على نحو يبعدها عن أهـدافها، فالتمدن ليس حاجة ترفيـهية أو فلسفية، ولكنها ضرورة يقتضيها نشوء المدن، فلا يمكن إقامة مدن وجامعات ومجالس نيابية وشركات ومصانع، من دون أن يصاحب ذلك ثقافة مدينية لإدارتها وتنظيمها.
وبالطبع، فإن أول ضحايا التريف هي الانتماء والمشاركة والديموقراطية، التي لا يمكن ترسيخها بلا مدينة، وما يدور من حوارات ومحاولات للتنظير للديموقراطية، وما تبذله الولايات المتحدة، على سبيل المثال، من جهود تبدو غير رسمية يقوم بها دعاة إسلاميون، يطوفون في الدول العربية والإسلامية، ينظمون حوارات ومؤتمرات، يشارك فيها مدمنون على الفنادق والمؤتمرات، وقادرون على التأكيد أن لا تناقض بين الإسلام والديموقراطية، أو يؤكدون على تحرير المرأة... يمضي بنا بعيداً عن الفهم الحقيقي.
فالديموقراطية عقد اجتماعي مع المكان، وتحققها منظومة سياسية واجتماعية، وشروط بيئية محيطة، تجعل تنظيم الحياة السياسية والعامة عقداً يلتزم به الأطراف جميعها، وتجد فيه مصالحها، ومن دونه تضيع هذه المصالح، وتتعثر عمليات تحقيق الحاجات الأساسية، وهذا لا يتم إلا في مدينة حقيقية، يتجمع فيها الناس وينظمون أنفسهم على أساس مصالحهم واحتياجاتهم، وتقوم على طبقة وسطى كبيرة ومؤثرة.
وتشكل الصحراء معظم مساحة الوطن العربي، والصحراء بعامة تشكل ثلث مساحة الكرة الأرضية، ويمكن أن تمثل منظومة اقتصادية وثقافية تبدأ بالرسالة الإسلامية وحضارات ومدن وطرق القوافل والزهد والتمرد والصفاء والعزلة والمقاومة والكفاح والحب والعشق والثأر، والعروبة؛ ولكنها أيضاً أكثر من ذلك بكثير، فهي يمكن أن تكون إطاراً لحضارة شاملة تشمل المدن والموارد والزراعة والصناعة والتجارة والسياحة.
إن إعمار الصحراء وإقامة تجمعات سكانية حضرية مرتبطة بهذه الصحراء اقتصادياً وثقافياً أصبح أمراً ممكناً وبتكاليف مادية وفنية قليلة نسبياً، وسيجعل تطور وسائل الاتصال والإعلام وانتشار الطرق ووسائل النقل ذلك أمراً يسيراً ينقل الصحراء العربية من الفقر والجدب إلى العطاء والتنمية.
إبراهيم غرايبة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد