حـروب المقابـر: ليـس المـوت إحـدى الراحتيـن
الموت، «خيانة وجود» كما يرى شكسبير.والذي يزيد الموت «موتا» و«خيانة» في المجتمعات المحتربة المضطربة، ديمومة القلق واستطالته، حتى أن الموت يصبح رديفا للحرب. والعلاقة بينهما، تتم بشكل كلي، دامجة ليس فقط المتحاربين، وليس فقط الشعوب المتحاربة، بل أيضاً تالفة، وبحركة هستيرية، لكل ما هو حياة وعمران وثقافة.
ما ستحاوله هذه الصفحات، هو قراءة في المقابر في الضاحية الجنوبية من بيروت.وقد تجمعت فيها، الظروف التي تؤهل الديموغرافية الشيعية، المتعددة الانتماءات العائلية والقروية والمناطقية، وتعطيها طابعها المدفني الاجتماعي الجديد. ففي الضاحية، تتساكن مجموعات «مدنية»، مع جماعات وافدة إليها، «تجانسها» الوحيد فيما بينها، جدة تواجدها وحاجتها المادية، لا بل فقرها، والشعور بدونية اجتماعية في مقابل الأهل الأصل في الضواحي، بالرغم مما يوصل الطرفين من وحدة في الدين ووحدة في المذهب.
تستند هذه الدراسة إلى مسح ميداني شامل، حتى أواخر العام 2005، لسبع مقابر «لبنانية» في الضاحية الجنوبية: الطيونة والشياح وبئر حسن والرادوف وبرج البراجنة وحي السلم وروضة الشهيدين. وقد توزعت قبورها ال«18142»، ما بين 9702 قبرا معرفا و 8440 قبرا يغيب عن شواهدها تعيين بلدة المنشأ الأم. وهذه عادة قروية بامتياز....
ونحدد بداءة، أن الضاحية، في عالمها المدفني، ليست من نمط عالم مدينة بيروت. فالضاحية «مدينة» في طور التكوين لم تكتمل بعد. أما بيروت فهي مدينة شرق المتوسط التي كانت تتحرك، ولا أحد يستطيع اللحاق بها، ولا أن ينافسها، كما يكتب فيها سمير قصير. بيروت هذه الكوزموبوليتية من فوق أديمها، هي كوزموبوليتية من تحت هذا الأديم. حيث تغتلي في داخل بعض مقابرها آلاف القبور، في تظاهرة أممية صامتة، يتوزع «المشاركون» فيها على دول وأحداث ومواقع مترامية.
بيت عنكبوت كثير عاللي بيموت!
يمثل احتلال المقابر الخطوة الأخيرة من الحرب، أو بالأصح يكون ثمرة الانتقام الأولى. وفي الحروب اللبنانية، كان احتلال المقابر والعبث بالأضرحة فيها، يعني النصر المؤزر البين لواحد من أطراف الحرب. وهذا ما عناه مثلاً تحطيم «خشخاشات المسيحيين» من سكان الضاحية الجنوبية ومدافنهم مطالع أعوام الثمانينيات. وهذا ما عناه كذلك، فتح مقام قبر إمام الشيعة في الضواحي الشرقية من بيروت، الشيخ رضا فرحات، وتحويله إلى محل لتصليح التلفزيونات. وهذا ما يفسر أيضا تحطيم بعض قبور أهل اليسار، عندما تجيش نفس بشيء من معميات الرد السياسي .
والمقابر درجات بأهلها. فهي تستكمل الدرجات الاجتماعية في الحياة الدنيا. ينقل ابن جبير ذلك منذ مئات السنين، وبإيجاز نبيه: «أهل دمشق رتبهم في جنائزهم»، وفي مقابرهم بالطبع. وما ينقله ابن جبير عن درجات الجنائز، أي مراتب المتوفين قبل الدفن، يمد به السيد محسن الأمين، فيقيم صلة سببية لصيقة ما بين منزلة القبر وبين منزلة صاحبه. وهذا هو بالضبط ما يعنيه السيد عندما ينظم في رده على الوهابيين:
إن القبور كمن حوته تفاوتت
في الفضل والشرف القديم الأتلد
ولا يخفى أن سلم التفاوت بين القبور، ولنقل حروب الصامتة للقبور، في عرف السيد محسن الأمين، يقوم على التقسيم الهرمي للمقابر، حيث تمثل قبور الأئمة الشيعة رأس هذا الهرم المدفني. ثم تأتي قبور الكبار من علماء الدين والأعيان، حيث تكون وجهة جثامينهم مقبرة دار السلام في النجف، أو مقبرة الست زينب قرب دمشق. تبركاً بوجود مرقد الإمام علي في المقبرة الأولى، ومقام ابنته السيدة زينب في الثانية. أو تكون في صحن الجامع الذي طالما كان العالم إماما فيه. أو يكون القبر، إذا كان الميت عينا، في صحن جامع ابتناه، أو في حسينية أقامها، عنوان عطائه وتقديماته. وتكون درجات المقابر كذلك، في المقابر الخاصة بالعائلات الدينية وبعائلات الزعامات والوجهاء. أما المقابر الخاصة بالعامة، والتي لا تردّ ميتاً، حسب المثل الشعبي، فهي مقابر لأهل المحلة جميعهم. ولكن صفة العمومية للمقبرة، لا تعني أن نزلاءها سواسية في تموضعهم أو في هيئة قبورهم في داخلها.
أول الحرب... كلام!
تبدأ «حروب» الأموات، من لحظة إعلان خبر الوفاة وتبليغه. وتمتد في التشييع أيضا. حيث صار التشييع في المدينة يدور في صمت أثناء الوفاة العادية الطبيعية، ويدور على وقع دوي الشعارات السياسية ، أثناء قتل طائفي أو سياسي. هذا في الوقت الذي كانت فيه «الحوربة» في سنوات ما قبل الحرب الأهلية، أساساً في مراسم التشييع، بكل ما تحويه من دلالات عن الموقع الاجتماعي أو السياسي للفقيد، وبما تحويه من دلالات عن هذا الفقيد في عيون الآخرين. انتفت الحوربة من التشييع في المدينة، فانتفت بذلك الترسيمات الاجتماعية «البلدية»، واحتل محلها ترسيمات جديدة، سياسية على الأغلب.
إن التراجع عن فعل الحوربة، علامة على فعل المدينة وأثرها. ولكنه علامة كذلك، على فعل السياسة والأحزاب في مضمون الحوربة. فاستبدال الحوربة بهتافات الأحزاب، هو «السياسة» فوق رأس الميت. وقد تكون «سياسة» تنزل على أسرة الفقيد وأهله من حيث لا يدرون، أو تتنزل على قلوبهم برداً وسلاماً، ولكنها في الأحوال جميعاً، تبقى سياسة تفرضها الأحزاب محرّضة على فعل سياسي أو مبلّغة له. فغير قليل أن نرى خلافات في السياسة، تدور في أضيق أوقات الانشغال بأمور تدبير الجثمان قبل مواراته الثرى، ما بين دائرة الأهل والأقارب والأصدقاء، وفقاً للميول السياسية التي تتنازع هؤلاء. وقد تذهب هذه الخلافات، بكل رهبة الموت وحرمة الميت. فالأهل، أبناء وأخوة وأقارب، أي حلقة الحزن المر الضيقة، لا يرون في لحظة الموت سوى سكوناً وتأملاً، لا يتسع لجلبة السياسة ومطالبها. لا بل يرون إلية خضوعاً واستجابة، لكل مستدركات الائتلاف الاجتماعي الأهلي في لحظات الافتراق بالموت وفي لحظات تسلم الباري وديعته.
ثم يأتي إطلاق الرصاص، وهي ظاهرة قديمة في الريف اللبناني. ثلاث رصاصات كانت تعني بلاغاً عن وفاة رجل. ثلاث رصاصات من بارودة صيد على الأغلب، وهي عادة لا تطول البلاغ عن وفاة امرأة أو طفل. كانت فقط رصاصات ثلاث لدى كل الطبقات الاجتماعية. ولكن انتشار السلاح، وتفاوت مراتب الضحايا، ومواقع هؤلاء من اجتماع المحلة أو التنظيم الحزبي، وأشكال موتهم ومأساويته أحياناً، كل ذلك، عوامل أحلت غزارة إطلاق الرصاص ظاهرة رئيسة في مراسم الإبلاغ عن الوفاة وتشييع الضحايا. أسلحة كثيرة، وأنواع طلقات متعددة من الرصاصة الصغيرة إلى القذائف الصاروخية العالية الفعل والدوي.
الشهداء: جراح الضحايا فم
تضم مقابر الضاحية 2401 ضريحا، يتشرف أصحابها بلقب شهيد. ويتوزع هؤلاء المقابر وفق الأعداد والنسب البرج 248، بئر حسن 11، الرادوف 277، روضة الشهيدين1695، الطيونة 34، حي السلم 52، الشياح 84).
ويبدأ تحديد صفة المتوفى، شهيدا، على شواهد قبور ثلاثة تعود إلى العام 1958، عام الثورة نهاية عهد الرئيس شمعون. ثم تختفي هذه الصفة من على شواهد القبور حتى العام 1970، حيث تعود وتتكرر تسع مرات، ما بين العامين 1970 و 1974 ، وهذا يعني أن عدد الشهداء، في مقابر الضاحية حتى نهاية العام 1974 هو 12 شهيدا (6 في برج البراجنة، 3 في الشياح، 2 في الطيونة، وشهيد في مقبرة الرادوف).
طفرة الشهداء تبدأ مع الأحداث اللبنانية العام 1975، حيث بلغ شهداء هذا العام في مقابر الضاحية السبع 51 شهيدا. ثم يستمر سقوط الشهداء بوتيرة عالية، حتى العام 1990، حيث يتراجع العدد بعد ذلك، وفق خط بياني متساوق، مع فرقات مقبولة في المعدلات حتى العام 2000،. ثم تنخفض مجددا لتصل إلى حدود دنيا العام 2005.
نتجاوز في حديثنا هنا، افتراق انتساب الشهداء ما بين منطقة وأخرى في لبنان، ونلاحظ بأن شواهد 925 قبرا تحدد أسباب الاستشهاد ومناسبته، مقابل 1476 شاهداً، تكتفي من الأمر بصفة «الشهيد». ونشير بداية، إلى أن التأويل السياسي في قراءة أسباب الشهادة، لا تنسحب على شهداء الإسعاف والدفاع المدني (12شهيدا) ، وعلى بعض زوار الأماكن المقدسة (10 شهداء)، ولا على الأطفال (52 شهيدا) ممن تجمعهم صفة شهيد.
وفي قراءة لأسباب الاستشهاد بعامة، نرى من ناحية أولى، أن كل عائلة أو كل جماعة تعين سبب استشهاد فقيدها. ونرى من ناحية ثانية، أن مقاييس الشهادة متضاربة إلى حد كبير. فليس من جامع يجمع بين شهداء ثكنة فتح الله (إثر صدام بين حزب الله والقوات العربية السورية العام 1987)، وبين شهداء غير مجازر عدوة إسرائيلية، حيث موقع القاتل وموضوع القتل وجوديان ثابتان، صراع حتى النصر أو الشهادة.
كذلك فإن هذه المقاييس المتضاربة، تخفي في الغالب اهتزازاً لركائز التضامن والتماسك الاجتماعيين. مما يفسح في المجال أمام بروز خطوط الصراع السياسي والعصبي لدى الجماعة الشيعية في لبنان. وما كثرة الاحتفالات الخاصة «بأيام» الشهداء المتعددة، سوى شبهات وتهم تطال هذا التماسك. حيث تبدو هذه المناسبات على مقاسات العائلة أو القرية أو الحزب، إذ يندر أن نرى في الاحتفال الخاص بشهيد، حضوراً غريباً عن المحيط العائلي أو البلدي أو الحزبي لهذا الشهيد. وقد يصل الأمر أحياناً إلى نكران الشهادة، فيتم إسقاط أسماء بعض الشهداء من لائحة شهداء المحلة أو البلدة. وكذلك تعرض العائلات والجماعات الحيز العائلي أو الحزبي أو حتى القومي أو الأممي لحادث الاستشهاد، بأبعاده جميعاً. يعرضون ذلك، وكأن هذا الاستشهاد قاعدة تاريخهم، ينسبون إليها ما بعدها. وفي التدليل على هذا الأمر، تشكل كلمة «مجزرة» (مجزرة عدلون 1978، ومجزرة صبرا 1982، ومجزرة دردغيا 1984، ومجزرة فتح الله 1987، ومجزرة حارة حريك 1989...)، الصفة الأكثر سطوعا وبروزا. سيما وأن قبور أصحابها ترتصف متجاورة وتوشك أن تكون على هيئة واحدة. وأمر القتل والجزر هنا، ليس توصيفا لسلوك «غير إنساني» في القتل، فللأمر دلالاته اللبنانية، فهو يعني أن حالة العداء تبقى صاحية إلى أقرب الأجلين.
أما في التوصيف السياسي المباشر للشهادة، فهو من أول الاعتبارات التي تجهد الأطراف في تأكيدها، تعزيزا لدورها السياسي، واستثمارا لشرعية وثقل وحجم حضورها السياسي. وهذا ما يفسر ما كان يحصل أحيانا في حروب 1975-1982، ويتمثل في ظاهرة لجوء بعض التنظيمات المسلحة، إلى شراء جثامين قضى أصحابها في قنص أو في حوادث اشتباكات مشبوهة في حي أو زاروب، وتطويب أصحاب هذه الجثامين شهداء في حسابات هذه التنظيمات. ويكون المقابل في الغالب، إتمام هذا التنظيم مراسيم التشييع، بما يليق بالشهيد: عراضات مسلحين بآلياتهم العسكرية وثيابهم المرقطة، وبشعاراتهم السياسية تتوزع يافطات كثيرة وميكروفونات سيارة في جموع المشيعين. والشهيد هنا، باب استثمار عائلي في توازنات القرى، وسياسي في توازن ما بين التنظيمات المسلحة، ومجال استثمار مادي لدى الجهات «المانحة» لهذا التنظيم، إذ أن المنح كانت تحدد وفقاً لأعداد الشهداء القرابين.
أما في انتساب الشهداء في مقابر الضاحية الجنوبية، فنلاحظ أن اللائحة تكاد تخلو من أسماء شهداء ينتسبون لتجمع أحزاب الحركة الوطنية، لولا أسماء اثني عشر شهيدا، يعودون لخمسة من أحزابها (خمسة شهداء لحزب البعث، ثلاثة للحزب الشيوعي، إثنان للحزب القومي السوري الاجتماعي، شهيد واحد للحزب التقدمي، وشهيد لل«مرابطون»). وهذا رقم صغير لا يدل على حجم شهداء الحركة الوطنية في تلك المرحلة. ويعود الأمر إلى سياسة الأحزاب، التي كانت ترى في دفن الشهداء في مقابر بلداتهم الأم، خير رسالة تعبئة وتحريض، وأسرع وسيلة للم الشباب وتأطيرهم مقاتلين في صفوفها. سيما وأن تشييع هؤلاء كان يتم وسط حضور شعبي كثيف، ووسط عراضات لمسلحي الأحزاب، يطلقون فيها العنان لأسلحتهم على أنواعها، تعرض نيرانها بغير حساب.
وتضم لائحة الشهداء ، شواهد 194 قبراً تحمل صفة الشهيد المظلوم. وتعني الشهداء الذين سقطوا بنيران صديقة، أو قتلوا حتف رعونة وسوء استعمال السلاح، وإدارته خارج ميدان جهاد القضية الأكبر. ولكن الشهيد هذه المرة شهيد محدد التنظيم والانتساب.
إن صفة الشهيد المظلوم المغدور، تستدعي مباشرة السؤال عن القاتل الظالم، وعن القاتل الغادر. وتعني أن هناك قاتلا معرفا ومحددا، أي قاتل من لحم ودم. مقيما في الحي أو البلدة أو الطائفة، أو مقيما في الجوار القريب المباشر في غير حي أو بلدة أو طائفة. وتعني هذه الصفات كذلك، إقامة أهل الشهيد على حد الرد المباشر وحد الثأر والانتقام، دفعا عنهم لتهمة الذل والهوان إن لم يبادروا إلى التصرف. وهنا بالضبط، نستذكر الأسطورة العربية التي تتحدث عن طائر وهمي اسمه «الهامة»، طائر من طيور الليل، وكانت العرب تزعم أن القتيل الذي لا يؤخذ بثأره ، تبقى الهامة تزقو عند قبره وتقول: اسقوني دما اسقوني دما ، حتى يدرك بثأره فتطير. والأسطورة ليست أفكارا مرتجلة خفيفة. إنها تاريخ مقدس، أو أنها تاريخ نموذجي ينبغي احتذاؤه.
أما صفة «شهيد المقاومة الإسلامية» (228 شهيداً) على شواهد القبور، فهي تعني بداهة، والمقاومة في أوج فعلها، سقوط هذا الشهيد في مواجهة مع عدو، هو إسرائيلي في المحل الأول والأخير، اعتبار أن الفرد يصير عضواً مقاوماً في حزب الله، بعد دورات ومحكات صارمة من الالتزام، ومن الانضباط في استعمال السلاح تحت راية المقاومة الإسلامية. ولكن هذه المساحة، من اعتبار العدو إسرائيلياً وحسب، تضيق لدى النظر إلى شهداء حركة أمل (279 شهيداً)، مع المواجهات الدموية التي خاضتها الحركة مع آخرين كانوا، في مرحلة ما، «أعداء»، لأن كل مواجهة دموية لن تكون إلا مع أعداء، بالتأكيد. فقد كان على الحركة في مراحل تموضعها في الضاحية، بدءاً من أواخر السبعينيات، خوض مواجهات مع أطراف عديدين: مقاتلي القوات المشتركة مع أحزاب الحركة الوطنية والمنظمات الفلسطينية. ثم مواجهة المقاتلين الفلسطينيين في حرب المخيمات أواسط الثمانينيات. إلى مواجهات مع السلطة اللبنانية والتي أوصلت إلى انتفاضة شباط 1984. ومن هذه الزاوية بالضبط، يأتي اختيار الآية القرآنية «إن الأبرار لفي نعيم وإن الأشرار لفي جحيم»، تنتصب بارزة في شواهد العديد من قبور شهداء حركة أمل. وقد تكتب بشطريها كاملة، أو يكتب فقط شطرها الأول. وفي الحالتين المعنى ـ القصد في قلوب الأهل وفي اعتبارات زوار المقبرة. هذا في الوقت الذي تكون فيه شعارات الشواهد على قبور شهداء المقاومة الإسلامية، محسوبة في أفق الصراع الممتد، مع عدو إسرائيلي، وليس مع عدوان حاصل في فورة تأزم سياسي طارئ، يكون فيه البادىء أظلم. فمساحات بلاطات مجمل قبور شهداء المقاومة الإسلامية، مسطورة لواحدة من الآيتين، أو لكليهما معاً: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءً عند ربهم يرزقون»، «ومن الناس رجال عاهدوا الله فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا». لا موجب أبداً للتذكير بمصائر الأخيار والأشرار، فالمعركة قائمة بين الخير والشر، ما بقي الشر.
يبقى أن المجتمعات تتراجع في وعيها الجماعي زمن الحرب. ففي هذا الزمن تتخثر هذه المجتمعات وتتصلب لتتماسك وتنتصر. وتعود كلمات «طاب الموت» و«الحرب جنّة» رائجة سيارة، إذ يسيطر اختفاء كلي لوعي الموت. فالشهيد، على ذلك، ومن باب أولي لا يخاف الموت. وهو بالتأكيد خارج القبر وفي ذاكرة جماعته. إنه دائماً في قلب الجماعة وفي نواتها، وهو بخصوصيته الفردية يمثل عمومية الجماعة. ولكن الموت يعود مرعباً عندما تنتهي الحرب، ففي فترات السلم والحياة الهادئة، تتراخى الروابط الاجتماعية، ويعود الخوف، ويظهر الموت من جديد هماً من هموم الجماعة.
روضة الشهيدين
تراكم اختلال ميزان القوى ما بين الأهالي المقيمين والوافدين من سكان الضواحي، اختناقاً مدفنياً، واستفزازاً كبيراً بين الطرفين، لم يجد نهايته الهادئة إلا بعد مواجهة غير هادئة، انتهت على خير. وانتهت معها أغلب خطوط التماس المدفنية، التي كانت قد تحددت من الحالات والتجارب السابقة.
كان حرش بيروت الذي طالما ظل مقفلاً بوجه الوافدين، حتى في النزهات الصيفية الهادئة، محط أنظارهم هذه المرة. لم يكونوا بحاجة إلى إذن لتقرير مصير هذه المساحة الخضراء. فتصدع السلطة السياسية الرسمية للدولة اللبنانية عشية أحداث 1975، كان في دورته الأخيرة. وكان التأهيل السياسي لدى الوافدين، قد زين لهم قدرتهم، لا بل أحقيتهم، في ممارسة السلطة وتحديد مصائر الحجر والشجر. بعد أن كانوا قد قطعوا، بأحزابهم السياسية الوطنية، أشواطاً في تحديد مصائر البشر.
وقد حصل أن أوقع القنص المتبادل بين عين الرمانة والشياح في أيار العام 1975، ضحيتين شابين، فلم يجدا مثوى يضمهما في مقبرة الشياح، مع معارضة أهالي الشياح دفن الضحيتين. فما كان من الأهالي الوافدين، إلا أن اقتحموا حرش بيروت، وأقاموا مدفنهم فيه، ومن هنا كانت التسمية «روضة الشهيدين». واقتحام «الحرش» وتحويله مقبرة، بدعة معروفة من قبل، فالأمر عينه حصل العام 1958، في أثناء الثورة على الرئيس كميل شمعون. يومها صادر رجال «المقاومة الشعبية» قسما من الحرش وجعلوه مقبرة لضحايا تلك الأحداث. وهو ما يعرف اليوم بمقبرة الشهداء، وهي مكرسة لأهالي بيروت ويديرها دار الإفتاء في الجمهورية اللبنانية.
ومع العام 1975، كانت مقبرة روضة الشهيدين هذه المرة، ديار «الإقامة الجديدة». وهي موقوفة للمؤسسة الشيعية الأم، أي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، بمعنى أنها ليست موقوفة لعصبية اجتماعية ضيقة، وهي بالتالي على خلاف باقي المقابر، ليست وقفاً لأهالي محلة محددة: الشياح أو برج البراجنة أو بئر حسن... يتبدى ذلك من النظرة الأولى إلى جمهور نزلائها، فهم ينتمون، بأصولهم إلى كل مناطق لبنان الشيعية، ويتوزعون على 240 حاضرة لبنانية.
ومع امتداد الحرب اللبنانية، سنوات السبعينيات ومطلع الثمانينيات، ظل نفوذ الحركة الوطنية يتصاعد ويشتد. وككل المؤسسات القائمة حينها، كانت روضة الشهيدين تعمل بتنسيق، غير متوازن، ما بين جهازها الديني اللوجستي الأعزل والضعيف، في مواجهة «الجهاز» العسكري والسياسي القوي للأحزاب الوطنية، سواء في تحديد مكان القبر، أو في تحديد كلفته، أو في الشعارات السياسية التي قد تنقش على مساحة من بلاطة القبر أو من شاهده، أعني بها شعارات الأحزاب الشيوعية أو القومية أو الوطنية، أي الأحزاب «العلمانية» في مجمل الأحوال. ولكن هذه الأحزاب ما لبثت أن وجدت نفسها عاجزة عن التعامل مع تدبيرات الموت، وعن تأمين المتوجبات والفروض الدينية المتوجبة نحو المتوفى، والتي لم يكن مشايعو الحركة الوطنية على علم أو دراية كاملة بها. ففي حالات عديدة معروفة، لم يكن يجد بعض الشهداء الشيعة من يلقنهم الشاهدة في أثناء الدفن. وفي واحدة من الحالات التي رافقتها أنا شخصيا، اضطر رجل مؤمن ممارس، أن يتجاوز حرقته ولوعته، وينزل إلى داخل القبر، ويلقن أخاه، الشهيد الماركسي، الشهادة قبل دفنه. لذا عاد أطراف الحركة الوطنية، وأولوا أعضاء من الهيئات السابقة لإدارة المدافن، مكانتهم «التاريخية» في عملية إدارة هذه المؤسسة. مع إقرارهم بأن هذه الخطوة سوف تؤدي إلى إبعادهم، كسلطة أمر واقع، عن التحكم في نواحي هذا المرفق الحيوي الحاسم.
إن اليافطات المرفوعة على مداخل روضة الشهيدين، أو ترتفع في وسط الطرق الداخلية، أو الصور من رجال السياسة على المدخل الرئيسي، والتي توصي بمواقف معينة، تنتصب هذه كلها، وكأنها تمتلك المحلة أرضاً وانتماءً سياسياً.
والرد، السياسي بالطبع، على هذه المفاخرة عبر الصور والكلام في الهيئة الخارجية لروضة الشهيدين، تأتي هذه المرة في داخل الروضة عينها. عبر المئات من الشعارات الشواهد التي تنتصب على أضرحة شهداء المقاومة الإسلامية، وهم بأغلبيتهم الكاسحة ليسوا من حصة الجهة المسؤولة عن إدارة هذا الوقف الإسلامي الشيعي. ومن بين هؤلاء، من تشغل سيرته حيزاً مفرداًًًًًًً في تاريخ المقاومة، شأن كبير شهداء حزب الله الحاج رضوان (عماد مغنية)، حيث تشكل قوافل الزوار شبه اليومية لضريحه، ظاهرة غير معهودة من قبل، في يوميات المقابر في الضاحية الجنوبية، أو في المقابر الإسلامية في لبنان بعامة. ولا يخفى هنا، وقد أضحى هذا المقام معلم مقاومة، البعد السياسي والتعبوي لهذه الجمهرة، التي تعني، في المساحة اللبنانية الواسعة، دور حزب الله في تأكيد الموقع السياسي والأهلي والاجتماعي للشيعة في لبنان. ولكنها تعني كذلك، في المساحة الضيقة لروضة الشهيدين، رداً على التوازن المفقود، ما بين الشعارات والصور المرفوعة على ضاهر المقبرة ومداخلها، وما بين ثقل الفعل السياسي في داخلها.
الموت بين الأهل نعس
مع استمرار الأوضاع العسكرية مأزومة في الجنوب، ومع استمرار النزوح الاجتماعي البارد من البقاع وبعض القرى الشيعية في جبل لبنان، راح النازحون يتخففون من محمولاتهم الريفية، ويغضون من طموحاتهم في تكرار العودة إلى قراهم الأم. فامتدت بالتالي، إقامة هؤلاء في المدينة، بلا انقطاع لسنوات، يقابله انقطاع عن بلدات منشئهم الأم لسنوات مقابلة. وهذا ما أعطى هؤلاء «جنسية» المدينة حيث يقيمون، حتى باتوا، أو بتعبير أدق، حتى باتت الأجيال التالية من النازحين، غير تواقة للعودة إلى البلدات الأم، والتي لا يعرفون منها، أو عنها، سوى الإسم والموقع وحسب.
وهذا الشعور بالاستقرار في الضاحية، يفسر مواصلة دفن موتى النازحين في مقابر الضاحية الجنوبية، مع انتفاء الدافع الأمني لذلك. فالضواحي في بيروت لم تعد، بالنسبة إليهم، دار استراحة بين نزوحين، أو بين تهجير وهجرة. وها هم، مع مواراة موتاهم الثرى في تراب الضاحية الجنوبية، يتصلون ذاكرة وروابط عاطفية بأرض إقامتهم الجديدة. ويكتسبون، «أرض أجداد» جديدة، عليها السلام، بدل أرض أجدادهم السابقة في القرى الأم، في الجنوب وفي البقاع وفي بلاد جبيل.
والجدير بالإشارة هنا، هو أن توزع قبور الموتى من النازحين الجنوبيين والبقاعيين في مقابر الضاحية الجنوبية، ظل «عشوائيا»، فالميت يدفن حيث وصل حد الدفن في المقبرة. لذلك راحت القبور الأولى للأقارب والعائلات أو أبناء البلدة الواحدة، ، تبدو موزعة في أماكن متباعدة من أي مقبرة، ودون أن تكون منتظمة في «سلك» داخلي جامع. ولكن القبور الأكثر حداثة، أي منذ بداية التسعينيات، راحت تتجمع في تقارب عائلي أو بلدي أو جهوي، وبخاصة في مقبرة الشهيدين.
إن عدم وضوح الاصطفاف العائلي لدى النازحين الجنوبيين والبقاعيين لا يتأتى من إهمال هذه الناحية من قبلهم، وإنما يعود لأن جمهور الأموات من عائلة واحدة، لم يتكاثر ويكتمل، ليشكل حيزاً مستقلاً. وهذا ما لا يغطي موتى قضاء جبيل، وتحديداً موتى قرى الحصون وعلمات ولاسا وأفقا، حيث كانت الإقامة في المدينة عند أهالي هذه القرى، أكثر رسوخاً وعمقاً من إقامة النزوح الجنوبي أو البقاعي. لذلك راح أموات قرى قضاء جبيل، يتجاورون في أضرحتهم، أسراً أسراً وعائلات عائلات، وقرية قرية.
لقد كانت هذه العائلات، ونعني اللبنانية من بينها، قد تشربت الإقامة في بيروت إقامة مصير نهائي، وكانت الأسبق في استثمار روضة الشهيدين، بتحديدها سلفاً حوزات ومدافن خاصة بأفراد منها حال وفاتهم. لذلك تطالعك قريباً من مصلى هذه الروضة مساحات مسيجة، فارغة من القبور في جزء كبير منها، مخصصة لعائلات جبيلية صرف: المقداد وعلي أحمد وعواد وأبي حيدر. شأنهم في ذلك، شأن بعض عائلات الضاحية المقيمين، الذين كانوا قد باشروا هذه المهمة في روضة الشهيدين، كما كانوا عليها في مقابر أحيائهم الأم.
الشواهد شواهد
لقد سبق أن حل النازحون في منازحهم الجديدة، في هيئة من الدونية في أعين السكان الأصليين. حتى باتت كلمة قبلاوي (أي جنوبي)، مذمة واضحة ومطعناً في تناول الوافدين. وبات تعبير « لون متوالي» مثلاً، كذلك مذمة تنال من أذواق الوافدين وثقافتهم. ولكن العناصر الوافدة التي استقرت في الضاحية الجنوبية، بعد «حرب السنتين» (1975-1976)، صارت على غير هيئة أهاليهم من الأجيال السابقة الأولى، الذين وفدوا إلى بيروت وضواحيها لسنوات كثيرة خلت. والذين كانوا على هيئة مكسورة من الحضور والطموح. خرجت الأجيال اللاحقة من الواقع البائس، إلى الطموحات بالسياسة وبالقيادة.
إن هيئة القبر وشواهده، هي المكان الأخير والثابت، الذي يستطيع من خلاله النازح الشيعي إلى أحياء العاصمة، ومنها ضواحيها بالطبع، الإطلالة على سكان المدينة من موقع الغنى والنديّة، اللتين يمسح بهما ما علق به من أدران أوضاعه السابقة، من بؤس وعوز. فهذه الهيئة هي لوحة الجلاء الناصعة، التي تعلّق على صخور الأضرحة ورخامها، وفيها إعلان عن خلوص وبراءة من دونية اجتماعية وثقافية سابقة. لا بل أننا نستطيع أن نشتم منها كذلك، إعلان مباهاة، وإعلان تجاوز وتفوق من قبل الوافدين، على جيرانهم وأقرانهم المقيمين بالأصل.
إن شؤون القبر كلها، من مواد بناء ومن حجم الضريح، ومن الكتابات والتوصيفات المكتوبة عليه، تتحد كلها في إعطاء موقف موحد. فما قد يطفو على الضريح، ويعتبر في الظاهر من تقديمات الأهل ووفائهم في تكريم فقيدهم، يحمل بالتأكيد جانباً آخر من تصدير مواقف باتجاه الآخرين، وتمثل تلاوين وشقوقاً عصبية أو اجتماعية، يتم تظهيرها أو الالتفاف عليها. فتفخيم القبر، هو تفخيم للبدايات الجديدة في إقامة النازحين، وفي مباشرة حياتهم المدينية الراهنة. فالقبر هو ورقة اعتماد تقدم إلى المحلة المذكورة، إذ يغدو حسباً ونسباً في الانتساب والإقامة الجديدة. سيما وأن الوافد لا يتعامل مع محلته الجديدة من تاريخ قديم، وإنما يطل عليها ويتعامل من تاريخ راهن ، ينسجه بمحددات يقدرها بمعايير ذاتية صرف. فالوافدون يطردون ما علق بإقامتهم السابقة من أدران. فهم يكتبون، راهناً، تاريخهم المديني الخاص. إنهم أبناء مواقفهم في الحرب، وأبناء صمودهم في معاركها، وأبناء خطوط التماس وصمودهم فيها، فهل يحتاجون، من بعد، إلى غير بدايات وأصول. ونسجل هنا، تمايز مقبرة روضة الشهيدين على غيرها من مقابر الضاحية، في كبر أحجام القبور فيها، وفي ارتفاع كلفة تشييدها. ونسجل في المجال عينه، تـمايز القبور العائدة للموتى من أهالي القرى السبع ، وتحديدا بلدة هونين، وهو ما تدلنا عليه أية نظرة عجلى إلى مقبرة بئر حسن.
لم يصرعوا بالردى لكنهم رقدوا
أعطت الحرب في لبنان، المقابر في الضاحية الجنوبية، هيئة وتشكيلاً خاصّين. فقد صارت نوازع الموتى وصداقاتهم وعداواتهم وانتماءاتهم السياسية والاجتماعية، جزءاً أساساً من رصيد المقبرة، من خارجها ومن الداخل. وهذا ما جعل من المقابر مؤسسات ناطقة متحركة، مع جمودها وصمتها. وعلينا أن نصدقها فيما تدلنا وتقودنا إليه.
كان لا بد في الحروب اللبنانية، الباردة أو الساخنة، أن تكون المقبرة خط تماس بين النوازع والعصبيات، فتغدو بذلك هدفاً يتعاوره للجميع. ويعود الموتى ويستوون، من جديد، في صلب منصات الأحياء ومواقفهم وأفعالهم. فيجوز على الموتى بالتالي، ما يجوز على الأحياء، من مواجهات ورفع حصانات وخلع وطعن ببراءات. فتسقط، من بعد، لدى جماعة الأحياء، ما تردده هذه الجماعة، وبالفم الملآن، في لحظات براءة الوجدان الإنساني وسكونه: «الطعن بالميت حرام».
إن الأمثولة الاجتماعية المتداولة، تجعل من صمت المقابر مضرب المثل في عمق السكون. مما يعني أن المقابر في الترسيمة نفسها، مجال صامت محايد عصي على التأطير والانتساب إلى جماعة أو إلى تيار سياسي. هي محميات دينية اجتماعية خالصة، مراكز راحة أبدية وحسب، لا يأخذ بها انتهاز أو ضغينة أو غرضية. ولكن الاجتماع البشري يسارع ويقطع المقابر عن صمتها وحيادها، ويجعل منها قوة متحركة لها موقعها ودورها في التعارك الدائر في ثنايا ذلك الاجتماع. سيما وأنه اجتماع حربي مأزوم وفائر، مع ديمومة الاحتراب في داخله أو من حوله.
لقد جعلت حروب الحياة الدنيا، القائمة من زمن في لبنان، من «حروب» المقابر، وكأنها حروب هامشية هشة رخوة. النصر فيها، وكذلك الهزيمة، يقطعان، «احتراما» للموتى، ويجوزان بلا هياط ومياط أو ضجة وعياط !
منذر محمود جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد